ترجمة وتحرير نون بوست
إذا نجح المتطوعون في تحقيق هدفهم، سيصابون قريبًا بفيروس كوفيد-19 بشكل متعمد. هؤلاء المتطوعون من الشباب الذي يتمتعون بصحة جيدة، ويريدون من العلماء إعطاءهم لقاحًا مرشحًا ثم تعريضهم عمدًا للفيروس، لمعرفة مدى فاعلية اللقاح في أقصر وقت ممكن.
علميا، يسمى ذلك “تجربة تعرض البشر للفيروس”، وهي مثيرة للجدل لأسباب وجيهة، فمن المحتمل أن يمرض المتطوع أو يفارق الحياة. لكن مؤيدي هذه التجارب يجادلون بأنها قد تساعد على تسريع عملية تطوير اللقاح. في حال تمكنّا من تطوير لقاح فعال بشكل أسرع قليلاً، فقد يعني ذلك إنقاذ حياة آلاف الناس.
ربما من المرجح أنك سمعت بالأخبار السارة الأخيرة التي تفيد أن شركة فايزر ابتكرت لقاحا فعالا بنسبة 90 بالمئة، في حين أكدت شركة مودرنا أن لقاحها فعال بنسبة 95 بالمئة تقريبًا. تم تطوير هذه اللقاحات من خلال التجارب السريرية التقليدية، وليس “تجارب تعرض البشر للفيروس”.
الفرق بين التجربتين، هو أن التجربة التقليدية تقوم على تلقيح الأشخاص ثم انتظار بضعة أشهر لمعرفة ما إذا كانوا قد أصيبوا بالعدوى أثناء ممارسة حياتهم الطبيعية. في المقابل، تختصر تجربة “التعرض للفيروس” فترة الانتظار والمراقبة بأكملها عن طريق تطعيم الأشخاص وتعريضهم للفيروس على الفور ومعرفة مدى فعالية اللقاح في حمايتهم من المرض. تساعد هذه التجارب على التوصل إلى نتائج سريعة ومفيدة لأن العلماء يمكنهم التحكم في جميع الظروف. يعرف العلماء بالضبط طبيعة المتطوع وسيتحكمون في جرعة نقل العدوى ويراقبون استجابة نظام المناعة يومًا بعد يوم.
في شهر كانون الثاني/ يناير، من المقرر أن تبدأ تجربة تعرّض البشر للفيروس في لندن، إذا حصلت على الموافقة الأخلاقية النهائية. أجرى العلماء مثل هذه التجارب في الماضي على الإنفلونزا والملاريا والتيفوئيد وحمى الضنك والكوليرا، لكن ستكون التجربة الحالية الأولى بالنسبة لكوفيد-19. ستقوم شركة “أوبن أورفان” بالتعاون مع شركة فرعية تابعة لها وهي “إتش فيفو”، بإجراء الدراسة. لن يُسمح إلا للمتطوعين الأصحاء الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة بالمشاركة. ولن تكون هذه التجارب بديلا للتجارب السريرية التقليدية، حيث سيواصل العلماء القيام بأنواع التجارب المختلفة.
سيتم وضع المتطوعين في منشأة منفصلة لأكثر من أسبوعين لتجنب نشر العدوى لأي شخص آخر
يطالب الكثير من الشباب بالمشاركة في تجربة التعرض للفيروس. جمعت مجموعة “وان داي سونر” أسماء ما يقارب عن 39 ألف شخص في 166 دولة أعربوا عن اهتمامهم بالتطوع للمشاركة في هذه التجارب. في يوليو/ تموز، أرسلت المجموعة رسالة مفتوحة إلى فرانسيس كولينز، مدير معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، تدعو فيها إلى إجراء تجارب على البشر في الولايات المتحدة. وقّع على الرسالة أكثر من 30 من الحائزين على جائزة نوبل والعديد من الفلاسفة وعلماء النفس البارزين، بما في ذلك بيتر سينغر وستيفن بينكر وريبيكا غولدشتاين.
جاء في الرسالة: “إذا كانت تجارب التعرض للفيروس قادرة على تسريع عملية تطوير اللقاح بشكل آمن وفعال، فهناك إجماع كبير على استخدامها، وهو الأمر الذي يتطلب مبررًا أخلاقيًا مقنعًا للغاية”. إلى الآن، لم تسمح الولايات المتحدة بإجراء مثل هذه التجربة، لكن المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية يقوم بتجهيز السلالات الفيروسية التي ستكون ضرورية إذا حصلت هذه التجربة على الموافقة الرسمية. في بلجيكا، خصصت الحكومة 23.6 مليون دولار لبناء منشآت لاستضافة مثل هذه التجارب بما في ذلك تلك التي تتعلق بكوفيد-19.
ستبدأ التجربة في المملكة المتحدة بمرحلة أولية لا تتعلق باختبار اللقاحات على الإطلاق، بل تتطلب الإجابة على سؤال تمهيدي أساسي لاختبار اللقاحات لاحقًا، وهو ما هي جرعة الفيروس الذي يحتاج الشخص إلى التعرض لها من أجل انتقال العدوى؟
بداية من شهر كانون الثاني/ يناير، سيعرّض العلماء مجموعة صغيرة من المتطوعين غير المحصنين (ما بين 50 و90 شخصًا) لجرعة منخفضة جدًا من الفيروس، ويزيدون الجرعة تدريجيًا حتى يصلوا للجرعة الكافية لنقل العدوى لمعظم المشاركين، على أن لا تكون جرعة تعرضهم لخطر شديد. سيتم حقن كل المشاركين بالفيروس، وستدفع لهم أموال مقابل ذلك.
سيتم وضع المتطوعين في منشأة منفصلة لأكثر من أسبوعين لتجنب نشر العدوى لأي شخص آخر، وليستطيع الأطباء مراقبتهم على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع ومنحهم الرعاية الضرورية – بما في ذلك تناول عقار ريمديسفير المضاد للفيروسات – بمجرد ظهور أعراض المرض.
تشبه معضلة التعرض للفيروس إلى حد ما معضلة العربة. نحن نتحدث عن احتمال التضحية بعدد قليل من المتطوعين الأصحاء من أجل إنقاذ حياة عدة آلاف من الأشخاص الآخرين
بعد انتهاء هذه المرحلة الأولية في الربيع، ستقوم الشركة (إذا حصلت على الموافقة) بحقن المتطوعين بلقاحات مرشحة لدراسة فعاليتها. في تلك المرحلة، ستكون هناك مجموعة للمراقبة. في هذا السياق، يوضح أندرو كاتشبول، كبير العلماء في “أوبن أورفان”، والمشرف على الدراسة: “سيحصل نصف المتطوعين على لقاح، وسيحصل نصفهم الآخر على لقاح وهمي، وسيتعرضون جميعًا للفيروس”.
لأنه لا يوجد علاج موثوق به لكوفيد-19 حاليا، يقول البعض إنه من غير الأخلاقي حقن أشخاص أصحاء بفيروس يمكن أن يتسبب في وفاتهم أو إصابتهم بمشكل صحي طويل الأمد. من هذا المنطلق، دعونا نحلل المسألة لنفهم مدى مشروعية إجراء هذه التجارب من منظور أخلاقي.
هل يستطيع المتطوعون حقًا منح موافقة واعية؟
تُعرف إحدى أشهر التجارب في الفلسفة بمعضلة العربة، حيث يُطرح السؤال عن مشروعية اتخاذ قرار بتحويل مسار عربة مسرعة لتقتل شخصًا واحدًا وتتمكن من إنقاذ حياة خمسة أشخاص آخرين؟ عادة ما يؤيد “العواقبيون” أو “النفعيون” هذا المبدأ، لأنهم يعتقدون أن القرار يحقق الفائدة القصوى الممكنة، وفي نهاية المطاف، تعد النتيجة الأخيرة هي الأهم. في المقابل، يرفض علماء الأخلاق هذه الفلسفة، لأن من واجبك عدم قتل أي شخص كوسيلة لتحقيق غاية أخرى، وعليك فقط القيام بواجبك مهما حدث.
في الواقع، تشبه معضلة التعرض للفيروس إلى حد ما معضلة العربة. نحن نتحدث عن احتمال التضحية بعدد قليل من المتطوعين الأصحاء من أجل إنقاذ حياة عدة آلاف من الأشخاص الآخرين. مرة أخرى، من المحتمل أن يقول أصحاب المذهب النفعي إننا يجب أن نمضي قدمًا في التجارب بسبب نتائجها الإيجابية المحتملة. لكن الأخلاقيين يقولون إنه من واجبنا عدم إصابة شخص سليم بمرض يهدد حياته، دون أن يكون هناك علاج مناسب. في المقابل، هناك فرق جوهري بين المعضلتين: الأشخاص الذين يتعرضون للدهس في معضلة العربة لم يوافقوا على مواجهة هذا المصير، لكن المتطوعين في تجربة التعرض للفيروس موافقون على مواجهة مصيرهم.. لكن هل هم بالفعل موافقون؟
تشير البيانات المأخوذة من دراسات سابقة إلى وجود فجوة بين فهم المخاطر الصحية على المستوى الفكري وتقديرها عاطفيا
تقول عالمة الفيروسات بجامعة كولومبيا، أنجيلا راسموسن في هذا السياق: “لست مقتنعة بأنه يمكننا الحصول على موافقة واعية من المتطوعين نظرا لأننا مازلنا نكتشف الآثار الناجمة عن فيروس كوفيد-19”. وتوضح راسموسن أن بعض آثار المرض لدى 10 بالمئة على الأقل من المصابين بكوفيد-19، على غرار ضباب الدماغ وتليّف الرئة وأمراض القلب، قد تستمر لأشهر. لم يتمكّن العلماء حتى الآن من فهم كل عوامل الخطر المرتبطة بفيروس كورونا على المدى الطويل، ولا يمكنهم التنبؤ بالمدة تستغرقها هذه المخاطر.
يجادل البعض بأن هذا الأمر ليس مشكلا، إذ يمكن للباحثين المشرفين على التجربة أن يُعلموا المتطوعين أن هناك الكثير من التفاصيل غير الواضحة بشأن كوفيد-19، وأنهم قد يعرّضون أنفسهم للإصابة بمشكل صحي طويلة الأمد، وقد لا يمانع المتطوعين في خوض التجربة حتى إذا علموا بذلك.
لكن راسموسن لا تبدو مقتنعة بهذا الأمر: “سيرفض المتطوعون ذلك. ولا أعتقد أنه من الممكن تفسير خطورة الوضع بمجرد القول إن الأمور غير واضحة تماما”. تنبع قناعتها هذه من تجربتها الشخصية. ففي سنة 2014، كانت راسموسن عضوا في هيئة لدراسة متلازمة التعب المزمن، تابعة لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، لكنها تؤكد أنها لم تستوعب تماما طبيعة المعاناة التي يسببها المرض، إلا عندما قابلت أشخاصا يعانون فعلا من هذه الحالة.
تضيف راسموسن: “الشعور بأنك غير قادر على النهوض من السرير وأن الأطباء لا يصدقونك وأنك مضطر إلى تغيير أسلوب حياتك تماما، شيء لا يمكنك أن يدركه متطوع يقرأ وثيقة موافقة واعية”. على الأرجح، لن يستوعب المتطوعون في تجربة التعرض للفيروس، وهم شباب لم يعانوا من أي مرض مزمن من قبل، ما يعنيه تعريض أنفسهم لخطر الآثار طويلة المدى لكوفيد-19.
تشير البيانات المأخوذة من دراسات سابقة إلى وجود فجوة بين فهم المخاطر الصحية على المستوى الفكري وتقديرها عاطفيا. ومع ذلك، تؤكد الفيلسوفة الفائزة بمنحة ماك آرثر، ريبيكا غولدشتاين، إن التوقيع على رسالة “وان داي سونر” لدعم تجارب تعرض البشر للفيروس “لا يحتاج إلى تفكير مليّ” بالنسبة لها.
تقول غولدشتاين في هذا السياق: “لدي ثقة في قدرة المتطوعين على فهم العواقب المترتّبة على هذه التجربة، وفي إحساس بعض الناس الكبير بالمسؤولية تجاه الآخرين. قد يكون من الصعب أن نتخيل أن هناك أشخاصا لديهم مثل هذه القدرة على الإيثار، وقد نعتقد أنهم لا يفهمون حقيقة الضرر الذي قد يصيبهم أيضا، لكنني أعتقد أن هؤلاء الأشخاص موجودون فعلا”.
ينبع أسلوب تفكير غولدشتاين كذلك من تجربتها الشخصية وبالتحديد من التجربة التي خاضتها عائلتها اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، وأوضحت قائلة: “أنا موجودة اليوم فقط لأن بعض أسلافي المجريين كانوا مختبئين لدى أشخاص خاطروا بحياتهم، وكانوا يعلمون تماما ما سيحدث لهم إذا تم القبض عليهم، لكنّهم وافقوا على مساعدتهم رغم ذلك. وبالنسبة لي، ما يحصل اليوم شبيه بما حصل حينها”.
وترى غولدشتاين أن طريقة تفكير راسموسن سيكون لها عواقب لا يمكننا التعايش معها كمجتمع: “نسمح للناس بالتطوع في الجيش، وأن يصبحوا رجال شرطة أو رجال إطفاء، فلماذا يختلف هذا الأمر عن غيره؟ هؤلاء المتطوّعون شباب ويشعرون بأنهم محصّنون ضدّ الخطر. وإلى جانب ذلك، نحن بحاجة إليهم”.
هل تقديم مقابل مالي للمتطوعين يعتبر استغلالا؟
هناك عامل معقد آخر هنا، وهو المال. ففي حال عُرض على المتطوعين مبلغ مالي مقابل المشاركة، قد يمثّل ذلك حافزا للأشخاص ذوي الدخل المنخفض للمشاركة في تجربة من شأنها أن تضر بصحتهم، وهذا يعتبر استغلالا.
إذا لم يتم تعويض الناس مقابل وقتهم، فحينها سيتم استغلالهم
سيتلقى المتطوعون في تجربة المملكة المتحدة مقابلا ماليا، لم تحدّد قيمته بعد، وسيقرر مجلس المراجعة الأخلاقية كيفية تعويضهم. يُتوقّع أن تدفع “أوبن أورفن” للمتطوعين حوالي 5 آلاف دولار للمشاركة في التجربة التي تفرض عليهم البقاء لأكثر من أسبوعين في الحجر الصحي، بالإضافة إلى القيام بفحوص للمتابعة لمدة سنة كاملة.
تقول راسموسن: “في الوقت الذي ترتفع فيه معدّلات البطالة بشكل سريع، سيكون من المغري لبعض الناس جني بضعة آلاف من الدولارات من خلال الموافقة على المشاركة في دراسة من هذا القبيل”. تشاطرها غولدشتاين هذا القلق، حيث تقول: “في الحقيقة، أنا متوترة قليلا بهذا الشأن، يبدو لي أن هذا يفسد الحافز الحقيقي”. في المقابل، تؤكد سيما شاه، أخصائية أخلاقيات علم الأحياء في مستشفى لوري للأطفال في شيكاغو وجامعة نورث وسترن، إنه يجب علينا التفكير في الجانب الآخر، “لأنه إذا لم يتم تعويض الناس مقابل وقتهم، فحينها سيتم استغلالهم”.
تقترح شاه أن يكون الحل هو تعويض المشاركين عن رحلة الذهاب والعودة وتعويضهم عن وقتهم الضائع. على وجه التحديد، يجب أن يحصلوا على أجور تعادل ما يمكن أن يتقاضوه مقابل قيامهم بأي نوع آخر من الوظائف التي لا تتطلّب أي مهارات. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتلقى المشاركون رعاية طبية مجانية، تشمل أي آثار طويلة المدى قد تنجم عن مشاركتهم في الدراسة.
يتماشى هذا الوضع مع نموذج دفع الأجور الذي حددته منذ سنوات خبيرة الأخلاقيات الحيوية، الممرضة كريستين غرادي. في الآونة الأخيرة، قدّم عدد من علماء الأخلاقيات الحيوية تقريرا يشرح كيفية تقديم التعويضات والمكافآت بشكل أخلاقي بالنسبة لتجارب التعرض لفيروس كوفيد-19 على وجه التحديد.
يشير التقرير إلى أن “الإغراءات المبالغ بها لا تمثل مشكلة كبيرة بناء على الأدلة المتاحة”. وعموما، هذا هو الانطباع الذي يتركه المتطوعون المحتملون خلال المقابلات، إذ يبدو أن الدافع بالنسبة للعديد منهم ليس الحاجة للمال، بل الإيثار.
تدلّ كلمات دانيكا ماركوس، المتطوعة المرتقبة البالغة من العمر 22 سنة، على منطق سليم، حيث قالت لوكالة أسوشيتد برس: “يكافح الكثير من الناس اليوم للنجاة، وكلّ ما أريده هو أن ينتهي هذا الوباء. لا تزال أعداد الإصابات في تزايد كلّ يوم، ويموت المزيد من الناس. وإذا كانت هذه التجربة قادرة على إنهاء هذه الفترة الحرجة التي يمرّ بها العالم بأسره، فأنا أريد المساعدة وأرغب أن أكون جزءا منها”.
يؤكد كاتشبول أنه “ذهل تماما” من أعداد الشباب الراغبين في التطوع، ويقول: “لقد تلقينا أكثر من 40 ألف طلب في غضون أسبوع، مما تسبّب في توقّف موقعنا الإلكتروني وهواتفنا. نلاحظ نسبة عالية من المتطوعين الذين يريدون المشاركة من أجل مساعدة الآخرين”.
إلى أي مدى يمكن أن تساعدنا تجارب التعرض البشري للفيروس من وجهة نظر علميّة؟
في البداية، دعا أنصار هذا النهج إلى إجراء هذه التجارب على أساس أنها ستساعد في تسريع عملية اكتشاف لقاح كوفيد-19. ولكن يبدو الآن أنها لن تدخل مرحلتها الأولية حتى شهر كانون الثاني/ يناير، ولن تبدأ عملية اختبار اللقاحات الفعلية حتى الربيع، وهذا الوضع لا يوفر لنا الوقت حقًا.
بحلول شهر كانون الثاني/ يناير، قد يكون بحوزتنا ترخيص الاستخدام الطارئ للقاح قد خضع للتجارب السريرية، مثل لقاحيّ فايزر وموديرنا. ويعود السبب وراء تمكن هذه التجارب من الحصول على نتائج سريعة إلى الفشل التام للعديد من البلدان في السيطرة على كوفيد-19. وبالنظر إلى انتشاره الواسع بين المجتمعات، لا شك أن الفيروس أصاب عددًا كافيًا من الأشخاص الذين تطوعوا لتجارب فايزر وموديرنا، ما أتاح للعلماء الحصول على البيانات التي يحتاجونها.
على هذا النحو، تغيّرت طبيعة مبررات إجراء تجارب التعريض البشري للفيروس. فعلى الرغم من أن تلك الدراسات لن تساهم في تسريع جهود التوصل لأول لقاح لفيروس كوفيد-19، كما يقول أنصارها، إلا أنها قد تسرّع تطوير لقاحات أكثر فاعلية من الجيل الثاني. ونادرًا ما يكون أولى اللقاحات أفضلها على كل حال، ومن المحتمل أن يتم طرح عدة لقاحات مختلفة في السوق في السنوات القليلة المقبلة.
حسب شاه، المتخصصة في الأخلاقيات البيولوجية: “بالنسبة لي، يكمن السؤال الأهم فيما إذا كان الخطر الذي ينطوي على إجراء تجربة من هذا النوع منخفضًا بما يكفي وله قيمة تبرره. وأعتقد أننا قد وصلنا لمرحلة تفرض علينا تخطي حدود ما كان مقبولًا مسبقًا في أنواع أخرى من الأبحاث”.
لاشك أن توصلنا إلى لقاح من الجيل الثاني بشكل أسرع يكتسي أهمية كبيرة. وتضيف شاه: “بشكل عام، من أجل خفض تكلفة أي دواء أو تدخل طبي، هناك حاجة لتوفير أربع إصدارات أخرى منه في السوق على الأقل. وإذا أخذنا بعين الاعتبار محاولة إيصال اللقاح إلى البلدان التي ستكون في أمس الحاجة إليه، لكنها غير قادرة على دفع ثمنه الباهظ، فلك أن تتخيل الحاجة الحقيقية لتطوير لقاحات أرخص ثمنا لها”.
علاوة على ذلك، يمكن أن توفر تجارب التعريض البشري للفيروس معلومات قيمة للعلماء حول كيفية نشأة المرض، على سبيل المثال، أو حول الاستجابات المناعية التي تظهر لدى الأشخاص الملقّحين عند تعرضهم للفيروس. وتعتقد عالمة الفيروسات أنجيلا راسموسن أن تلك المعلومات قد تكون مفيدة، لكنها تنكر أي حاجة ماسة إليها؛ حيث بالإمكان تأجيل هذا النوع من التجارب لحين حصولنا على لقاح فاعليته مبثتة باستخدام تجربة سريرية عادية، وعلاج إنقاذي أفضل.
وفقا لراسموسن، إن الافتقار إلى تنوع المشاركين في تجارب التعريض من شأنه أن يحد من فائدتها العلمية، مشيرة إلى أنه “يجب إجراء هذه التجارب على الشباب الأصحاء – ولا بأس بذلك – إلا أن هذا الأمر لن يساعدنا حقًا في فهم كيفية عمل اللقاح مع الناس الذين هم في حاجة إليه”، أي كبار السن، والأفراد الذين يعانون من نقص المناعة، وأولئك الذين يعانون من حالة صحية هشة.
الأبحاث العلمية أظهرت أن بعض الأشخاص حقًا إيثاريون مفرطون، ويقومون بأعمال نبيلة بشكل لافت
لكن ذلك لا يعني أن هذا النوع من التجارب لن يكون مفيدا للفئات الضعيفة من السكان. بعبارة أخرى، إن كان لدينا لقاح ناجح مع الشباب الأصحاء، فقد لا يكون له التأثير ذاته مع كبار السن لأن المناعة لديهم لا تعمل بصورة مماثلة، إلا أنه قد يكون فعالا إلى حد ما.
وفقًا لكاتشبول فإن “التخلص من لقاح لا أمل في نجاحه لا يقل أهمية عن ضرورة الترويج للقاح فرص نجاحه كبيرة. وإذا تمكنا من استخدام نموذج تجارب التعريض البشري مع السكان الأصغر سنًا لمعرفة اللقاحات عديمة الفاعلية، فإنه يمكننا الحصول على نتائج سريعة جدًا وإعطاء الأولوية للقاح المرشح التالي”.
ما موقفنا من كل ذلك؟ أشارت شاه إلى أنه لم يتضح حاليا تماما ما إن كانت قيمة تجارب التعريض البشري لفيروس كوفيد-19 تبرر المجازفة بمخاطرها، موضحة: “أنا سعيدة لأنني لست من بين الذين عليهم اتخاذ هذا القرار، لأنني صراحة أجد أنه من الصعب تبريرها. وهناك مجال لتباين الآراء بين العقلاء”.
يشكك العديد من الناس في الإيثار المفرط الذي يتسم به المتطوعون، لماذا؟
إن الخوض في هذا الجدل الكبير يثير سؤالا جوهريًا عن الطبيعة البشرية: هل الإيثار الحقيقي ممكن؟
يشكك بعض الناس بشدة في مبدأ الإيثار. ولكن الخطاب المفتوح الذي أصدرته مجموعة “وان داي سونير” هذا الصيف يتضمن فقرة تُفند هذه الشكوك، ورد فيها ما يلي: “أظهرت عقود من البحث النفسي حول السلوكيات الإيثارية للغاية أن نسبةً كبيرة، وعلى الأرجح متزايدة، من عامة السكان على استعداد للتعرض إلى مخاطر حقيقية تعود بالفائدة على الآخرين بدافع الإيثار الحقيقي، وليس استخفافًا بالمخاطر، أو بسبب أمراض نفسية، أو لدوافع أخلاقية أخرى”.
يمكن أن نستنتج أن القلق الضمني بشأن تشكيك الناس في دوافع شخص متطوع لتعريض نفسه لكوفيد-19، قائم على افتراض أنه لا بد من أن هؤلاء المتطوعين غير عقلانيين أو لا يستوعبون المخاطر. وهذا التشكيك في مبدأ الإيثار ليس جديدًا، إذ سبق أن عبّر عدد من الفلاسفة والاقتصاديين عن شكوكهم تجاه الأشخاص الذي أبدوا استعدادهم للمجازفة بأنفسهم من أجل مساعدة أناس غرباء عنهم.
جادل ستيفن بينكر وبيتر سينجر بأن هذه الظاهرة أكثر انتشارًا مما نعتقد، ولا تقتصر على الأشخاص الذين لديهم استعداد بيولوجي للإيثار الشديد
يمكن ملاحظة ذلك، على سبيل المثال، في مقال نُشر في سنة 1982 بعنوان “القديسون الأخلاقيون” بقلم الفيلسوفة سوزان وولف، التي أشارت إلى أننا لا نميل إلى حب الأشخاص الذي يفرطون في إظهار الإيثار (وتستخدم في وصفهم عبارات مثل “متعصب أخلاقي” و”فاعل خير بشكل مثير للاشمئزاز”) وتقول حيال ذلك “يبدو أن هناك حدًا لمدى الأخلاقيات التي يمكننا تحملها”.
في السنوات الأخيرة، حاول عالم النفس في جامعة ستانفورد بينوا مونين توضيح تأثير يسمى “التقليل من شأن فاعل الخير“، أظهر من خلاله أننا نشعر بودٍّ أقل تجاه الأشخاص الذين يتسمون بالإيثار المفرط. وقد يكون سبب ذلك كونهم يرغموننا على الخوض في صراع أخلاقي حول سلوكياتنا الشخصية.
أجرت عالمة الأعصاب مولي كروكيت بجامعة ييل دراسات لتحديد ما إذا كان الناس يفضلون متبعي مبدأ العواقبية أو الأخلاق الواجبة. للوصول إلى نتيجة، عرضت على المشاركين معضلة العربة الكلاسيكية والطرق المختلفة للإجابة عنها. وقد وجدت أنه عندما يبحث الناس عن صديق أو شريك، فإنهم يفضلون متبعي الأخلاق الواجبة بشدة لأنهم أكثر أخلاقية وجديرون بالثقة. في المقابل، يشكك الناس في العواقبية. ومن المحتمل أن ذلك الشك قد امتد الآن ليشمل الإيثاريين المتطرفين الذين قاموا بتسجيل أنفسهم للتعرض لفيروس كورونا.
لكن الأبحاث العلمية أظهرت أن بعض الأشخاص حقًا إيثاريون مفرطون، ويقومون بأعمال نبيلة بشكل لافت نابعة من الرغبة الحقيقية في مساعدة الآخرين. كما أظهر علماء الأعصاب مثل أبيغيل مارش أن الإيثاريين المفرطين قد يكون لديهم بالفعل اختلافات عصبية تجعلهم عرضة لمثل هذا السلوك الاستثنائي، أحدها امتلاكهم للوزة دماغية أكبر من المعتاد.
جادل ستيفن بينكر وبيتر سينجر بأن هذه الظاهرة أكثر انتشارًا مما نعتقد، ولا تقتصر على الأشخاص الذين لديهم استعداد بيولوجي للإيثار الشديد. وقد أكدوا أن سمة الإيثار تزداد لدى الناس في كل أنحاء الأرض بشكل عام. فمع تنامي مستويات الثراء في المجتمعات، وانتشار العولمة، تتوسع دائرة اهتمامنا الأخلاقي لتشمل غرباء بعيدين عنا. ومن هنا جاء السطر الوارد في الخطاب المفتوح الذي أكّد أن “نسبةً كبيرة، وعلى الأرجح متزايدة، من عامة السكان على استعداد للتعرض إلى مخاطر حقيقية تعود بفائدة على الآخرين”.
الموقع: فوكس