في الرابع من يناير 2010 فرض اسم شركة “ارابتك” (ARABTEC) القابضة، نفسه على موائد الأضواء والشهرة، كأحد الشركات المساهمة في بناء “برج خليفة” أطول برج في العالم آنذاك، ليُكلل جهود الشركة على مدار عقود طويلة من النجاح والتميز والمشروعات التي يشار لها بالبنان.
وبعد مايقرب من 45 عامًا من نشأة الشركة شهدت خلالها سنوات من التألق والإبداع جعلها محط أنظار شريحة واسعة من رجال الأعمال والمستثمرين العرب والأجانب على حد سواء، هاهو العملاق الإماراتي ينهار بسرعة البرق، في مشهد صادم للكثير من المهتمين بالسوق العقاري، ليس في الإمارات وحدها، بل في المنطقة بأسرها لما تتقاطع فيه من علاقات استثمارية مع الشركة.
في الثاني من ديسمبر الجاري أعلنت الشركة أنها ستتقدم بطلب للمحكمة المختصة لإعلان إفلاسها وتصفيتها، بعد مشاورات مكثفة مع أعضاء الجمعية العمومية والشركاء، وذلك بعد موجات الخسائر المتتالية التي تعرضت لها خلال الآونة الأخيرة، حيث سجلت خلال الأشهر الست الأولى من هذا العام 2020 خسائر قدرها 794 مليون درهم (216.3 مليون دولار) ليصل إجمالي خسائرها المتراكمة إلى 1.45 مليار درهم، ما يشكل 97.2% من رأسمالها البالغ 1.5 مليار درهم.
ومن المتوقع أن يطيح قرار تصفية الشركة التي ساهت في بناء بعض أكثر المعالم شهرة في الدولة الخليجية مثل متحف اللوفر في أبو ظبي وبرج خليفة، والجناح الإماراتي في موقع معرض إكسبو 2020، بأكثر من 45 ألف موظف يعملون لديها، ما يضع الكثير من التساؤلات حول تداعيات هذه الخطوة.. فما هي قصة سقوط العملاق العقاري الإماراتي؟
2014.. بداية السقوط
خطت الشركة منذ تأسيسها عام 1975 خطوات متوازنة نحو تحقيق اسم كبير في قطاع العقارات، داخل الإمارات وخارجها، وظلت على هذا المنوال حتى بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، لكن في 2014 تعرضت المؤسسة لهزة عنيفة أفقدتها توازنها.
في صيف هذا العام وبينما كانت تحيا الشركة أزهى عصورها إذ بها تتعرض لضربة موجعة، حيث فقدت اسهمها مايقرب من 70% من قيمتها (ما يعادل 30مليار دولار) في أيام معدودة، دون وجود أسباب واضحة لهذا الانهيار المفاجئ، الذي انعكس بالطبع على سمعة واسم الشركة في السوق العقاري وداخل البورصة وقتها.
لم يجد المحللون تفسيرًا منطقيًا لهذا التهاوي الكبير الذي نادرًا ما يحدث ولأسباب معروفة مثل وجود اختلاسات وسرقات وإلغاء صفقات أو انهيار مشاريع عملاقة، أو وجود شبهة تزوير في بيانات الشركة، إلا أن شيئًا من هذا لم يُعلن عنه وهو ما أقلق الكثيرين بشأن ما يحدث لهذا الكيان الكبير، الذي لم تتأثر أسهمه المدرجة في بورصة دبي وحدها بتلك الضربة، بل أثارت العديد من علامات الاستفهام حول القواعد المنظمة لعمل الشركات وقواعد الإفصاح والشفافية في دولة الامارات ككل.
إلا أنه وفي المقابل هناك من يشير إلى أن السبب الرئيسي وراء هذا الانهيار المدوي كان توتر العلاقات بين الرئيس التنفيذي للشركة سابقًا، حسن إسميك، وشركة آبار للاستثمار التابعة لشركة الاستثمارات البترولية الدولية (آيبيك) (IPIC) المملوكة بدورها لحكومة أبو ظبي، والتي كانت تملك نسبة من الأسهم في “أرابتك”.
بدايات العام الحالي (2020) كانت الشركة على موعد مع نزيف خسائر لا يتوقف، بلغ في الشهور الست الأولى 216.3 مليون دولار
ففي 2012 زادت آبار من حصتها الرأسمالية في العملاق العقاري، ومنذ ذلك الوقت بدأ التنافس بين الشركة الرئيسية والأخرى المشاركة بحصة في الأسهم، تنافس يبدو من ظاهره استثماري ورغبة كل طرف في توسيع دائرة نفوذه على حساب الأخر، لكن مع مرور الوقت تبين أن التنافس شخصي في المقام الأول، وهو ما أودى بالشركة إلى ما آلت إليه.
وفي يوليو/حزيران الماضي، وضع الكيان المملوك لشركة الاستثمارات البترولية الدولية (آيبيك) (IPIC) المملوكة بدورها لحكومة أبو ظبي، شركة “أرابتك” في مأزق خطير، كان له مفعول السحر في الإسراع بخطى السقوط، وذلك حين أعلنت عن نيتها خفض حصتها في الشركة من 21.57% إلى 18.94% خلال عدة أيام.
تلك الخطوة التي وصفها خبراء بـ “التكتيك المدمر” ساهمت في تقويض الثقة في “أرابتك” ودفع العديد من المساهمين للهرولة من أجل بيع حصتهم في الشركة بهدف التخلص من الأسهم بأي مقابل خشية المزيد من التهاوي، وهو ما دفع سهم الشركة إلى السقوط شيئَا فشيئًا، حتى تحول العملاق الكبير إلى مجرد سهم ضعيف تعصف به الشائعات والتقارير التي يغلب عليها الطابع الشخصي.
نزيف من الخسائر
بدايات العام الحالي (2020) كانت الشركة على موعد مع نزيف خسائر لا يتوقف، بلغ في الشهور الست الأولى 794 مليون درهم (216.3 مليون دولار) ليصل إجمالي الخسائر المتراكمة على الشركة إلى 1.45 مليار درهم، ما يشكل 97.2% من رأسمالها البالغ 1.5 مليار درهم.
في بيان لها أرجعت الشركة أسباب هذه الخسائر إلى “محدودية السيولة في قطاع العقارات والإنشاءات على المستوى الداخلي بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)”، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على استثمارتها في السوق، حيث تأخرت العديد من المشروعات المتفق عليها، وعليه تكبدت تكاليف إضافية متصلة بالتأخير، دون قدرة الشركة على الوفاء بتلك الالتزامات.
علاوة على أسباب أخرى تتعلق بحالة التباطؤ التي مني بها قطاع العقارات في الدولة النفطية بصفة عامة، ما أنعكس على المستحقات والتسويات الخارجية والتي زادت حالات التأخير بها، الأمر الذي أدى بدوره إلى انخفاض التدفقات النقدية، ليواصل الكيان عجزه المستمر.
وفي فبراير/شباط الماضي أعلنت الشركة عن تعرضها لخسائرة سنوية بلغت 773.8 مليون درهم (نحو 211 مليون دولار) بنهاية عام 2019، وهي أول خسارة سنوية لها منذ عام 2016، هذا بجانب أضطراها لتسريح ثلاثة آلاف عامل يدوي في الشهرين الأخيرين، فضلا عن 300 موظف، مع معاناة الشركة من تبعات انتشار فيروس كورونا.
السؤال الذي يفرض نفسه الأن: ما مصير المتضررين من إفلاس العملاق الإماراتي؟ جدير بالذكر أن قائمة الأطراف المتضررة من هذا الانهيار طويلة، أولها الموظفون العاملون والبالغ عددهم 45 ألفًا، بجانب صغار المستثمرين المتوقع أن يفقدوا معظم مدخراتهم، أما أبرز المتضررين فهم كبار المساهمين، المرجح أن يتكبدوا خسائر ثقيلة غير أنهم قادرون على الصمود نظرا لامتلاكهم استثمارات في شركات ومجالات أخرى.
التعويض هنا عن هذا الضرر سيكون بيد المحكمة التي ستنظر في ملف الإفلاس، والأدوات التي يمكن استخدامها في عملية التعويض، سواء عن طريق بيع أصول الشركة وتصفيتها، وحجم مبيعاتها المتوقع ومدى قدرته على الوفاء بالالتزامات التي على الشركة كرواتب الموظفين ومدخرات المساهمين.
من المتوقع أن تتوقف 70% من شركات دبي في خلال 6 أشهر من الجائحة، بسبب اعتمادها على موارد تأثرت بشكل كبير بسبب الوباء، على رأسها السياحة التي دخلت غرفة الإنعاش منذ بداية 2020
خلل في البيئة الاستثمارية
سقوط العملاق العقاري الإماراتي لايعني مجرد انهيار شركة فحسب، مهما كان حجمها، بل هو مؤشر على خلل واضح في البنية التحتية الاستثمارية في الدولة الخليجية، لاسيما مع القراءة الدقيقية لأسباب هذا الانهيار والتي يأتي في مقدمتها “المكايدة” بين الشركات، فكيف لشركة بهذا الحجم أن تسقط في فخ التكتيك التآمري من شركة أخرى وطنية وأن تنخرط في وحل الشائعات إلى هذا الحد؟
الخبراء استعرضوا على مدار الأيام الماضية أسباب السقوط الكبير لهذا الكيان الذي صمد على مدار سنوات طويلة، لافتين إلى أن الأمر أكبر من مجرد تراجع في الأسهم والأرباح، فهناك عوامل أخرى عجلت من هذا الانهيار أبرزها المبالغة في تحديد قيمة العقارات التي تتجاوز قيمة الأصول الفعلية بكثير، ما أدى إلى عزوف عن الشراء وتراجع حركة البيع.
ورغم الهالة الإعلامية حول المكانة الاقتصادية لإمارة دبي وقدرتها على المنافسة والتحدي، فإنها كانت على رأس قائمة الأسواق العقارية الأكثر تأثرًا بين أسواق العالم بسبب تداعيات كورونا، ولولا تدخل الدولة الرسمي عبر ضخ المليارات لإحداث سيولة مالية ومنح محفزات، لكان الوضع أكثر كارثية.
في تقرير سابق لـ “نون بوست” كشف أنه كان من المتوقع أن تتوقف 70% من شركات دبي في خلال 6 أشهر من الجائحة، بسبب اعتمادها على موارد تأثرت بشكل كبير بسبب الوباء، على رأسها السياحة التي دخلت غرفة الإنعاش منذ بداية 2020 .
علاوة على هذا التأثيرات السلبية لتراجع حركة التجارة وفضيحة الملياردير الهندي بي آر شيتي، الذي هرب من الإمارات بعدما حصل على 6.6 مليار دولار من أكثر من عشرة بنوك ما عرض بعضها للإفلاس، الأمر الذي انعكس سلبًا على صورة الإمارة الاستثمارية على المستوى الدولي.
ولم تكن “أرابتك” الشركة الإماراتية الوحيدة التي أعلنت إفلاسها، فهناك العديد من الشركات الأخرى أبرزها شركة الاستثمار المباشر أبراج في 2019، هذا بجانب شركات أخرى على وشك الإفلاس منها “إن.إم.سي هيلث” (NMC) وشركاتها التابعة، وهي الإمارات للصرافة ومجموعة فينابلر لحلول الدفع، ومعها “إعمار للتطوير” و”ديار للتطوير العقاري” و”رأس الخيمة” العقارية.
حتى الشركات التي يتوهم البعض برسوخ موقفها وصموده تعاني هي الأخرى من تهاوي كبير، وفي مقدمة تلك المؤسسات شركة “داماك” التي انخفض صافي ربحها 94% على أساس سنوي في الربع الأول من العام، لتحقق الشركة أقل ربح منذ طرح أسهمها في 2015.
لم تكن “أرابتك” الشركة الأخيرة التي تتعرض لهذا الانهيار الكبير، فالقائمة كثيرة في ظل السياسات المالية الحالية والتي تعتمد على الكثير من المخاطر، وعليه فمن المتوقع أن تشهد الساحة الاقتصادية سلسلة من الانهيارات القادمة لكيانات إماراتية عملاقة، وهو ما يتوقع معه أن يعيد تشكيل الخارطة الاقتصادية للمنطقة من جديد.