ترجمة وتحرير: نون بوست
بعيدًا عن القراءات العامة للسياسة الخارجية الأمريكية التي تركز على المصالح الوطنية العليا ومتطلبات الأمن القومي – وهي مبادئ ثابتة في السياسة الخارجية لكل دولة في العالم تقريبا – ومن خلال البحث بدلا من ذلك عن سمات أكثر تحديدًا للسياسة التي تعتمدها الولايات المتحدة في المنطقة (مع التحفظ على مصطلح “الشرق الأوسط”)، يتبين أن هناك خمسة ثوابت رئيسية لا تتغير في العصر الحديث، وذلك بغض النظر عما إذا كان الرئيس جمهوريا أو ديمقراطيا.
بادئ ذي بدء، تمثل إسرائيل جوهر سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. والحفاظ على أمنها وتفوقها العسكري النوعي الذي يجعل منها قوة إقليمية رئيسية يشكل عنصرًا أساسيًا في استراتيجية الولايات المتحدة. ولابد أن تكون أي سياسة أخرى متوافقة مع هذا المبدأ.
بناء على ذلك، يتعين على الولايات المتحدة تقديم الدعم العسكري والمالي لإسرائيل، والغطاء الدبلوماسي والسياسي لاحتلال الضفة الغربية وهضبة الجولان وحصار قطاع غزة، وتهويد الأراضي المحتلة بما في ذلك القدس. وهذا يعني إجهاض أي إجراءات دولية لا تخدم مصالح إسرائيل، واعتبارها “دولة فوق القانون الدولي” باستخدام حق النقض ضد أي إجراءات ملزمة ضد إسرائيل يتفق عليها مجلس الأمن الدولي.
مع ذلك، لا يعني هذا الأمر وجود تقارب كامل بين تل أبيب وواشنطن أو أن السياسة الأمريكية تخضع للرغبات الإسرائيلية بشكل دائم. ففي بعض الأحيان، تكافح الإدارات الأمريكية للتعامل مع “الطفل المدلل” ومخالفة بعض أهدافه لاسيما عندما تتعارض مع المصالح الأمريكية العليا، أو مع ترسيخ أفضل الطرق التي تراها الولايات المتحدة أنها تخدم المصالح الإسرائيلية والاستقرار في المنطقة، خاصة عندما تتناقض الرؤية الأمريكية مع الائتلافات الحاكمة في دولة الاحتلال.
في سياق الصراع على السيادة العالمية مع القوى الكبرى المتنافسة، تبقى الهيمنة الأمريكية الشاملة على المنطقة من أهم ركائز السياسة الأمريكية. ولكن هذا الجانب من السياسة الخارجية واجه العديد من التحديات، مع محاولة روسيا اختراق النفوذ الأمريكي في دول مثل سوريا والعراق وجنوب اليمن وليبيا؛ هذا إلى جانب إفلات بعض دول المنطقة من قبضة واشنطن، وأهمها إيران.
تحولت أولويات السياسة الأمريكية نحو مواجهة صعود الصين، خاصة في منطقة المحيط الهادئ
حتى مع عضويتها في حلف شمال الأطلسي وتبني اقتصاد السوق الحرة، اتبعت تركيا بدورها سياسات مستقلة ناجحة إلى حد ما على مدار العقدين الماضيين، حيث عملت على تقويض النفوذ الأمريكي والغربي، وطورت قدراتها الاقتصادية والعسكرية الخاصة وعلاقاتها الدولية، وبرزت كلاعب إقليمي رئيسي قادر على الحفاظ على مصالحه وتحالفاته.
في العقد الماضي، تحولت أولويات السياسة الأمريكية نحو مواجهة صعود الصين، خاصة في منطقة المحيط الهادئ. وربما أدى هذا إلى تشتيت تركيز واشنطن على الشرق الأوسط، لكنه لم يؤثر على أسس سياستها الخارجية في حد ذاتها.
تتمحور السياسة الخارجية الأمريكية أساسًا حول ضرورة الحفاظ على سيطرة الولايات المتحدة على المناطق الغنية بالنفط، وخاصة منطقة الخليج، بغية تأمين إمدادات النفط لها ولحلفائها الأوروبيين واليابان وغيرها بأسعار “معقولة”، واستخدام هذه الهيمنة كوسيلة لفرض نفوذها على القوى المنافسة. وحتى مع تضاؤل حاجة الولايات المتحدة لاستيراد النفط خلال السنوات القليلة الماضية، لا يزال جوهر هذه السياسة الأمريكية ثابتا وقائم الذات.
تحتاج الولايات المتحدة إلى الحفاظ على سيطرتها على معابر التجارة الدولية في الشرق الأوسط، وضمان إمكانية الوصول المستمر إليها بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. ولا ينبغي السماح لأي قوة إقليمية أو دولية بإغلاقها، بما في ذلك مضيق هرمز ومضيق باب المندب وقناة السويس.
قناة السويس
تتمثل السمة الثابتة والأخيرة في السياسة الخارجية الأمريكية للشرق الأوسط في ضرورة تأمين الدعم والحماية والغطاء السياسي للأنظمة المتحالفة مع واشنطن، وإسقاط أو تغيير الأنظمة التي تفرض الانصياع للإملاءات الأمريكية.
إن المتغيرات في السياسة الأمريكية تشمل السياسات والإجراءات والأدوات التي تستخدمها واشنطن لحماية مصالحها وتنفيذ الثوابت المذكورة أعلاه. وفي الحقيقة، ترتبط عدة عوامل بالميول السياسية والدينية والثقافية لرئيس الولايات المتحدة اليوم وفريقه، من بينها الظروف الاقتصادية العالمية والمحلية والتهديدات الخارجية للولايات المتحدة، والمنافسة مع الخصوم الدوليين والقوى الكبرى، وسلوكهم السياسي والعسكري والاقتصادي الذي قد يؤثر أو ينافس المصالح الأمريكية في مناطق نفوذها.
لا يكفي هذا المقال لمعالجة النظريات التي سعت إلى تفسير السياسة الخارجية للولايات المتحدة والتوجّهات التي شكلتها. ومع ذلك، من أجل الإيجاز والتبسيط، تجدر الإشارة إلى أن هناك توجّهان رئيسيان في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. أولهما التوجّه المحافظ الذي يولي أهميّة أكبر للسلطة الأمريكيّة وقوتها الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية والسياسية. ينبع هذا التوّجه من وجهة نظر متعصبة تدعي أنها تمثّل “العالم الحر” وأديانه وتراثه الثقافي وقيمه.
تشمل هذه الفئة ممثلي القوى الدينية اليمينية والعنصرية والمحافظة المتطرفة، الذين يشعرون بانتمائهم للحزب الجمهوري. عندما يسيطر مثل هذا التوجّه على البيت الأبيض، يتزايد دعم الولايات المتحدة لإسرائيل بصورة علنية. وتسارع مثل هذه الإدارات إلى استخدام العقوبات الاقتصادية وسياسة الإكراه، وتكثيف الدعم للأنظمة الدكتاتورية، وتتجاهل القمع وتزوير الانتخابات في الدول الحليفة، بالإضافة إلى اللجوء إلى التدخل العسكري الذي يخرق القوانين والأعراف الدولية.
من بين الأمثلة الحديثة إدارات رونالد ريغان وجورج بوش الأب وجورج دبليو بوش ودونالد ترامب، الذين شهدت فترات ولايتهم حرب الخليج في سنة 1991، والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، ومحاولة ترامب فرض “صفقة القرن” في فلسطين، إلى جانب نهجه في التعامل مع حكام الخليج والدول العربية الأخرى.
في المقابل، يسعى التوجّه الآخر إلى خدمة المصالح الأمريكية باستخدام القوة “الناعمة” عن طريق الأساليب غير المباشرة وغير العنيفة. يروّج هذا التوجّه للحجج والأدوات المرتبطة بقيم “الحرية” أكثر من تلك المرتبطة بقيم “السلطة” و”القوة”، على الرغم من أنه يلجأ أحيانا إلى استعمال القوة عند الضرورة.
قد تتبنى الولايات المتحدة درجة من البراغماتية والواقعية عندما تنجح الشعوب في فرض إرادتها، أو عندما تسير الأحداث بطريقة لا تناسب مصالح الولايات المتحدة
يمثّل الحزب الديمقراطي الحاضنة الأساسية لمثل هذا التوجّه، حيث يميل إلى إبداء تفهّمه الكبير للاختلافات والتنوع العرقي والديني والثقافي، ودعم التنمية وحقوق الإنسان (من منظور الهيمنة الأمريكية)، وتسخير المساعدات المالية لأهداف سياسية، والدعوة إلى استعمال “الشرعية” الدولية وبرامج الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لمعاقبة الأنظمة المنشقة، قبل اللجوء إلى القوة “الصارمة”.
يهدف هذا التوجّه عادة إلى تقليل الإنفاق الدفاعي في الخارج، واستنفاد جميع الوسائل المتاحة قبل اللجوء إلى التدخل العسكري، وبناء تحالفات وعلاقات دولية، والتوصّل إلى اتفاقات مع القوى الدولية لإدارة المصالح والتوترات المشتركة، مع الحفاظ على السيادة الأمريكية. يتمّ كل هذا بطريقة تتجنب استعداء القوى المنافسة والناشئة، وتحافظ على العلاقات مع الدول الحليفة والصديقة. ومن بين الأمثلة الحديثة إدارتا بيل كلينتون وباراك أوباما، بالإضافة إلى الإدارة القادمة للرئيس المنتخب جو بايدن على الأرجح.
إن هامش التغيير في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط محدود، سواء من حيث عناصرها الثابتة أو تكتيكاتها أو انعدام المرونة. مهما كان التوجّه المهيمن، فإن السياسة الخارجية الأمريكية لن تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولن تدعم الشعوب التي تسعى إلى تغيير الأنظمة الفاسدة والاستبدادية التي تخدم المصالح الأمريكية، ولن تسمح أيضًا لقوى المقاومة و”الإسلام السياسي” التي تعمل على مشروع التغيير الحضاري والتجديد بالوصول إلى سدة الحكم في بلدانهم.
قد تتبنى الولايات المتحدة درجة من البراغماتية والواقعية عندما تنجح الشعوب في فرض إرادتها، أو عندما تسير الأحداث بطريقة لا تناسب مصالح الولايات المتحدة. في هذه الحالة، ستسعى واشنطن إلى إعادة صياغة سياستها من أجل فرض مصالحها، وذلك من خلال دعم “وكلائها” المحليين أو “حلفائها”، أو استخدام وسائل مختلفة للعرقلة والتعطيل لاستقطاب الأنظمة السياسية.
في الختام، تجدر الإشارة إلى أن السياسة الأمريكية ليست حقيقة محتومة أو مصيرا لا مفر منه بل قابلة للتغيير، وذلك أمر سبق أن كشفه التاريخ والخبرة البشرية. وعندما تقرر الشعوب المطالبة بحقها المشروع في الاستقلال، سيكونون قادرين على فرض إرادتهم وتجديدها، سواء أحببت واشنطن ذلك أم لا.
المصدر: ميدل إيست مونيتور