في الوقت الذي يلقي اغتيال كبير العلماء النوويين الايرانيين محسن فخري زاده في طهران حالة من الغضب في صدور الإيرانيين، وبعض بلدان المنطقة المتعاطفة مع النظام الإيراني بخلاف أذرعه ووكلاؤه تلوح في الأفق صياغة آخرى للمشكلة الإيرانية.
يجرى الحديث عن كيفية عقد صفقة بين إيران وبايدن، بموجبها تجمد الجمهورية الإيرانية أذرعها وتنهي عملهم في الوقت الحالي، وهو قربان مناسب للشعوب الغربية ويساعد إدارة بايدن وأنصاره في الغرب على إحياء روح الاتفاق القديم، بعيدًا عن شروط بومبيو .
كان وزير الخارجية الأمريكية وضع بنودا شبه مستحيلة لرفع العقوبات عن إيران، على رأسها إجبارها على التخلي عن أذرعها في المنطقة وقطع الصلة معهم تماما، وهو ما تم رفضه بشكل حاسم ولم تستسلم إيران رغم التأثيرات الكارثية على اقتصادها واستدامة مؤسساتها، كما لم يستسلم أي ذراع لها.
البرنامج أم النشاط
المتابع لفكر الرئيس المنتخب حديثا في أمريكا جو بايدن يعرف جيدا أن ما يهمه ليس ما وصل إليه البرنامج النووي الإيراني، ولاسيما أنه أسلحة عدة لإيقافه عند هذا الحد وخاصة دبلوماسية الحوافز، دمج نظام الملالي في النظام الدولي وإلزامه بمسؤوليات تحقق له منافع معنونية تعيد تجديد خلايا النظام التي تلفت بفعل الضغوط الاقتصادية.
ولكن ما يعنيه حقا هو الأنشطة العدوانية لإيران ووكلائها في المنطقة، ولاسيما أن بايدن لن يكون سهلا عليه التخلي عن التزامات بلاده تجاه حلفائها، فرغم تعهَده بالعودة مجددًا إلى الاتفاق النووي حال امتثلت طهران بشكل كاملً لبنود الاتفاق، إلا أن حزمة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، لن تجعل التفاوض مريحا كما كان الحال مع أوباما.
رغم الخسارة الكبرى لإيران من اغتيال فخري زاده إلا أنها أصبحت فرصة لاتعوض لإعادة التقارب مع العالم
هذه المعضلات المتوقعة، خلف التصريحات المتحفظة لبايدن خلال حملته الانتخابية، وتأكيده على أن التعامل مع إيران سيكون بناءً على التزامات واشنطن مع حلفائها في المنطقة، ولاسيما أن هناك شبه اتفاق بين رؤى الحزبين الجمهوري والديمقراطي على خطورة الجمهورية الإيرانية، وعلاقاتها المتشعبة بالتطرف في المنطقة، وبالتالي تخفيف العقوبات سيكون مقترنا دائما بتقديم طهران قرابين تاريخية لإدارة بايدن بما يؤكد أنها على قدر المسئولية.
فرصة زادة
رغم الخسارة الكبرى لإيران من اغتيال فخري زاده إلا أنها أصبحت فرصة لاتعوض لإعادة التقارب مع العالم، ولاسيما بعد خروج إدانات من بلدان عربية لها نفوذ في الدبلوماسية الدولية مثل الأردن والعراق وسلطنة عمان، والإمارات، وجميعها رفضت بشدة اغتيال العالم النووي، والتي تؤكد كل المؤشرات إن إسرائيل خلف العملية، ما يؤرق حتى أقرب أصدقاء الكيان الصهيوني في المنطقة.
يمهد اغتيال فخري زاده لإقناع إيران بالتخلي عن أيديولوجيتها والتركيز على الازدهار والنمو، وهو ما تستعد له أمريكا وأغلب دول الغرب الذين يؤيديون الحوار على الصراع الصفري مع نظام الملالي، على أمل تحجيم ثقافة انتهاكات حقوق الإنسان ما يزيد من اتجاه الشارع والحكم في آن واحد لتبني ثقافة مدنية معتدلة تقوض من سعارها لخلق نفوذ إقليمي مزعج لجيرانها.
كما تعتبر فرصة مهمة لإيقاف مشروع الصواريخ الباليستية الذي يزعج الغرب بشدة، ولاسيما أن إيران لا تهدد فقط بها، بل هي دولة لها تاريخ في استخدام هذه الأسلحة من قبل خلال الحرب مع العراق، لدرجة أنها انتجت إستراتيجية خاصة بها تعرف باسم ضرب الخصم في الخلف لتعطيل آلة الحرب والاقتصاد باستخدام الشبح الباليستي.
الجرأة الهجومية لنظام الملالي تؤرق أوروبا من امتلاك صواريخ باليستية في المستقبل قادرة على الوصول لأي هدف، ليس فقط إسرائيل والعديد من الدول العربية المعادية لها في المنطقة، والمنشآت العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط ـ الأسطول الأمريكي الخامس ـ ولكن لكل بلدان العالم .
يربط الغرب بين مساعي إيران لتحقيق طفرة في تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وبين نجاحها في إطلاق صاروخ عابر للقارات، ما يضيف لتكنولوجيا الصواريخ في الحجم والتنوع، ما يجعلها تفوق السعودية وإسرائيل وكل منهما لايملك إلا صواريخ باليستية متوسطة المدى في الشرق الأوسط، مما يعني أن استراتيجية الردع الإيرانية الباليستية مصممة أصلا للتعامل مع دول أكبر بكثير من إمكانات المنطقة.
معضلة العودة للمفاوضات
التعقيدات التي خلقتها إدارة ترامب في أسلوب التفاوض مع إيران سيجعل من الحوار مع طهران مشكلة كبرى لبايدن، مع أنها كانت أحد وعوده الانتخابية، فالسير على خطى بومبيو وإلزام إيران بقطع علاقاتها مع أذرعها الشيعية في العالم وهم وتضييع وقت دون داع.
يدرك بايدن جيدًا أن سياسة العقوبات والضغط القاسي على إيران يمنحها الفرصة لحشد الجبهة الداخلية ضد الاستعمار المتوقع
يعرف بايدن أن سياسة اعتماد إيران على وكلاء يعود إلى مبادئ الثورة الإسلامية 1979 التي أطاحت بالشاه المدعوم من الولايات المتحدة، وقادت إلى قيام جمهورية إسلامية ومن وقتها والحكومة الشيعية تسعى إلى تصدير ثورتها وتمكين الجماعات الشيعية في الشرق الأوسط .
تلعب الأيديولوجيا دورًا في سياسة إيران الخارجية وتمكنها من إظهار قوتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط في مواجهة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي والسعودي ولاسيما أن المشروع الشيعي يعتمد في المقام الأولى على فراغات السلطة في الشرق الأوسط ولهذا تسارع بدعم الميليشيات في اليمن وسوريا، كما ترعى بعض الأذرع الراديكالية السنية في المنطقة .
كل هذه المعطيات تجعل بايدن يتجه إلى صياغة حلول معقولة لاتخاصم الواقع بل تعترف به وتنطلق من فنون الممكن وبدلاً من مطالبة إيران بقطع علاقاتها بوكلائها يمكن مطالبتها بتهدئتهم وتحجيمهم، بجانب منعها من مد أذرع جديدة في المنطقة وتجفيف منابع التوتر بإذكاء ثقافة حقوق الإنسان والضغط على حكام المنطقة لإعادة إحياء الديمقراطية على أمل بناء ثقافة مدنية بروح جديدة في الشرق الأوسط.
يدرك بايدن جيدًا أن سياسة العقوبات والضغط القاسي على إيران يمنحها الفرصة لحشد الجبهة الداخلية ضد الاستعمار المتوقع، بجانب أنه يمكنها من تحديث ترسانتها، فضلا عن ضخ مشاعر معادية للغرب بين وكلائها لإقامة توازن قوى أو حتى توازن رعب بين إيران وجيرانها.
الضغط العكسي
قد يلجأ الرئيس الأمريكي الجديد لتشديد الضغوط على إيران، بتوسيع المباحثات لتشمل دولا لم توقع على اتفاق 2015 مثل السعودية والإمارات، ولاسيما أنه يعتمد على الموقف الضعيف للوكلاء الآن في المنطقة، بما فيهم أقوى ذراع لإيران ـ حزب الله ـ ما يجعلها أحوج ما يكون لمثل هذه الصفقة الأن.
يعيش حزب الله أياما صعبة في لبنان، بعدما صُنف من الجماهير ربما لأول مرة في تاريخه ضمن الطبقة السياسية الفاسدة التي قادت البلاد إلى الهاوية، وخرجت مظاهرات عارمة ضده، ما يعني أن صفقه محتملة كهذه قد تفيده أكثر ما يتصور أحد، إذ تبعده عن الأزمات في أسوأ فترة تعيشها لبنان والمنطقة.
العودة لتمكين إيران من بناء نفسها لتصبح قوة أكثر شراسة ستكون سقطة في تاريخ بايدن والحزب الديمقراطي للأبد
أما عن المخاوف من بلدان المنطقة تجاه عودة بايدن لسياسة الاحتواء مع إيران، قد يستخدمها بايدن لصالحه ليتجنب ما حدث في 2015 بعد الاتفاق النووي، إذ استطاعت إيران توسيع نفوذها الإقليمي باستخدام المال وعوائد النفط، وتضخيم الميزانية العسكرية التي زادت أكثر من 30٪ بين عامي 2016 و 2018، واستفاد منها وكلائها في سوريا والعراق واليمن، حتى أجبرتها عقوبات ترامب على التراجع، فضلت عن الضربات القوية التي استهدفت أبرز قادتها العسكريين.
وبالتالي العودة لتمكين إيران من بناء نفسها لتصبح قوة أكثر شراسة ستكون سقطة في تاريخ بايدن والحزب الديمقراطي للأبد، لهذا سيسعى جيدا إلى سد ثغرات اتفاق 2015، ولن يعود إليه مرة آخرى لتحقيق نجاحات بطريقة تناسب الديمقراطية الأمريكية تفوق نجاحات ترامب والذين معه .