ترك الحكم العثماني لمصر – والممتد لأكثر من ثلاثة قرون- العديد من البصمات الثقافية والمجتمعية التي لا زالت تحيا وسط المصريين رغم مرور كل تلك السنوات، ورغم المساعي السياسية والإعلامية لوأد أي تأثير لتلك الحقبة المهمة في تاريخ المحروسة إلا أن الثقافة الشعبية هي الأبقى والأقوى في مسار الحضارات والشعوب.
جولة واحدة من الممكن أن يقوم بها أي زائر لأي مدينة أو قرية مصرية، في الشمال أو الجنوب، الشرق أو الغرب، حتما سيجد أثرًا يمتد إلى فترة الحكم العثماني، وإن كان الكثير من المصريين لا يعرفون أصول العديد من العادات والمظاهر التي يتعايشون معها ويعتقدون أنها مصرية خالصة.
وقد امتد تأثير الحقبة العثمانية في مصر إلى العديد من نواحي الحياة المختلفة، عادات وتقاليد، طقوس ومناسبات، ثقافات ولغة، ومن أبرز مظاهر هذا التأثير الأطعمة الشهيرة التي عُرف بها المصريون وهم لا يدرون أنها ذات أصول تركية، كما سيرد ذكره لاحقًا.
المطبخان المصري والتركي تبادلا سويًا الخبرات العميقة في فنون الطهي والأكلات الشعبية، فكثير من الأكلات المنتشرة في شوارع القاهرة والإسكندرية هي تركية في الأساس، كما أن العديد من المطاعم في شوارع إسطنبول وأنقرة لها أصول مصرية، ويعود ذلك للتاريخ المشترك بين الحضارتين الكبيرتين.
أشهر الأكلات التركية في مصر
رغم انتشار العديد من الأطعمة التركية في المطاعم والبيوت المصرية إلا أن هناك خمسة أكلات على وجه التحديد هي الأشهر رغم أن الكثير لايعرف أنها ذات أصول عثمانية، على رأسها “المحشي” ويطلق عليه في تركيا “الدولمة” والذي كان من أبرز الوجبات الدائمة على موائد الطعام المصرية في الحقبة العثمانية.
كان الأتراك يجيدون طهي ورق العنب المحشي بالأرز واللحم المفروم، وظل هذا الطبق منتشر في مصر لسنوات طويلة، ومع مرور الوقت أضاف المصريون لمساتهم الخاصة، فأضافوا البقدونش والطماطم، وبعض البهارات الأخرى التي أعطت لهذه الأكلة نكهتها الخاصة.
هناك أيضًا “كفتة داود” والتي تنتشر في مطاعم “الكبابجية” في القاهرة والمدن الرئيسية، ويعود تسميتها إلى السلطان التركي داوود باشا، وهناك قصص طريفة حول نشأة تلك الأكلة، أوردها العديد من المؤرخين، أبرزها أن السلطان العثماني كان له خادم فطلب منه الطعام فأحضر له تلك الكفتة، لكنها لم تنل رضاه فعاقب الخادم، ومن هنا أطلق عليها “كفتة داوود باشا”، وإن أدخل عليها المصريون إضافات أخرى بعد ذلك.
ترجع تسميتها إلى السلطان التركي داوود باشا، حينما طلب من أحد خادميه نوع جديد من الطعام، وأعد خادمه هذا النوع وأحضره إلى السلطان داوود وعندما تناوله لم ينل إعجابه، وقام بمعاقبة هذا الخادم ومن هنا اشتهر هذا النوع بهذا الاسم نسبة لذلك العقاب ومع مرور الوقت تم تعديل هذا النوع بإضافة أشياء جديدة أثناء الطهو وأصبح طيب المذاق.
من أشهر أنواع الحلوى التي يعتقد البعض أنها مصرية خالصة “البقلاوة” وبالعودة إلى التراث العثماني القديم يلاحظ أنها تعود إلى تلك الحقبة
ومن انواع الأكل الشهيرة في مصر والتي تعود في كثير من تكويناتها ومسمياتها للفترة التي خضعت فيها مصر للحكم العثماني، الكباب والشركسية والشكشوكة والشاورمة والكبيبة وبابا غنوج والشيش طاووق، هذا بخلاف أنواع أخرى من المشويات والمخبوزات.
أما عن الحلويات فالقائمة طويلة، أبرزها “البسبوسة” والتي تحتل شعبية كبيرة لدى المصريين، كونها أحد الأنواع الرئيسية على الموائد لاسيما في شهر رمضان والمناسبات العائلية والاجتماعية، ويعود تسميتها بهذا الإسم إلى طريقة إعدادها فى “بس” السميد مع السمن، وهي من الموروثات العثمانية رغم اعتقاد الكثيرين أنها تراث مصري.
هناك أيضا الكنافة، وهي في منزلة البسبوسة لدى المصريين، وكانت تقدم إلى السلاطين العثمانيين فقط قبل ذلك، كونها من الحلوى الخاصة بالطبقة الاجتماعية المرموقة، لكن مع مرور الوقت باتت تقدم للعامة، وتحولت من حلوى للخاصة إلى نوع شعبي متاح للجميع في كافة الأماكن ومختلف المناسبات.
ومن أشهر أنواع الحلوى التي يعتقد البعض أنها مصرية خالصة “البقلاوة” وبالعودة إلى التراث العثماني القديم يلاحظ أنها تعود إلى تلك الحقبة، وتعددت الأقاويل بشأن تسميتها، لكن الأكثر انتشارًا أنها تعود للسلطان العثمانى عبدالحميد الذي كان لديه طباخة اسمها «لاوة»، وهى التى ابتدعت هذه الحلوى، وعندما ذاقها السلطان لأول مرة قال لضيف عنده: «باق لاوة نه بايدى»، أى: انظر ماذا صنعت الطباخة «لاوة».
ليس الأكل وحده
لم يكن الأكل وحده الشاهد الأبرز على آثار الحكم العثماني لمصر، فهناك العديد من الشواهد والمعالم التي تشير إلى حجم التأثير الكبير لتلك الفترة على المصريين، في مقدمتها الأثار المعمارية التي لا تزال باقية حتى اليوم، مثل مسجد محمد على بالقاهرة، الذى صمَّمه المهندس العثمانى سنان لمحاكاة مسجد السلطان أحمد بإسطنبول.
كذلك مسجد محمد أبوالدهب، ومسجد سارية الجبل أو سليمان باشا، ومسجد الملكة صفية فى شارع محمد على بالقاهرة، وهى زوجة السلطان مراد الثالث، هذا بخلاف الأسبلة (جمع سبيل) ومن أبرزها سبيل محمد على بالنحاسين وعبدالرحمن كتخذا بالجمالية وسبيل الوالدة باشا بشارع الجمهورية.
من الألقاب التركية التي تأثرت بها الثقافة المصرية، وانتشر استخدامها قبل ثورة 23 يوليو 1952، ألقاب «بك وباشا وأفندى وأفندم وهانم» وهي مرادفات تركية خالصة
كذلك الطقوس الرمضانية الشهيرة وعلى رأسها مدفع رمضان، وهو التقليد الذي بدأه العثمانيون فى مصر لإعلان حلول الشهر ومواقيت الإفطار والإمساك، بخلاف العادات الاجتماعية الأخرى التي لاتزال منتشرة في المناطق الشعبية المصرية والقرى والنجوع.
كما أثرت الثقافة العثمانية القاموس اللغوي بحزمة من التعبيرات والمرادفات لا تزال باقية حتى اليوم، وقد امتزجت بالثقافة المصرية فلا يدري قائلها أمصرية هي أم عثمانية، ومن أشهر تلك الكلمات كلمة «جمرك» التى تعنى «الضريبة التى تؤخذ على البضائع»، وكلمة «شنطة» للدلالة على الحقائب، وكلمة الأسطى، وأصلها (أستا)، وهى فارسية دخلت اللغة التركية والعربية، وتعنى «الأستاذ» الماهر في صناعته.
ومن الألقاب التركية التي تأثرت بها الثقافة المصرية، وانتشر استخدامها قبل ثورة 23 يوليو 1952، ألقاب «بك وباشا وأفندى وأفندم وهانم» وهي مرادفات تركية خالصة، كذلك الرتب والألقاب العسكرية ومنها كلمة أونباشى، وهو المسؤول عن عشرة عسكريين، أى «أون»، وكلمة «يوزباشى»، وهو المسؤول عن مائة جندى.
الثقافة الشعبية أبقى
منذ انتهاء الحكم العثماني لمصر شهدت العلاقات المصرية التركية موجات من المد والجذر تباينت صعودًا وهبوطًا حسب منسوب تلك العلاقة، رفق هذا التأرجح محاولات ومساعي للتشويه المتعمد لمآثر الحقبة العثمانية برمتها، رغم أن ذلك ينافي الموضوعية، فكل فترة حكم إيجابياتها وسلبياتها.
ما قدمه العثمانيون لمصر من إثراء للمناخ الثقافي والفكري لا يمكن إنكاره، وإن كانت هناك علامات استفهام حول طريقة الحكم وما فعله حكام تلك الفترة في المصريين من تجاوزات وثقتها الكتب التاريخية في أكثر من مرجع، لكن الأمانة العلمية تقتضي أن تستعرض إيجابيات وسلبيات أي فترة تاريخية وأي نظام حكم، مع ضرورة الالتزام بمقتضيات التقييم كاستدعاء التاريخ خلال عملية النقد، والقياس بمعايير العصر الذي تحكم عليه وليس بمعايير اليوم، مع التجرد التام من أي ميول سياسية أو فكرية تذهب بك بالتقييم إلى مناحي أخرى منافية للحقيقة.
وقد لوحظ خلال الأونة الأخيرة محاولات مستميتة لتشويه الفترة العثمانية، ونعتها بمسميات الاحتلال والغزو، مع إنكار الدور الذي قدمه بعض السلاطين في الفتوحات الإسلامية التي عمت أرجاء أوروبا في ذلك الوقت، والتي كانت كتب المناهج المصرية تزخر بها قبل ذلك.
ورغم ذلك انتصرت الثقافة الشعبية على كافة تلك المحاولات، فالأثار العثمانية (معمار وثقافة وتراث وأطعمة ولغة.. الخ) لاتزال باقية في كل بيت وشارع ومدينة مصرية، ومهما كانت الجهود لإزاحة تلك الأثار إلا أن الفشل سيكون مصيرها المحتوم في ظل حالة الاختلاط الكبيرة التي شهدتها تلك الأثار بالمجتمع المصري حتى صارت جزءَا من تكوينه الذي لا يمكن التخلي عنه.