ترجمة وتحرير: نون بوست
لا شيء يبدو كالمعتاد في حارة باب حطة في البلدة القديمة في القدس قرب مجمع المسجد الأقصى. إذ أصوات التجار والمارة في الأزقة، التي عادة ما تضج بالمصلين القادمين لأداء الشعائر في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المعظم أو في أيام الجمعة على مدار العام، تحولت الآن إلى حالة من الصمت المطبق.
وفي طريقهم إلى البلدة القديمة، عادة ما يمر الزوار عبر باب الساهرة ثم ينعطفون يسارا في اتجاه باب حطة، لتستقبلهم الوجوه المبتسمة لأصحاب المخابز والباعة في دكاكينهم.
ولكن منذ بداية نوفمبر/ تشرين الثاني، بات بإمكان قلة فقط من هؤلاء التجار الفلسطينيين فتح محلاتهم، وذلك بسبب الإجراءات التي فرضتها السلطات الإسرائيلية بطريقة ظالمة، وهو ما أجبر بعضهم على غلق متاجرهم بشكل نهائي.
أحد هؤلاء التجار وهو أبو محمد الذي تستأجر عائلته دكان بقالة صغير في طريق باب حطة منذ مائة عام، قال في حديثه مع ميدل إيست آي إنه على مدى عقود طويلة كان والده وجده يبيعون البقالة للسكان وزوار المنطقة.
ويضيف أبو محمد أن الانهيار التجاري في أسواق البلدة القديمة بدأ مع اندلاع الانتفاضة الأولى في 1987، وتسارعت وتيرته مع تصاعد التوترات في القدس الشرقية المحتلة خلال الانتفاضة الثانية في العام 2000.
وقد بلغت التضييقات على تجار باب حطة أوجها في 2017، عندما تم إطلاق النار على عنصرين من الشرطة الإسرائيلية في بوابة باب حطة، وهي إحدى مداخل المسجد الأقصى، على يد ثلاثة فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية.
ورغم أن التجار الفلسطينيين ظلوا يعانون من الغرامات الاعتباطية وقرارات الغلق القسري لمحلاتهم منذ 1967، فإن أبو محمد يرى أن التصعيد الأخير غير مسبوق.
يتفق سكان وتجار باب حطة فيما بينهم على أن إسرائيل رفعت من وتيرة الضغوط عليهم بعد تكرر الهجمات على المستوطنين
حيث يقول: “في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني فوجئنا بهجوم من قوة تضم مسؤولين من عدة مؤسسات إسرائيلية، من بينها موظفو الضريبة على الدخل، وعناصر المخابرات والشرطة، وسلطة حماية البيئة ووكالة حماية المستهلك، وإدارة الضرائب على الملكية وضريبة القيمة المضافة. لقد أخذونا على حين غرة وبدؤوا يفتشون محلاتنا وأصدروا للتجار مذكرات استدعاء للاستجواب في اليوم الموالي.”
ويعتقد أبو محمد أن الضغوط على التجار المحليين الفلسطينيين تهدف لإفراغ الحي من النشاط التجاري والمارة، لتوفير ظروف مريحة لعائلة من المستوطنين الإسرائيليين الذين انتقلوا إلى المنطقة قبل عامين.
ولا ينفي أبو محمد حقيقة أن بعض التجار المقدسيين لم يتمكنوا من دفع مبالغ الضرائب المفروضة عليهم، فيما فشل آخرون في الالتزام بالقوانين. إلا أنه يؤكد مجددا على أن مختلف أذرع الاحتلال الإسرائيلي تلجأ إلى التضييقات وتسلط الضغوط كوسيلة عقابية بهدف إخراج الفلسطينيين من البلدة القديمة.
حيث يقول: “نحن نلاحظ الكثير من التجاوزات التي يرتكبها التجار الإسرائيليون وأصحاب المحلات في القدس الغربية، دون أن تتم مساءلتهم من أي طرف، والسبب هو أن تجارتهم ليست مستهدفة مثلما هو الحال بالنسبة لنا في القدس الشرقية منذ 1967.”
تزايد الضغوط
يتفق سكان وتجار باب حطة فيما بينهم على أن إسرائيل رفعت من وتيرة الضغوط عليهم بعد تكرر الهجمات على المستوطنين، الذين تقدموا بشكاوى للشرطة الإسرائيلية. ويعتقد أن الشرطة تدعم المستوطنين عبر إقصاء الفلسطينيين المقدسيين من المنطقة، ومن بينهم التجار. ومنذ آخر مداهمة على الحي، أغلقت ستة محلات تجارية أبوابها. أما بقية التجار فإنهم يخشون من مواجهة نفس المصير إذا استمرت الأوضاع على حالها.
وبينما تدعي الشرطة الإسرائيلية أن هؤلاء التجار لا يلتزمون بتعليمات وزارة الصحة الإسرائيلية فيما يتعلق بارتداء أقنعة الوجه أثناء تفشي فيروس كورونا، فإن السكان والتجار ينفون هذه الادعاءات، وأكدو لميدل إيست آي أنهم ملتزمون باتباع كل التعليمات الصادرة عن الجهات الصحية.
وفي اليوم الذي تلى المداهمة في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، توجه التجار إلى مركز الشرطة. ويذكر أبو محمد: “عرض علينا ضباط المخابرات الإسرائيلية إلغاء الغرامات والدعاوى ضدنا، في مقابل أن نقدم للشرطة أسماء الشبان الذين يزعجون ويهاجمون المستوطنين. بعبارة أخرى، يريدون تحويلنا إلى عملاء لهم.”
زقاق في باب حطة أغلب محلاته مغلقة، يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
وبعد الكثير من التردد، تحدث أبو صالح، وهو ثلاثيني من تجار باب حطة، عن القيود القديمة والجديدة المفروضة، وفي الأثناء كان بقية التجار يمشون جيئة وذهابا في توتر.
وقد باشر أبو صالح العمل في مخبز عائلته قبل عدة سنوات، وهي تشتهر منذ حوالي نصف قرن بإنتاج كعك القدس. وهو يقول في حديثه مع ميدل إيست آي إن السلطات الإسرائيلية تستهدف باب حطة بسبب قرب هذه الحارة من المسجد الأقصى، ولأن الغالبية الساحقة من السكان هم من الفلسطينيين، باستثناء عائلة واحدة إسرائيلية تعيش في الحي في انتهاك للقانون الدولي.
ويضيف أبو صالح: “في أحد الأيام قام بعض الأطفال بقذف الجنود الإسرائيليين المارين هنا بالحجارة، بينما كنت أستعد للعودة إلى المنزل، فعاقبوني باحتجازي في المخبزة ودعوة فريق من البلدية، سلط عليا غرامة بدعوى أن المدخل إلى المخبزة كان مليئا بالحجارة. هكذا نعيش تحت الاضطهاد والظلم.”
وبالرغم من هذه المعاناة اليومية، فإن أبو صالح ملتزم بالحفاظ على مخبز العائلة واستمرار إنتاجه لكعك القدس التقليدي، كرمز للتراث الفلسطيني في البلدة القديمة.
ويؤكد أبو صالح على أن التضييقات لا تقتصر على مداهمة المحلات وفرض الغرامات، بل إن التجار تتم أيضا عرقلة وصولهم إلى محلاتهم، بدعوى أنه يخالفون إجراءات الحجر الصحي.
وهو يقول: “عندما نقترب من بوابات البلدة القديمة، يطلب منا الجنود إظهار هوياتنا، ويقومون بتفتيشنا واستجوابنا قبل أن يسمحوا لنا بالتوجه لمحلاتنا.”
أثناء حديثه لميدل إيست آي من داخل مخبزته القديمة، كان أبو صالح ينظر بتوتر إلى الخارج، خشية التعرض لمداهمة من القوات الإسرائيلية.
يشتهر بمقاومة الاحتلال
أمام مخبز أبو صالح يوجد منزل عائلة نجيب. وقد ولدت دلال نجيب في باب حطة وتعيش في هذا المكان منذ 59 عاما. وإلى جانب بقية سكان الحارة، فإنها رفقة عائلتها لم تنج من مضايقات السلطات الإسرائيلية، حيث داهمت الشرطة والمخابرات فناء منزلهم، مدعية أن التجار يستخدمونه كمخزن.
دلال نجيب إحدى ساكنات باب حطة
وتعتمد السيدة دلال وجيرانها على حارة باب حطة في شراء احتياجاتهم اليومية، وتحصل على الخبز والحلويات من المخبز. ولذلك فإن غلق هذه المحلات سيكون له تأثير حاد على السكان، بما أن بقية الأسواق بعيدة عنهم. وتقول السيدة دلال: “تشتهر حارة باب حطة بمقاومتها للاحتلال، إذ أن السكان والتجار كانوا دائما يمدون يد العون للجرحى خلال المواجهات. كما أنهم قدموا الدعم خلال الاعتصامات التي أطلقها المقدسيون عند بوابات المسجد الأقصى في 2017.”
وتضيف المتحدثة: “إن روح التضامن في حينا تزعج المحتل. إنهم يأتون لاعتقالنا وجعل حياتنا بائسة، في محاولة لإجبارنا على المغادرة.
كما ذكرت السيدة دلال أن ردة فعلها تجاه هذه المحاولات تكون بالمزيد من الصمود والإصرار على البقاء في باب حطة.
كما ذكرت أماني نجيب، وهي أيضا تنتمي لنفس العائلة، إنها عاشت في هذا الحي 37 عاما، وقد غادرت منذ عام واحد لتعيش مع زوجها في حي آخر في القدس. إلا أنها لا تزال تزور باب حطة بشكل شبه يومي.
وهي تقول: “إذا مر يوم لم أزر فيه باب حطة لسماع أصوات لعب الأطفال وحديث التجار وقهقهاتهم، أشعر كأنني أفتقد الأكسجين. عندما أغلقت المحلات لأربع أيام متتالية بسبب المداهمة الأخيرة، شعرت كأن الحياة توقفت والدم نشف في عروقي. كانت هذه المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها الحي مغلقا بالكامل وخاليا من مظاهر الحياة.”
وتخشى أماني من أن يستمر غلق المحلات لفترة أطول: “أنا خائفة من أن يتعود المصلون على هذا الوضع ويبدؤوا بالبحث عن طرق أخرى للوصول إلى المسجد الأقصى، وهو ما سيؤدي لحالة جمود كامل في باب حطة، الحارة المعروفة بأنها إحدى أفضل الطرق للمصلين القادمين من مختلف المناطق الفلسطينية للصلاة في المسجد الأقصى.”
أما حجازي الرشق، رئيس لجنة التجار الفلسطينيين في القدس، فقد ذكر لميدل إيست آي أن باب حطة يوجد فيه 53 محل تجاري، منها البقالة والمخابز والحلاقون ومحلات أخرى. وإلى غاية الآن أغلق 24 منهم أبوابه خلال المداهمات والتضييقات الحاصلة في 2017 و 2018.
وأضاف الرشق أن البلدة القديمة في القدس يوجد فيها 1372 محل، منهم 354 محل أغلق أبوابه منذ فترة طويلة، حتى قبل اندلاع فيروس كورونا. ومنذ تفشي هذا الوباء، تم أيضا غلق 460 متجرا متخصصا في بيع التحف والمنتجات السياحية، وهو ما يعني أن حوالي نصف المحلات في البلدة القديمة قد أغلقت أبوابها؟
المعاقبة على دعم المصلين
ويقول الرشق: “السبب الأساسي وراء استهداف هذا الجزء من البلدة القديمة، يتمثل في حقيقة أن الناس هنا وقفوا إلى جانب المصلين وقدموا لهم الطعام والماء على مدار الساعة، أثناء الاعتصامات التي حدثت عند بوابات المسجد الأقصى في 2017.
والآن تمارس الحكومة الإسرائيلية الانتهاكات ضد السكان والتجار، كنوع من العقوبة على موقفهم أثناء الاحتجاجات ضد تركيز البوابات الإلكترونية وأجهزة الكشف عن المعادن في هذا المكان المقدس، كما تعمل أيضا على تسهيل حركة المستوطنين في هذه المنطقة.
وخلال المداهمة الأخيرة للقوات الإسرائيلية، لم يقتصر الأمر على إصدار غرامات والاستدعاء للاستجواب وتحريك دعاوى قضائية ضد التجار، بل تعرض هؤلاء أيضا لضرر مادي حين تم كسر ثلاث أبواب محلات ومصادرة بعض السلع.
وكرد على هذه الهجمات الإسرائيلية، أطلقت لجنة التجار دعوة إلى كل المقدسيين للقيام بالتسوق في البلدة القديمة، من أجل مساعدة هذه المحلات على تعويض خسارتها والحفاظ على الحضور الفلسطيني في باب حطة.
المصدر: ميدل إيست آي