خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، كان ما يشغل بال الرئيس العراقي وقتها صدام حسين أمرين اثنين:
كيف يمكن منع الاختراق الإيراني للجبهة على الحدود، وكيف يمكن منع الاختراق الاجتماعي والمذهبي الذي قد يحدثه الإيرانيون بسهولة من خلال المذهب.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، تكفل الأمريكيون بالمساعدة، كما يقول تشارلز جونسون مؤلف كتاب “هموم الإمبراطورية”: “حين وقعت الحرب العراقية الإيرانية، قررت إدارة ريغان فعل كل ما هو ممكن وقانوني لمنع العراق من خسارة الحرب، وحين وصل الإيرانيون حدود العراق بحلول عام 1982، شطبت إدارة ريغان كلمة ما هو قانوني.. وقررت أن تفعل كل ما هو ممكن في هذا الصدد”!
أما النقطة الثانية، فكان حلها أسهل: العودة للتاريخ!
كان هناك بالفعل أيديولوجيا جاهزة لمواجهة المذهبية الإيرانية وهي: القومية.. لن يكون صراعًا بين خميني الشيعي وصدام السني، بل سيكون صراعًا جديدًا بين العرب والفرس. “القادسية الثانية”، هكذا أطلق صدام اسم المعركة عليها، في إشارة لهزيمة الفرس الساسانيين على يد العرب المسلمين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
مع ضعف الدولة وانكشاف إمكاناتها بعد حرب الخليج عام 1991، أصبح الغطاء الذي يغطي الهوية العراقية ضعيفا يمكن النفاذ منه
لكن ذلك لم يكن لينجح بالطبع، دون أن يعززه نمو اقتصادي ورفاهية مجتمعية، وهو ما يعبر عنه تقرير الكونغرس حول العراق في الثمانينات بالقول: “إن العراق كان أحد أفضل البلدان في الشرق الأوسط من حيث الصحة والرفاهية والموارد الاقتصادية، قبل أن ينعكس الأمر بعد التسعينات خلال فترة الحصار”، وهنا بدأت الثغرة التي دخلت إيران منها.
المذهب: مدخل لعراق 2003
مع ضعف الدولة وانكشاف إمكاناتها بعد حرب الخليج عام 1991، أصبح الغطاء الذي يغطي الهوية العراقية ضعيفًا يمكن النفاذ منه، وبعد العام 2003 أصبحت الأرض مفتوحة تمامًا لإيران، لصناعة هوية جديدة للعراقيين -في الجنوب تحديدًا-، عملية سهلتها الحرب الطائفية والاستقطاب المذهبي الذي بدأ عام 2005. أدت عمليات القتل والسيارات المفخخة التي نفذتها القاعدة لمزيد من التدخل الإيراني بحجة حماية الشيعة.
منذ سقوط بغداد، صدرت إيران النسخة الثورية الخاصة بها من الإسلام الشيعي، كانت أغلب قوى الإسلامي السياسية الشيعي مقيمة فيها بما فيها حزب الدعوة والمجلس الأعلى الإسلامي، وكثير منهم يدين بالولاء لإيران أكثر من العراق. أمر وظفته طهران عبر استخدامه كقوة ناعمة ملتبسة بالثوب الديني. في تقرير استقصائي، قالت وكالة رويترز إن إيران تستخدم بناء الأضرحة الدينية كوسيلة لزيادة نفوذها في الجنوب. وزير النقل الأسبق بنغن ريكاني قال: “لقد اخترقت إيران منذ فترة طويلة الدولة العراقية العميقة. يستخدم الإيرانيون قوتهم الناعمة وعلاقاتهم الدينية، والتي يمكن أن تكون أكثر أهمية من العلاقات السياسية”.
ليس ذلك وحسب، يشكل المراجع المدعومين من قم، رأس الحربة في توجيه البوصلة نحو إيران، بالمقابل يواجه كل من يتجاوز ذلك -حتى ولو في الآراء الفقهية البحتة- إقصاءه من المشهد. ليس أولهم السيد محمود الصرخي، وليس آخرهم السيد كمال الحيدري الذي أوقف برنامجه على قناة العراقية. وحتى السيد علي السيستاني، لم يسلم من الهجوم الإيراني في مرات عديدة، كان آخرها على لسان صحيفة كيهان بعد دعوته الأمم المتحدة لمراقبة الانتخابات البرلمانية، آخر شيء تريده إيران في العراق.
ينقسم الشارع العراقي اليوم إلى ثقافتين رئيسيتين واحدة موالية لإيران، وأخرى مدنية وطنية
فتحت العناصر السابقة المجال أمام تنصيب حكومات موالية بالكامل لإيران، لن تساعدها في توطين نفوذها وحسب، إنما في تحقيق الفائدة الاقتصادية. لكن في بلد مثل العراق، لابد من إحكام القبضة الأمنية لفعل ما وراء ذلك، ومرة أخرى.. قدمت داعش هدية على طبق من ذهب لطهران!
عراق ما بعد الموصل
رغم أن العراق دفع كل ما قدمته إيران من مساعدات خلال الحرب على داعش بالدولار الأمريكي، إلا إن إيران ووسائل إعلامها لا تنفك تذكر العراق بموقفها الذي أنقذ النظام السياسي في بغداد وقتها. يقول معهد واشنطن للدراسات أن التغلغل الإيراني العسكري بدأ بعد خروج القوات الأمريكية من العراق خلال فترة أوباما، كانت سياسية أوباما “عدم وضع قدم على الأرض”، سببًا في تمكين “المليشيات الممولة من إيران لتسيطر على الأرض التي كانت تتحكم فيها المقاومة المسلحة ضد الولايات المتحدة قبل خروجها، ليبرز نموذج مماثل لنموذج “حزب الله” في لبنان، ثم أصبحت هذه المليشيات جزءًا من الحشد الشعبي بعد سقوط الموصل عام 2014″. كان ذلك تحولًا كبيرًا بالفعل، لأنه عنى إزاحة العبئ المالي عن إيران مع الحفاظ على ولاء تلك الفصائل تجاه طهران. ورغم أن الحشد وقوامه 100 ألف عنصر يضم عناصر وطنية كثيرة، لكن التيار المسيطر على تحركاته عناصر ولائية لإيران، لم تخف يومًا أنها تتلقى رواتبها من القائد العام للقوات المسلحة، وأوامرها من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية.
كانت نتيجة ذلك ككل، أن توجيه العراق بالمجمل تحول تلقاء إيران. لا يمكن للعراق تطوير صناعة الغاز والكهرباء لأن ذلك يضر إيران المحاصرة، بالتالي يعتمد العراق على إيران في ثلث إمدادات الطاقة منها، يضاف إلى القائمة المحاصيل الزراعية، الصناعة، الحديد والصلب، البتروكيماويات، الإلكترونيات، كلها يعتمد فيها العراق على طهران، يصل مجموع التبادل التجاري بين العراق وإيران إلى 12 مليار دولار، بوجود خطط لرفعه إلى 20 مليار دولار، ولا يحتاج الأمر كثير عناء لمعرفة أن النسبة الأكبر من هذه الأموال هي صادرات إيرانية أكثر منها عراقية.
هوية ثقافية جديدة
ينقسم الشارع العراقي اليوم إلى ثقافتين رئيسيتين: واحدة موالية لإيران، وأخرى مدنية وطنية. تخوض إيران وسط ذلك صراعًا شرسًا لفرض هويتها. في كل مكان في العراق، يمكنك رؤية صور القادة الإيرانيين والولائيين، خطوة ليست عبثية، إنما جزء من ترسيخ أبطال جدد غير الذين تربى عليهم الجيل القديم، أبطال ولائيون في معارك لا علاقة لها أحيانًا بالعراق وأبطال غير عراقيين في أحيان أخرى أصلًا.
لا عجب أن يعاني المشروع الإيراني فكريًا في العراق، ولا عجب أن يزول نهائيًا يوماً ما
لكن، رغم السيطرة الكبيرة التي تبدو عليها إيران، إلا أنها تواجه بالضبط ما واجهته الهوية القومية التي اعتمدها صدام حسين بعد حرب الكويت، فرغم الموارد الكبيرة التي يملكها العراق، لكنه من أسوأ البلدان في العالم، تحتل بغداد عامًا بعد عام العاصمة الاسوء للسكان والصحفيين، الجواز العراقي ينافس في المراتب الأخيرة بين الأسوء مع سوريا وأفغانستان، نسبة البطالة والفساد وانعدام الخدمات هي الأعلى في العالم، والأهم: انسداد الأفق وغياب الأمل أمام الشباب.
كل ذلك أضعف بصورة كبيرة كل الجهود التي بذلتها إيران لتحويل بوصلة العراق نحوها. مثلت الاحتجاجات الكبيرة في تشرين 2019 مؤشرًا خطيرًا على توجه الرأي العام في العراقي، خاصة وأن بؤرة الاحتجاجات كانت في الجنوب، حيث يستهدف النفوذ الإيراني الجمهور، كما مثل التصدي المسلح العنيف للثورة، مؤشرًا كبيرًا على مدى عجز القوة الناعمة الإيرانية في تسيير جمهور الجنوب.
والسبب في ذلك أن إيران لم تحسن فهم التغيرات السريعة التي طرأت على المجتمع العراقي. فجيل 2020 ليس ذاته جيل 2003. لم يعيش هؤلاء الشبان فترة صدام ولا شهدوا تهجير التبعية لإيران، وكثير منهم لا يعرف متى وقعت الحرب العراقية الإيرانية ولا يعرف شيئًا عن الصراع العربي الإسرائيلي. جيل يستخدم الانترنيت بكثافة، ويرى نظراءه من دول الخليج يسافرون عبر أوروبا وأمريكا للدراسة أو العمل أو السياحة دونما قيد أو شرط، بينما يقبع هو داخل البلد محروم من أبسط الاحتياجات الرئيسية، يخرج إلى الشارع بعدها لتتلقاه الدعايات الإيرانية في محاربة الشيطان الأكبر و”إسرائيل” ونصرة المذهب التي راح ضحيتها المئات في سوريا لتثبيت حكم بشار الأسد، بينما هو يكد يومًا كاملًا ليجد بالكاد قوت نفسه وعائلته!
لا عجب إذن أن يعاني المشروع الإيراني فكريًا في العراق، ولا عجب أن يزول نهائيًا يومًا.. وأن تعود البوصلة إلى مكانها فهذا هو السياق الطبيعي.. لكن السؤال الأهم: كم سيدفع العراق ثمنًا لذلك؟