تصعيد جديد تشهده العلاقات التركية الأوروبية استمرارًا لحالة التوتر المستمرة منذ عدة أشهر بسبب النزاع على الغاز في شرق المتوسط بين تركيا من جانب، واليونان وقبرص من جانب آخر، فيما تواصل فرنسا مساعيها التحريضية لفرض عقوبات أوروبية ضد الجانب التركي.
بالأمس أجرى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع مبدئي لهم، تقييمًا، لمسألة فرض عقوبات على أنقرة، في محاولة لحملها على تقديم تنازلات بشأن موقفها من عملية التنقيب عن الغاز في المتوسط، فيما تم إرجاء القرار النهائي للقمة المفترض عقدها يومي 10 و11 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
وقد تحدث سياسيون أوروبيون عن ضرورة انتهاج سياسة “العصا والجزرة” مع تركيا إزاء أزمة المتوسط، وهو الطرح الذي رفضته أنقرة التي أكدت أنها ليست هذا النوع من الدول التي يتم التعامل معها بتلك الاستراتيجية، محذرة من أن أي تصعيد سيكون له تداعيات سلبية على الجميع.
الحديث عن تقليم أظافر تركيا من خلال التلويح بفرض عقوبات بين الحين والآخر ليس الأول من نوعه، في الوقت الذي ينفخ فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإشعال النار بين الاتحاد وأنقرة، الأمر الذي ربما يضع المنطقة بأسرها فوق برميل بارود قابل للاشتعال في ظل تشبث الجانب التركي بحقوقه في التنقيب عن الغاز في مياه المتوسط.. فإلى أين تسير الأمور؟
الحوار هو الحل
المفوض الأعلى للسياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي -جوزيب بوريل- في أول تعليق له على ما يثار بشأن فرض عقوبات على أنقرة قال “يحزنني أن أقول إننا لم نرَ تقدما منذ آخر قمة أوروبية، الدبلوماسية أُوجدت لحل الخلافات سلميًا عبر الحوار، ونحن نحاول القيام بذلك”.
بوريل في تصريحاته التي أدلى بها عقب اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أمس، في العاصمة البلجيكية بروكسل، رفض إعطاء أي تفاصيل عن الإجراءات المزمع اتخاذها في قمة الخميس والجمعة المقبلين، مضيفًا أنه قد تمت مناقشة المستجدات الراهنة في شرق البحر المتوسط وتأثير ذلك على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، لافتًا إلى أن تقييم وزراء خارجية الاتحاد لتركيا ليس إيجابيًا في ظل استمرار أنشطة البحث والتنقيب التركية.
بدوره أشار وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، إلى أن جهودًا كبيرة بذلتها بلاده لفتح حوار بين تركيا والاتحاد الأوروبي، غير أن استمرار التوتر وتصاعده بين أنقرة وأثينا ونيقوسيا حال دون بدء هذا الحوار، بجانب بعض الاستفزازات التي وقعت من الأطراف الثلاثة خلال الفترة الماضية.
وأكد ماس الذي تقود بلاده القمة الحالية للتكتل الأوروبي على مواصلة الاتحاد الحوار مع تركيا، في ظل انقسام في الرؤى بشأن الموقف من تلك الأزمة، لافتًا إلى أنه يرغب في حدوث إجماع تام بين أعضاء هذا الكيان بشأن استراتيجية الرد على التحركات التركية في مياه المتوسط.
ما كان لأثينا أن تصعد من نبرتها العدائية ضد أنقرة إلا بتحريض فرنسي خالص، حيث شهدت العلاقات بين البلدين خلال الأونة الأخيرة تقاربًا كبيرًا، بجانب القاهرة، وهو ما تراه اليونان تقوية لموقفها في نزاعها المائي مع تركيا
تصعيد يوناني بتحريض فرنسي
وفي المقابل تواصل أثينا تصريحاتها التحريضية ضد الجانب التركي، مناشدة الاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراء عاجل بشأن ما وصفته بـ “سلوك تركيا المشين” كما جاء على لسان وزير خارجية اليونان نيكوس دندياس، الذي أضاف أن أنقرة تقاعست عن الرد على بوادر حسن النية التي أبداها الاتحاد الأوروبي.
فيما أكد رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، أن بلاده نجحت في تحويل خلافها مع تركيا حول شرق المتوسط إلى خلاف تركي أوروبي، وهو ما يراه انتصارًا يحسب لحكومة بلاده، من الممكن أن يدشن تحالف قوي يدافع عن مصالح اليونان.
ميتسوتاكيس قال إن “معظم الأوروبيين يقفون إلى جانب أثينا. وحلفاؤنا كثر” وذلك تعليقًا على احتمالية استخدام بعض الدول الأوروبية حق النقض ضد العقوبات على تركيا، لافتا إلى أن استمرار التوتر لن يكون في صالح الأتراك، وعلى حكومة الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان أن تعيد تقييم علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.
وفي المقابل لفت رئيس الحكومة اليونانية أن بلاده على استعداد للحوار مع الجانب التركي حول تحديد الجرف القاري ومناطق الصلاحية البحرية، محذرًا أنه في حال عدم التوصل إلى حلول مرضية للطرفين، فإنهم مستعدون للذهاب إلى محكمة العدل الدولية.
وعن سحب تركيا لسفينة التنقيب “أوروتش رئيس” أشار إلى أن هذا التحرك تم قبل 10 أيام فقط من قمة الاتحاد الأوروبي، لافتا إلى أنه على انقرة اتخاذ خطوات ملموسة وجادة قبل مدة زمنية كافية من عقد القمة وذلك لتخفيف التوتر بين الأطراف المتنازعة.
جدير بالذكر أنه ما كان لأثينا أن تصعد من نبرتها العدائية ضد أنقرة إلا بتحريض فرنسي خالص، حيث شهدت العلاقات بين البلدين خلال الأونة الأخيرة تقاربًا كبيرًا، بجانب القاهرة، وهو ما تراه اليونان تقوية لموقفها في نزاعها المائي مع تركيا، إذ بات من الواضح أن ماكرون يستخدم هذا الملف لتصفية حسابات شخصية مع نظيره التركي بعيدًا عن مسألة الحقوق القانونية والتاريخية، وهو الأمر ذاته مع أرمينيا في أزمة قرة باغ.
تركيا ترفض التهديد
من جهته رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما أسماه “الابتزاز” الأوروبي، مؤكدًا أن بلاده “لن ترضخ للتهديدات”، إلا أنه في الوقت ذاته كرر دعوته للحوار والتفاوض على المطالبات المتعارضة بشأن الجرف القاري والحقوق المائية.
أردوغان طالب الاتحاد الأوروبي بالإسراع من أجل التخلص مما وصفه بـ “العمى الإستراتيجي” بشرق المتوسط، مشيرًا إلى أنه لا ينبغي على الاتحاد أن يقزم دوره في الانصياع لأهواء اليونان وقبرص، داعيًا إلى الابتعاد عن سياسة الإقصاء، وإلى جمع كل الفاعلين في المنطقة على طاولة المفاوضات.
الموقف ذاته أكد عليه وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو، الذي ألمح إلى رغبة أنقرة بالحوار مع اليونان لحل الخلافات القائمة في شرق المتوسط، وفي كلمته أمس خلال ورشة العمل التي نظمتها “جامعة أكدنيز” بولاية أنطاليا بالتعاون مع مجلس الجامعات الدولي، بخصوص شرق المتوسط قال “إن تركيا دعت اليونان قبل أشهر لإطلاق محادثات رسمية بشأن خلافات شرق المتوسط، إلا أن أثينا سارعت إلى عقد اتفاقية مع مصر”.
في الوقت الذي يصعد فيه البعض تجاه أنقرة هناك آخرون تتميز علاقاتهم مع الأتراك بالقوة والمتانة، مثل إيطاليا، هذا بجانب دول أخرى لا تريد التصعيد مع أردوغان كألمانيا
الوزير التركي ألمح إلى استمرار اليونان في استفزازاتها رغم كافة مبادرات حسن النية التي أظهرتها تركيا خلال الأشهر الماضية، والتي على رأسها سحب سفن التنقيب من المياه المتنازع عليها، قائلًا: “اليونان قالت إنها لن تدخل في محادثات مع تركيا طالما تواصل سفينة الريس عروج فعاليات التنقيب في شرق المتوسط، وعندما سحبنا السفينة بدأت أثينا بابتداع حجج أخرى للهروب من طاولة الحوار”.
كما شدد على ضرورة وقف الاتحاد الأوروبي دعمه غير المشروط لليونان وقبرص، وأن يكون لهذا الكيان الأوروبي الكبير دوره البنًاء في الحل من خلال وساطة عادلة غير متحيزة، مجددًا تأكيده على أن بلاده تأمل في خلق أجندة إيجابية مع كافة دول المنطقة بما في ذلك اليونان.
محددات تحكم قرار فرض العقوبات
ربما يكون الخطاب الأوروبي تجاه أنقرة حادًا وجادًا، وقد يحمل رسالة سياسية خلال القمة المزمعة بعد أقل من 48 ساعة، في ظل وجود خطاب مرتفع السقف من فرنسا التي تدفع نحو حشد كافة الأطراف الأوروبية ضد تركيا، بجانب قبرص التي علقت موافقتها على فرض عقوبات على بيلاروسيا بالموافقة على فرض أخرى على الجانب التركي، لكن هناك محددات تحكم مسألة اتخاذ قرار بفرض عقوبات لا تتماشى وهذا السقف المرتفع.
المحدد الأول هو عدم وجود موقف أوروبي موحد داخل الاتحاد بشأن تركيا، ففي الوقت الذي يصعد فيه البعض تجاه أنقرة هناك آخرون تتميز علاقاتهم مع الأتراك بالقوة والمتانة، مثل إيطاليا، هذا بجانب دول أخرى لا تريد التصعيد مع أردوغان كألمانيا التي ترأس الدورة الحالية والتي أعربت عن دعمها لمسار الحوار.
هذا بجانب محدد سياسي آخر يتمثل في تجنب دول أوروبا التداعيات السلبية للضغط على تركيا من خلال فرض عقوبات، الأمر الذي قد يدفعها إلى الانضمام بشكل رسمي إلى التحالف الشرقي والذي يضم روسيا والصين وإيران، وهي الدول التي وقعت عليها عقوبات مماثلة أيضا من قوى غربية، وعليه لا تريد أوروبا أن تفقد أنقرة كحلقة وصل يمكن الاستعانة بها خلال الحوار مع المعسكر الشرقي في كثير من الملفات الإقليمية والدولية.
محدد أمني ثالث يتمحور في احتضان تركيا للملايين من الفارين من ويلات أنظمتهم الديكتاتورية في الشرق الأوسط، والتي قد تجد نفسها مضطرة لفتح الحدود أمامهم لمغادرتها إلى دول أوروبا في حال تعرضها لأي عقوبات اقتصادية من شأنها أن تفقدها القدرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه تلك الملايين من المقيمين فوق أراضيها.
وهناك محدد اقتصادي أخير ربما يلقي بظلاله على خطوة اتخاذ قرار بفرض عقوبات رسمية، فالترابط الاقتصادي بين تركيا وأوروبا قد يكون عامل ضغط قوي للحيلولة دون تجاوز التصعيد لخطوطه الحمراء، فكما أن الاتحاد الأوروبي يمثل السوق الأكبر للاقتصاد التركي، فإن تركيا في الوقت ذاته تعتبر الممر الآمن للغاز الطبيعي من دول القوقاز إلى أوروبا، وبخاصة بعد أزمة الأخيرة مع روسيا، ولجوء موسكو لاستخدام الغاز كورقة ضغط في إدارة الصراع.
وتشير الإحصائيات إلى أن دول الاتحاد باتت الوجهة الأساسية للصادرات التركية، وخاصة ألمانيا، التي تقع على رأس تلك الدول بنسبة 8.6% تليها بريطانيا بنسبة 5.7%، هذا بجانب الاستثمارات المباشرة المتبادلة بين الجانبين، الأمر الذي يعمق من أواصر تلك العلاقات ويجعل من المغامرة بها مسألة صعبة للغاية لاسيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي تحياها معظم اقتصاديات العالم الباحثة عن وسائل للتحفيز وليس خسارة شركاء لهم ثقلهم الكبير.
بالمحصلة.. من المتوقع أن يتخذ الاتحاد قرارًا من شأنه أن يُرضي غرور بعض قادة وحكومات دول القارة العجوز، لكنه لن يرتقي لمستوى العقوبات المتوقعة وفق الخطاب الفرنسي القبرصي اليوناني، وفي الناحية الأخرى ليس أمام أنقرة سوى إعادة التموضع مرة أخرى بما لا يزيد من أجواء التوتر مع الاتحاد وذلك عبر اتخاذ خطوات من شأنها إظهار المزيد من إجراءات حسن النوايا تجاه التوصل إلى تهدئة حقيقية في هذا الملف الذي يتم تغذيته بين الحين والأخر بوسائل إشعال متعددة الجوانب والأهداف.