تُثير لائحة الأوروبيين حول الوضع في الجزائر، تساؤلات حول الأسباب التي تقف وراء تسليط الاتحاد الأوروبي الضوء على كل ما يتعلق بالجزائر، خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي يوجه فيها الأوروبيون سهامهم نحو البلاد حيث سبق وأن أصدروا لائحة حول الوضع السياسي في البلاد عشية الانتخابات الرئاسية التي جرى تنظيمها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
آنذاك عبر الأوروبيون من مقرهم في ستراسبورغ، عن قلقهم حيال وضعية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الجزائر، وانتقدوا الاعتقالات التي وصفوها بـ “التعسفية وغير القانونية”.
وقتها، خصص قائد الجيش الراحل قايد صالح، الرجل القوي في تلك المرحلة بعد تنحي بوتفليقة عن الحكم في الثاني من أبريل (نيسان) 2019، حيزاً من أحد خطاباته للرد على البرلمان الأوروبي، قال فيه: “الجزائر حرة مستقلة في قراراتها، لا تقبل أي تدخل أو إملاءات، ولن تخضع لأي مساومات من أي طرف أياً كان”. كما وصفت وزارة الخارجية اللائحة بـ”الوقحة”، وهدّدت بمراجعة علاقاتها بالمؤسسات الأوروبية، في تصعيد غير مسبوق.
وللمرة الثانية على التوالي، وظف البرلمان الأوروبي الملف الحقوقي المتعلق بالحريات الدينية والإعلامية، حيث صادق الأوروبيون بأغلبية ساحقة، الخميس الماضي، على لائحة جديدة تُسلطُ الضوء على وضعية حُقوق الإنسان في الجزائر، وانتقدوا المُقاربة الأمنية التي تتبناها السلطات العمومية في التعاطي مع احتجاجات الحراك الشعبي التي شهدتها البلاد خلال العام الماضي، وإلى المُلاحقات التي طالت عدد من الناشطين والمُتظاهرين.
البرلمان الأوروبي تطرق أيضًا إلى إغلاق السُلطات الجزائرية لتسع كنائس مسيحية وإصرار الرئيس الجزائري على مراجعة الشراكة الجزائرية الأوروبية، وطالبها بالتقيد بالاتفاقيات الدولية التي تنص على احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإقامة حوار دائم في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والقضاء المستقل واحترام الحريات الأساسية وحرية الصحافة والحد من استخدام القضاء والأخبار الكاذبة كذريعة التضليل لعرقلة حرية التعبير وحرية الصحافة.
سبب التوتر المزمن بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، يعود أيضًا إلى موقف الجزائر تجاه القضايا العادلة كالقضية الفلسطينية ورفض الجزائر التطبيع مع “إسرائيل”
فرنسا رأس الحربة
ما إن أفرج البرلمان الأوروبي على اللائحة، حتى ردت الخارجية الجزائرية بقوة، وقالت في بيان لها إن “هذه اللائحة من شأنها الإساءة لعلاقات الجزائر وشركائها الأوروبيين”، وجاء في البيان: “لا يمكن لأي مؤسسة أوروبية التدخل بهذه الطريقة الفظة وغير المقبولة في شؤوننا الداخلية”، وشددت الخارجية الجزائرية على أن الجزائر تربطها علاقات تقوم على الاحترام المتبادل مع أوروبا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر.
أصابع الاتهام وجهت كُلها نحو فرنسا، إذ قالت الخارجية الجزائرية إن “لهجة الوثيقة عدائية وتحمل عقلية أبوية تعود للحقبة الاستعمارية تجاه الشعب الجزائري وخياراته السيادية”.
كذلك اتهم الناطق باسم الحكومة الجزائرية، عمار بلحيمر، فرنسا صراحة بالوقوف وراء لائحة البرلمان الأوروبي، إذ قال في حديث مع وكالة الأنباء الجزائرية (الرسمية)، أن الجزائر تتعرض لـ”وابل متدفق من التهجمات اللفظية التي تأتي من فرنسا والتي تتم عبر قنوات عدة هي البرلمان الأوروبي ومنظمات غير حكومية وكذا الشبكات الاجتماعية ومُؤثريها الباريسيين”.
وأكد وزير الاتصال الجزائري، عمار بلحيمر على أنها المرة الأولى التي تُحاول فيها جماعات ضغط في البرلمان الأوروبي النيل، دون جدوى، من الجزائر من خلال حقوق الإنسان والحريات الفردية عن طريق لوائح مماثلة أضحت مع مرور الوقت مملة ومُثيرة للإحساس بالتكرار.
ويعتبر ما جاء على لسان الناطق الرسمي للحكومة الجزائري، الذي قدم العشرات من الأدلة التي تثبت التورط الفرنسي في لائحة البرلمان الأوروبي، أول تصريح جزائري رسمي، يوجه أصابع الاتهام مباشرة نحو فرنسا، ما يعني أن العلاقة بين الجزائر وباريس قد دخلت النفق المظلم مجددًا.
وبات الجزائريون ينظرون بعين الريبة للدور الفرنسي في بلادهم، حيث تزامن صدور لائحة البرلمان الأوروبي مع تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمجلة “جون أفريك” تعهد فيها على مساعدة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي وصفه بـ “الشُجاع” في إدارة ما سماها (مرحلة انتقالية)، وهي التصريحات التي لم تهضمها المعارضة الجزائرية واعتبرتها تدخلًا مباشرًا في الشأن الداخلي للبلاد.
وقال رئيس حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” الذي يعرف اختصارًا بـ “الأرسيدي”، “محسن بلعباس” إن تصريحات ماكرون دليل قاطع على أن فرنسا تدير خريطة طريق لبلدنا، وطالبها بوقف التدخلات في الشؤون الوطنية.
وشن رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد)، عبد الرزاق مقري، هجومًا لاذعًا على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعلى لائحة الاتحاد الأوروبي، وذكر مقري، في مؤتمر صحفي، انعقد بمقر الحزب في أعالي العاصمة الجزائرية الأسبوع الماضي، أن اللائحة كتبت بأسلوب استعماري من خلال إعطاء الأوامر بطريقة غير أخلاقية، وأنه لا يمكن لجزائري حر أن يقبل بها”.
تعتبر الجزائر الدولة الوحيدة غير عضو في رابطة الفرنكفونية واكتفت بمقعد مراقب رُغم أنها أكبر مستعمرة فرنسية سابقة
أسباب أخرى
سبب التوتر المزمن بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، يعود أيضًا إلى موقف الجزائر تجاه القضايا كالقضية الفلسطينية ورفض الجزائر التطبيع مع “إسرائيل” وكذلك القضية الصحراوية، إضافة إلى رغبتها في تصحيح الجانب التجاري من اتفاق الشراكة الأوروبي.
رئيس حزب جيل جديد، سفيان جيلالي، يقول في الموضوع في حديث لـ”نون بوست” إن الأوروبيين يحاولون استغلال غياب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ويشير إلى أن الخطوة الأوروبية الأخيرة تحمل في طياتها نوايا سيئة ضد الجزائر بسبب مواقفها الأخيرة.
ويذكر جيلالي سفيان قرار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون القاضي بإعادة النظر في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بما يضمن المصالح للجزائر التي تضررت كثيرًا من هذا الاتفاق وتكبدت خسائر فادحة.
وتكشف أرقام رسمية صادرة عن الجمارك الجزائرية، أن قيمة الصادرات الجزائرية نحو القارة العجوز تبلغ 650,4 مليون دولار فقط، بينما تقدر الواردات الجزائرية وفق النظام التفضيلي بـ 7,4 مليار دولار، وهو ما يعني عجزًا بأكثر من 4 ملايير دولار.
إضافة إلى ذلك، يذكر رئيس حزب جيل جديد تمسك الجزائر بمواقفها إزاء بعض القضايا على غرار القضية الصحراوية والقضية الفلسطينية، وكذلك رفضها التطبيع مع “إسرائيل” وهو الموقف الذي أزعج الكثير من الدول المطبعة وهي تسعى اليوم جاهدة لممارسة ضغوطات عليها بهدف التراجع عن هذه المواقف.
ومن جهته يثير الباحث في الشؤون السياسية والأمنية مبروك كاهي، في حديث لـ “نون بوست” مسألة الانزعاج الأوروبي من التقارب الجزائري الروسي، فالعلاقات القوية بين روسيا والجزائر وضعت الاتحاد الأوروبي بين فكي كماشة روسيا وحليفها في الضفة الجنوبية للمتوسط.
وتحولت الجزائر في السنوات الأخيرة إلى حليف إستراتيجي لروسيا خاصة في المجال العسكري، وتصنف الجزائر في خانة المشترين الخمس الأوائل للأسلحة الروسي، وتتجاوز نسبة المعدات التي تتلقاها الجزائر من روسيا 80 بالمائة، ولا يقتصر التعاون بين البلدين على المجال العسكري بل أخذ أبعادًا سياسية في السنوات الأخيرة، وشمل التنسيق عدد من قضايا منطقة شمال إفريقيا كالقضية الليبية ومؤخرًا قضية الصحراء الغربية حيث أعلنت روسيا توافقها مع الجزائر في هذا الملف.
ويستحضر أيضًا مبروك كاهي مسار المفاوضات الأورومغاربية، ويقول إن تونس والمغرب اندمجتا بدون تحفظ منذ اتفاق برشلونة سنة 1994، غير أن الجزائر تأخرت لظروف أمنية وتحفظت على بنوده، ويذكر محدثي أيضًا العراقيل التي يفرضها اللوبي الفرنسي المعادي لكل اندماج بحيث تعتبر الجزائر الدولة الوحيدة غير عضو في رابطة الفرنكفونية واكتفت بمقعد مراقب رُغم أنها أكبر مستعمرة فرنسية سابقة من حيث عدد السكان، كما أن الجزائر تعتبر الدولة العربية الوحيدة التي ترفض أي علاقات مع “إسرائيل” سواء مباشرة أو غير مباشرة وهو ما يغضب بعض الأوساط الأوروبية.
ومن بين الأسباب الأخرى التي جعلت الاتحاد الأوروبي يتطاول في كل مرة على الجزائر، ضعف الرد الجزائري وعدم استخدام أوراقه الضاغطة على المصالح الأوروبية، يذكر منها الباحث في الشؤون السياسية والأمنية اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الممضية عام 2002 والتحفظ على بعض البنود الواردة فيها والتي لا تصب في مصلحة الجزائر، إضافة إلى عدم التعاون في مجال مكافحة الهجرة غير السرية ورفض المهاجرين قسريًا لاسيما أولئك الذين لا يملكون أوراق ثبوتية وتعزيز التعاون أكثر مع روسيا وتركيا وإعادة بناء علاقات براغماتية.