ترجمة وتحرير نون بوست
لن يكون هناك سوى عدد قليل من الاحتفالات المخطط لها لإحياء الذكرى السنوية العاشرة لثورات ما يسمى بالربيع العربي التي اجتاحت المنطقة في أواخر سنة 2010 وأوائل سنة 2011. ويبدو أن أيام شاشات التلفزيون التي كانت تبث مشاهد الساحات المليئة بالحشود التي تردد هتافات من قبيل “الشعب يطالب بإسقاط النظام” قد أصبحت من التاريخ الغابر. فقد تبددت الآمال الأولى للتغيير الثوري بسبب القوة الغاشمة للانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والدول الممزقة. وفي سنة 2021، قد يكون هناك القليل من التطلعات المشتركة عالميا مقارنة بالانتفاضات العربية الفاشلة.
من السهل فهم جاذبية هذه الفكرة التي روجت لها بحماس الأنظمة الأوتوقراطية والواقعيون في السياسة الخارجية على حد سواء. وهذا يعني العودة إلى أساليب العمل المعتادة. يُذكر أن إدارتي أوباما وترامب قد تبنتا ضمنيا هذه النظرة من خلال توجيه تركيزها إلى أهداف أخرى في المنطقة – أولا المفاوضات النووية مع إيران، ثم تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل. لكن هذا الاستنتاج هو آخر ما توصلت إليه سلسلة من الاستنتاجات السابقة لأوانها. فقبل سنة 2011، اعتبر معظم المحللين استقرار الأنظمة الاستبدادية العربية أمرا بديهيا، بيد أن هذا الأمر كان خطأ.
على الرغم من أن الانتفاضات الشعبية قد أسفرت عن إسقاط أربعة حكام مستبدين استمر حكمهم لفترة طويلة – وهم زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن – إلا أن بعض المراقبين سارعوا إلى افتراض وصول موجة ديمقراطية لا يمكن وقفها، بينما حذر آخرون من أن التحول الديمقراطي من شأنه أن يُمهّد الطريق لهيمنة الإسلام السياسي. ولكن هاتان النظريتان كانتا خاطئتين.
في سنة 2012، اعتقد معظم المراقبين أن نهاية نظام بشار الأسد السوري قد اقتربت، ولكنهم كانوا مخطئين. وفي سنة 2013، زعم مؤيدو الانقلاب العسكري في مصر أنه سوف يعيد البلاد إلى مسارها نحو الديمقراطية، ولكن هذا الاعتقاد لم يكن صائبًا أيضا.
في خضم الانتفاضات الثورية التي شهدتها الدول العربية قبل عقد من الزمن، شعرت وكأن المنطقة قد تغيرت إلى الأبد. فقد انهار جدار الخوف الاستبدادي، وبدا أن المواطنين العرب المتمكنين لن يتسامحوا مطلقا مع الحكم الاستبدادي. لكن في غضون بضع سنوات، تبددت تلك الآمال: فقد أنهى انقلاب عسكري في مصر تجربتها الديمقراطية الوليدة، وتحولت عمليات الانتقال الهشة في ليبيا واليمن إلى حرب أهلية؛ بينما انزلقت سوريا في مزيج مرعب من التمرد والحرب الدولية بالوكالة. وفي نهاية المطاف، استرجع الحكام المستبدون في مختلف أنحاء المنطقة معظم السلطة التي فقدوها.
في المقابل، لابد من الإقرار بأن الإجماع على أن الانتفاضات العربية آلت إلى الفشل سابق لأوانه أيضا، ومن المرجح أن يتأكد ذلك في الوقت المناسب. بعبارة أخرى، لا ينبغي لنا أن نقيس آثار الانتفاضات من خلال الأنظمة التي اُطيح بها أو الانتخابات الديمقراطية التي أجريت، على الرغم من أن هذا التأثير لا يستهان به. وحقيقة أن الحكام المستبدين قد احكموا قبضتهم مرة أخرى على السلطة في الشرق الأوسط ليست دليلا على فشل الانتفاضات. لم تكن الديمقراطية سوى جزء واحد من مطالب المحتجين. وقد انخرطت الحركة الثورية في صراع امتد لأجيال للتعبير عن رفضهم للنظام الإقليمي الذي لم ينتج عنه سوى الفساد، والحوكمة الكارثية، والفشل الاقتصادي.
من خلال هذا المعيار، ساهمت الانتفاضات بشكل كبير في إعادة تشكيل كل بُعد ممكن للسياسة العربية، بما في ذلك المواقف الفردية والأنظمة السياسية والأيديولوجيات والعلاقات الدولية. قد تحجب أوجه التشابه الظاهرية عمق هذا التغيير، لكن الحال الذي أصبح عليه الشرق الأوسط اليوم لم يكن أمرا متوقعا بالنسبة للمراقبين منذ عام 2010. فقد ضمنت القوى التي تحركت في سنة 2011 فعليا أن العقد المقبل سوف يشهد تحولات عميقة – وهي تغييرات من شأنها أن تربك أي سياسة قائمة على الأنظمة الاستبدادية القديمة.
مع استمرار الصراعات وتراجع الزخم الثوري، انتصرت في النهاية الآلة العسكرية والمالية الساحقة لمعظم الأنظمة العربية
حقيقة ما حدث
بعد عقد من الآمال المحطمة، أصبح من السهل فعليا نسيان مدى قوة وحماسة الانتفاضات الشعبية التي بدأت في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2010. وبحلول أواخر سنة 2010، كان من الواضح أن العالم العربي يعاني من إحباط شعبي متنامي ومن اتساع فجوة التفاوت الاقتصادي، في الوقت الذي اعتقد فيه حكام المنطقة أنهم قادرون على تقويض أي تهديد محتمل لوجودهم – مثلما كانت تعتقد الأوساط الأكاديمية التي كانت تَدرس أنظمتهم والناشطين الذين كانوا يعارضونهم.
لم يكن أحد مستعدا للحجم الهائل للاحتجاجات ولسرعة انتشارها وللزخم الذي اكتسبته، حيث اندلعت في وقت واحد في جميع أنحاء المنطقة. وقد عملت محطات التلفزيون الفضائية العربية على غرار قناة الجزيرة ومنصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر على تسريع اندلاع هذه الانتفاضات، من خلال بثّ الصور والأفكار والعواطف بسرعة في كل الأنحاء. من جهتها، لم تستطع الأنظمة التي كانت مستعدة جيدا للاضطرابات المحلية المعزولة، السيطرة على الأعداد الغفيرة من المواطنين الذين اجتاحوا الشوارع ورفضوا التراجع. وعندما رفضت بعض الجيوش القتل من أجل رؤسائهم المحاصرين، أعلن الشعب عن انتصاره.
ساهمت الانتصارات التي تم توثيقها في كل من تونس ومصر، حيث نجحت الاحتجاجات الجماهيرية في إسقاط الحكام المستبدين المتأصلين وتمهيد الطريق للانتخابات، في احتشاد المحتجين في البلدان العربية الأخرى. من الصعب استعادة المجد الذي ميّز تلك اللحظات، والإحساس الجديد بالانتماء إلى المجتمع الذي وُلد من فوضى ميدان التحرير في القاهرة، ودوار اللؤلؤة في البحرين، وشارع الحبيب بورقيبة في تونس، وساحة التغيير اليمنية. لقد بدا كل شيء ممكنا، وأن التغيير حتمي. فقد كان الحكام المستبدون مرعوبين، ولم يكن أي شيء – لا الدعم العسكري الأمريكي ولا الأجهزة الأمنية ولا حتى مخاوف المتظاهرين وانقساماتهم – قادرًا على إيقاف الانتفاضات.
لكن لم يتبع أي بلد آخر المسار الذي سلكه التونسيون والمصريون. دعمت القوى الإقليمية الأنظمة القديمة في جهودها الرامية لإفشال الانتفاضات، ولم يفعل الغرب شيئًا لوقف تلك الجهود. واعتمدت حكومات ضعيفة مثل الأردن والمغرب، على الدعم المالي والسياسي من دول الخليج لمجابهة الحركات الاحتجاجية، مع تمرير إصلاحات دستورية متواضعة لتهدئة مواطنيها.
سحق النظام الملكي في البحرين بعنف الانتفاضة الشعبية المناهضة للحكومة مع إطلاق العنان لموجة من القمع الطائفي. أما في ليبيا، فقد وجّه القذافي كل قوّته العسكرية ضد المتظاهرين، وهو ما أدّى إلى تصعيد المواجهة وإلى حرب أهلية وتدخل أجنبي. أما اليمن فقد تردّى في نفق دموي وانقسم جيشه بعد أشهر من الاحتجاجات.
مع استمرار الصراعات وتراجع الزخم الثوري، انتصرت في النهاية الآلة العسكرية والمالية الساحقة لمعظم الأنظمة العربية. ثم سعت الحكومات الناجية من موجة الانتفاضات إلى الانتقام ومعاقبة النشطاء الذين تجرأوا على تحدي حكمهم، وكان الهدف زرع الخوف في النفوس مجددا وسحق الأمل في التغيير. ولم تفعل الولايات المتحدة شيئا يُذكرعندما أطاح الجيش المصري بالرئيس المنتخب محمد مرسي وقتل مئات المتظاهرين في وسط القاهرة، ولم تتجرأ إدارة أوباما حتى على وصف ما حدث بأنه انقلاب.
كان الوضع الأكثر مأساوية مقارنة بالدول العربية الأخرى. فما بدأ كحركة احتجاجية سلمية ضد حكومة الأسد، تحول تدريجيا إلى حرب أهلية وعنف على كل الجبهات. وكان للحرب الأهلية تكاليف باهظة، حيث خلفت مئات الآلاف من القتلى، وملايين اللاجئين، وساهمت في انتشار كل أشكال التعصب الطائفي، وإلى بروز الحركات الجهادية. وقد كانت الفظائع في سوريا فزاعة استغلها الحكام المستبدون بالشكل الأمثل.
بحلول سنة 2013، ونتيجة انزلاق سوريا في فوضى عارمة، والانقلاب العسكري ضد محمد مرسي في مصر، ترسّخ واقع جديد. لقد انتصر المستبدون، وفشلت الانتفاضات، وتحول الربيع العربي إلى شتاء عربي.
في تونس، فقد اعتمد حزب النهضة استراتيجية مختلفة لامتصاص الضغوط، وتنحى رئيس الوزراء لمنع احتدام الصراع السياسي المتصاعد.
الإسلاميون
هناك بعض الديناميكيات الأخرى التي توضح مسار الانتفاضات الشعبية في العالم العربي. في البداية شارك الإسلاميون بقوة في الأنظمة الديمقراطية الجديدة، إلا أن أغلبهم تعرض للإقصاء من قبل الأنظمة الاستبدادية الناشئة، أو عجز عن التأقلم مع الديمقراطيات الانتقالية، وهو أمر عزّز الشعور بفشل الانتفاضات.
في العقد الذي سبق سنة 2011، كانت الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين – وهي حركة مؤثرة تأسست في مصر في عشرينيات القرن الماضي- القوة المعارضة المهيمنة في العديد من الدول العربية. جعلت منهم مهاراتهم التنظيمية، وقدرتهم على تقديم الخدمات الاجتماعية، وما عرفوا به من نزاهة وخلفية دينية، قوة سياسية ذات تأثير هائل. ابتداءً من التسعينيات، قدمت الجماعة حججًا مقنعة تُبين توافق الإسلام مع الديمقراطية، وانتقدت الحكم الاستبدادي للأنظمة العلمانية القائمة.
لم يلعب الإسلاميون دورًا يُذكر في الأيام الأولى للانتفاضات، ذلك أن الحكومة في تونس أقصت هذه الجماعات إلى حد كبير من الحياة العامة، وفي مصر، انضم الاسلاميون إلى احتجاجات ميدان التحرير في وقت متأخر. لكن عندما أُتيحت الفرصة، دخل الإسلاميون بسرعة إلى الساحة السياسية. وحقق حزب النهضة التونسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر انتصارات ساحقة في أول انتخابات انتقالية في البلدين. أما في المغرب، فقد نجح حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة بعد انتصاراته الانتخابية في 2011 و2016. وبطريقة محتشمة، شارك إسلاميو ليبيا في اللعبة الانتخابية. أما جماعة الإخوان المسلمين السورية، فقد لعبت انطلاقََا من الخارج، دورًا تنظيميًا حاسمًا في الانتفاضة ضد الأسد. وبحلول سنة 2012، بدأ الإسلاميون في الهيمنة على المشهد.
لكن هذه الجماعات أصبحت بعد ذلك هدفا للأنظمة الاستبدادية والقوى الإقليمية، وبرّرت تلك الأنظمة معاداتها للديمقراطية أمام العالم الغربي بسيطرة الإسلاميين على مفاصل السلطة. وقد استخدم الجيش المصري هذه الحجة لإضفاء الشرعية على انقلاب تموز/ يوليو 2013 وحملة القمع والعنف التي مارسها بعد ذلك.
أما في تونس، فقد اعتمد حزب النهضة استراتيجية مختلفة لامتصاص الضغوط، وتنحى رئيس الوزراء لمنع احتدام الصراع السياسي المتصاعد.
صنفت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية ترعاها قطر، وبدأتا حملة ممنهجة ضدها. بالمقابل، ضاعفت قطر وتركيا دعمهما للجماعة، ورحبتا بالأعضاء الفارين من القمع في مصر، وقدمتا الدعم للإسلاميين في ليبيا ودول أخرى.
آثار هجوم قرب دمشق في سوريا، 22 كانون الثاني/يناير سنة 2018.
فشلت معظم الجماعات الإسلامية في لعبة الديمقراطية بسبب أخطائها، وبسبب القمع الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية. وتبدو جماعة الإخوان المسلمين المصرية – الأكبر والأكثر نفوذاً بين تلك الجماعات – أقرب للاضمحلال. ذلك أن عشرات الآلاف من أعضائها يقبعون في السجون، وأبرز القادة إما قتلوا أو تم نفيهم، كما صادرت الحكومة المصرية أموال الجماعة.
من جهتها، قطعت السلطات الأردنية شوطََا طويلا لحلّ جماعة “الإخوان المسلمين” التي أصبحت منقسمة على نفسها. أما في المغرب، فقد تراجعت شعبية “حزب العدالة والتنمية الإسلامي” بعد سنوات من الحكم في ظل القيود التي فرضها الملك.
تبرأ حزب حركة النهضة التونسي بشكل صريح من الإسلام السياسي وأعاد تسمية نفسه بالحزب الديمقراطي المسلم. خارج الكويت، بالكاد تنشط الحركات الإسلامية في معظم دول الخليج، حيث تراجع الإسلام السياسي السائد الحديث مقارنة بما كان عليه في السابق.
في المقابل، تختلف الإسلاموية العنيفة عن الإسلام السياسي. في البداية، فوجئ تنظيم القاعدة وأمثاله بالانتفاضات التي حدثت، حيث كشف النجاح السريع للاحتجاجات السلمية مدى تطرّف الحجة القائلة إن الجهاد العنيف هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير، لكن الحرب السورية قلبت الوضع. في بداية الصراع، أطلق الأسد سراح عدد من الجهاديين في محاولة لجعل الصراع يبدو كما لو أنه حرب ضد الإرهاب. وبعد ذلك، نقل ما تبقى مما كان يُعرف آنذاك بتنظيم الدولة في العراق بعض قادته ومقاتليه إلى سوريا للانضمام إلى المعركة ضد الأسد.
مع تحول الانتفاضة إلى تمرد، زوّدت الحكومات داخل المنطقة وخارجها الجماعات المتمرّدة خلسة بالأسلحة والأموال. وعلى الرغم من أن الحكومات الغربية حاولت مراقبة المساعدات وتوجيهها نحو الشركاء الأكثر اعتدالا، إلا أن بعض الحكومات الأخرى أبدت القليل من الانضباط. وجّهت كل من قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا المساعدة للجماعات الإسلامية المسلحة وتسامحت مع دعم الصراع بالمال الخاص، حيث وزّعت هذه الأموال بأغلبية ساحقة على الجماعات الأكثر تطرفا، مما أدى إلى قلب موازين حركة التمرّد.
جاء رد الفعل سريعا، ففي سنة 2013، انقسم الجهاديون في سوريا مبدئيا حول إعلان تنظيم الدولة في العراق وسوريا، لكن سرعان ما وجه التنظيم أسلحته ضد بقية المعارضة. اجتاح تنظيم الدولة شرق سوريا وغرب العراق، ومحى الحدود وأعلن نفسه دولة الخلافة الجديدة. استقطبت حملات التنظيم الذكية على وسائل التواصل الاجتماعي ورسائله المروعة، فضلا عن نجاحه العسكري الواضح، عشرات الآلاف من الأنصار وألهمت شنّ الهجمات في الخارج.
في الوقت الحالي، وجدت الحركات الإسلامية السائدة نفسها عالقة بين رفضها طويل الأمد للجهاد العنيف وحماس مؤيديها تجاه جماعات مثل تنظيم الدولة. كيف يمكن لجماعة الإخوان المسلمين المصرية الاستمرار في الدعوة إلى السياسة السلمية في حين أن انتخابها لم يؤد إلا إلى حملات قمع عنيفة وكارثة تنظيمية، بينما حقق عنف تنظيم الدولة نتائج مذهلة؟
أعادت الانتفاضات تشكيل الحركات الإسلامية بشكل جذري، بعد مرور عقد على اندلاعها. شهدت ثروات المنظمات التي شاركت في السياسة الانتخابية الرسمية ارتفاعا قبل أن تنهار. في المقابل، عانى الجهاديون من انتكاسات خطيرة لكنهم ما زالوا يمثّلون قوة سياسية وأيديولوجية قادرة على الإستمرار. في ظل وجود بعض الحركات الإسلامية السائدة التي تلعب دور صمامات أمان والصراعات الراسخة التي توفر فرصا كبيرة لحشد الأنصار، من المحتمل أن تظهر المزيد من حركات التمرد الجهادية.
أجبرت الهجمات المستمرة للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، التي استهدفت القوات الأمريكية في العراق، وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على التحذير من تخلي الولايات المتحدة عن سفارتها في بغداد – وهو حلم لطالما تطلعت إليه إيران.
المنطقة التي ظهرت فيها الثورة المضادة
لم تكن الجماعات الإسلامية الطرف الوحيد الذي لاحظ أن ثرواته تأخذ منعطف حاد في أعقاب الانتفاضات، حيث بدا أن تطلعات المحتجين الديمقراطية تنذر باضطلاع الولايات المتّحدة بدور جديد، كان قد تحدّث عنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه الشهير في القاهرة والذي وعد فيه “ببداية جديدة” للعلاقات الأمريكية مع المنطقة. في المقابل، كان الواقع مختلفا تماما.
تحدّت الانتفاضات العربية النظام المدعوم من الولايات المتحدة بالكامل، مما أدى إلى تسريع انسحاب واشنطن من المنطقة. يعود فك الارتباط الأمريكي إلى العديد من الأسباب، بما في ذلك الفشل الذريع لغزو العراق سنة 2003، والتغييرات التي طرأت على سياسة الاعتماد على الطاقة، والحاجة الإستراتيجية للتركيز على آسيا، إلى جانب النفور المحلي من الحروب البعيدة. في المقابل، قوّضت الانتفاضات التحالفات الرئيسية للولايات المتحدة بشدة، وشجعت القوى المحلية على اتباع سياسات تتعارض مع سياسات واشنطن، كما دعت المنافسين العالميين مثل الصين وروسيا إلى الانضمام إلى ما كان يعرف سابقا بالمنطقة أحادية القطب.
ربما ساعد تقبّل الولايات المتحدة للانتفاضات في ترسيخ المزيد من التحولات الديمقراطية، لكن جهود إدارة أوباما أثبتت أنها واهنة وغير فعالة، وولّدت شعورا بالخيانة لدى النشطاء وبالتخلي لدى الحلفاء الاستبداديين. أدى تقاعس الإدارة عن التصرف بحزم أكبر في سوريا وسعيها للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران إلى نفور شركاء الولايات المتحدة الاستبداديين، كما عمل حلفاء الولايات المتحدة المزعومون، مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بشكل علني ضد السياسات الأمريكية.
في المقابل، تقاسمت إدارة ترامب مع هؤلاء الحلفاء النظرة العالمية ذاتها، بما في ذلك ازدرائهم للديمقراطية العربية والصفقة الإيرانية، إلا أن سياساتها لم تكن مطمئنة في أغلب الأحيان. على سبيل المثال، سبّب غياب ردّ الرئيس دونالد ترامب على الهجوم الصاروخي الإيراني سنة 2019 على مصفاة بقيق النفطية السعودية، صدمة للمنطقة، علما وأن الهجوم قد أدى إلى إيقاف قرابة 5 بالمئة من إنتاج النفط العالمي. في الواقع، يبدو أن الولايات المتحدة في عهد ترامب لا تتبع أي سياسة على الإطلاق في معظم القضايا الإقليمية. ومع اختفاء الوجود الأمريكي في المنطقة، تعمل قوى الشرق الأوسط على تشكيل نظام جديد مبدئي خاص بها.
قد تكون بعض أجزاء هذا النظام الإقليمي البديل مألوفة. لقد طال انتظار اندثار حل الدولتين. توسع الصراع بين إيران وخصومها من العرب السنة، لكنه يتبع نهجا مألوفا منذ السنوات الأولى من هذا القرن. زادت إيران من استخدام القوات بالوكالة، خاصة في العراق وسوريا، وحافظت على نفوذها الإقليمي على الرغم من انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي وحملة “الضغط الأقصى”. في الواقع، وجّه هجوم طهران على بقيق رسالة إلى دول الخليج مفادها بأن الصراع المحتمل سيكون مكلفا.
أجبرت الهجمات المستمرة للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، التي استهدفت القوات الأمريكية في العراق، وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على التحذير من تخلي الولايات المتحدة عن سفارتها في بغداد – وهو حلم لطالما تطلعت إليه إيران.
يتمثل التغيير الحقيقي في المنطقة في ظهور صدع داخل العالم السني يمتد عبر الخليج والشام وشمال إفريقيا. وبينما كانت الولايات المتحدة إما مكتوفة اليدين أو منشغلة بهوسها تجاه إيران، خاض الطامحون السنيون والقادة العرب، مثل قطر والسعودية وتركيا والإمارات، صراعات بالوكالة عبر الخريطة الإقليمية. دعمت هذه الكتل السنية المتضاربة الجماعات المتنافسة في مختلف عمليات الانتقال السياسي والحروب الأهلية في محاولة لقلب المنافسات السياسية المحلية إلى فرص للمنافسة الإقليمية. وكانت آثار ذلك مدمرة: تمزق السياسة المصرية والتونسية، وانهيار المرحلة الانتقالية في ليبيا بعد القذافي، والمعارضة السورية المنقسمة.
في ذلك المشهد المستقطب، تخبط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مثل فيل بري. صعد ابن سلمان إلى السلطة في سنة 2015 من خلال تهميش خصومه وإخضاع المعارضين المحتملين باستهتار. ومنذ ذلك الحين، اتخذ ولي العهد سلسلة من الخطوات الكارثية على مستوى السياسة الخارجية: قام بشنّ حملة تدخل في اليمن سرعان ما أصبحت مستنقعا وكارثة إنسانية، واحتجز رئيس وزراء لبنان بحجة واهية، وأمر باغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي. وكانت تلك التحركات شديدة الإضرار بمكانة السعودية على الصعيد العالمي.
لا شيء يدل على الأنماط غير المنتظمة للشرق الأوسط الحديث المتسم بتعدد الأقطاب مثل الحصار السعودي الإماراتي الخيالي لقطر في سنة 2017، الذي فُرض ردًا على دعم قطر المفترض للجماعات الإرهابية. مزق هذا الخلاف الدبلوماسي مجلس التعاون الخليجي، الذي كان في الماضي أكثر الهيئات متعددة الأطراف فعالية في المنطقة، وأعاق جهود الولايات المتحدة لبناء جبهة موحدة مناهضة لإيران.
بدلاً من الخضوع للضغوط، اعتمدت قطر ببساطة على الدعم الإيراني والتركي والحماية الأمريكية (حيث تستضيف الدوحة قاعدة العديد الجوية الضخمة التي تستخدمها الولايات المتحدة) وعلى موارد البلاد المالية الهائلة. استقر الحصار في نهاية المطاف ليصبح جزءا من الواقع الجديد الذي على الرغم من عدم خطورته إلا أنه شبه دائم، حيث تطغى التوترات التي تكون غالبا في شكل منافسات بالوكالة في ليبيا والسودان وأماكن أخرى. ويدل عجز الولايات المتحدة عن إلزام حلفائها بحل خلافاتهم والتعاون ضد إيران على مدى تراجع نفوذها في المنطقة منذ سنة 2011.
في الوقت الحالي، يبدو أن اندلاع المزيد من الاحتجاجات الجماهيرية أمر لا مفر منه
شجع هذا الخلاف الخليجي الداخلي تركيا على محاولة قيادة المنطقة بحزم. في شمال سوريا، قام الجيش التركي بإعادة رسم حدود المنطقة بحكم الأمر الواقع، ومارس ضغوطًا كافية على الوحدات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة لإجبار القوات الأمريكية على الانسحاب. أتبعت تركيا هذا النجاح بتدخل عدواني في ليبيا بهدف مواجهة الدعم المصري والإماراتي لخليفة حفتر، زعيم القوات العسكرية المعارضة للحكومة المؤقتة المعترف بها من قبل تركيا وقوى أجنبية أخرى. يعد كل من التوسع العسكري التركي، وتوثيق العلاقات مع قطر، ودعم الجماعات السنية التي تخلت عنها السعودية، من بين العوامل التي أدت إلى إنشاء محور إقليمي جديد يتجاوز حدود الانقسام الشيعي السني.
لم يكن للولايات المتحدة أي دور يذكر في معظم هذه الصراعات، إذ أن واشنطن في عهد ترامب – الذي كانت إدارته تركز على إيران وغير مهتمة بالتفاصيل الدقيقة في السياسة الإقليمية – كانت مختفية كجهة فاعلة رئيسية إلى حد كبير حتى في مناطق مثل العراق وسوريا حيث لا تزال القوات الأمريكية منتشرة. في المقابل، بدلا من تشجيع التغيير الديمقراطي أو حتى الدفاع عن حقوق الإنسان، قرر ترامب الاعتماد على شركاء الولايات المتحدة الاستبداديين – على أمل أن يتمكنوا من تجاهل الرأي العام والدخول في تحالف مفتوح مع “إسرائيل”.
إلى جانب الدعم الخليجي الأوسع للجهود الإسرائيلية لاستهداف إيران، فإن تطبيع العلاقات رسميا مع كل من البحرين والإمارات يقدم لإسرائيل بعض المؤشرات على ذلك النهج. لكن في غياب الوساطة الأمريكية في أماكن أخرى، أدت تدخلات الجهات الفاعلة الإقليمية إلى إطالة النزاعات القائمة، دون أي اعتبار يذكر لمصلحة مواطنيها. وعلى الرغم من أن المقاتلين فقدوا هدفهم الأصلي منذ فترة طويلة، إلا أن العنف المتجذر ما زال مستمرا حيث تفرضه التدخلات الإقليمية واقتصاديات الحروب الأهلية.
المستقبل وما هو آت
رغم النعي المبكر للانتفاضة العربية وإرثها المظلم، لم تكن موجة 2011 الثورية سرابًا عابرًا. فبعد مرور عشر سنوات، بدأت واجهة المنطقة الاستبدادية بالتشقق من جديد. استطاعت الانتفاضات الكبرى مؤخرًا منع إعادة انتخاب الرئيس الجزائري العاجز، وأدت إلى الإطاحة بالزعيم السوداني الذي حكم لفترة طويلة، وتحدت الأنظمة السياسية الطائفية في العراق ولبنان. بالكاد لدى لبنان أي حكومة بعد عام من الاحتجاجات، والكارثة المالية، وتداعيات انفجار ميناء بيروت. كما شهدت السعودية تغيرًا سريعًا في الداخل بينما تستعد للصعود الملكي المفترض لمحمد بن سلمان.
بدت هذه الأحداث محيرة في البداية. ألم يكن من المفترض أن يعيد انتصار الحكام المستبدين الاستقرار إلى المنطقة؟ ألم تكن الجماهير العربية مهزومة ومرهقة ويائسة؟ في الواقع، ما بدا وكأنه نهاية، لم يكن سوى دورة أخرى لدوامة عنيدة. وتلك الأنظمة التي كان من المفترض أن توفر الاستقرار، كانت هي السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في الحقيقة.
ثار الناس بسبب الفساد والاستبداد والحكم الفاشل ورفض الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان. بمجرد اندلاع الانتفاضات، أدى القمع العنيف الذي سلط ضدهم إلى تأجيج الاستقطاب الداخلي واندلاع الحروب الأهلية بالتزامن مع تفاقم الفساد والمشاكل الاقتصادية. وطالما أن هذه الأنظمة مازالت تشكل ركيزة النظام الإقليمي، فلن يعمّ الاستقرار مطلقا.
في الوقت الحالي، يبدو أن اندلاع المزيد من الاحتجاجات الجماهيرية أمر لا مفر منه. ببساطة، تتعدد الدوافع المؤدية إلى عدم الاستقرار السياسي وهي كفيلة بإبقاء أكثر الأنظمة استبدادا في السلطة إلى أجل غير مسمى. أدت جائحة كوفيد -19، وانهيار أسعار النفط، والانخفاض الحاد في نقلة العمال المهاجرين إلى خلق ضغوط جديدة ما فتئت تلقي بظلالها على الاقتصادات الضعيفة وبشكل كارثي. تستمر الحروب المستعرة في ليبيا وسوريا واليمن في زيادة عدد اللاجئين وتدفق الأسلحة ودعم التطرف مما يؤدي إلى استقطاب التدخل الخارجي. ويمكن أن تسوء الأمور. فقد تتصاعد المواجهة الأمريكية مع إيران بشكل مفاجئ وتؤدي إلى حرب طاحنة، أو قد يؤدي انهيار السلطة الفلسطينية إلى اندلاع انتفاضة أخرى.
جنود يحرسون مركز اقتراع في سوسة، تونس، كانون الأول/ ديسمبر 2014
زبير السويسي.
يفسر ذلك انعدام الأمن في معظم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، على الرغم من صرامتها. تطفئ الحكومة المصرية أي شرارة توشك على الاندلاع وأي نشاط محتمل للاضطرابات الشعبية. كما أن أنقرة لم تتعاف أبدًا من صدمة محاولة الانقلاب الفاشلة التي جدت في سنة 2016. قادة إيران كذلك مهووسون بأي محاولات خارجية تحاول إثارة الاضطرابات في الوقت الذي يجدون فيه صعوبة كبيرة للتعامل مع العقوبات الاقتصادية، ناهيك عن أنّ حكومة الإمارات العربية المتحدة، التي كانت تظهر فيها مؤشرات قليلة جدا على عدم الاستقرار الداخلي، أثارت الجدل باعتقالها أكاديميًا بريطانيًا بتهمة التجسس. إنّ هذه السلوكيات لا تمت بأي صلة للسياسات التي تتبعها الحكومات الواثقة. فبالنسبة لهم، تتلخص الدروس المستقاة من أحداث سنة 2011 في وجود تهديدات وجودية، على غرار الديمقراطية، يمكن أن تظهر في أي مكان وفي أي زمان. يدفعهم جنون العظمة نحو اتباع سياسات تغذي السخط الشعبي.
بسبب ما يقارب عن عقد من القمع الحكومي المتزايد، اندثرت مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات السياسية التي قد توجه الإحباط الشعبي. عندما يتأجج مثل هذا الغضب حتمًا، سيكون مأساويا أكثر من أي وقت مضى.
من غير المرجح أن تشبه الاحتجاجات المستقبلية الانتفاضات التي اندلعت في سنة 2011. فقد طرأت تغييرات كثيرة على المنطقة. لقد تعلم الحكام المستبدون كيفية استقطاب المنافسين وتعطيلهم وهزيمتهم. من غير المرجح أن تفاجئ الاضطرابات الداخلية أو العدوى الإقليمية الأنظمة، كما أنه من المستبعد أن تمتنع الحكومات عن استخدام القوة في المراحل الأولى من الاحتجاج. لكن المتظاهرين المحتملين تعلموا أيضًا دروسًا قيمة. على الرغم من أن النجاحات الاستبدادية سببت إحباط الشعوب محبطة، إلا أن الحركات الثورية الأخيرة في الجزائر والعراق ولبنان والسودان أثبتت استمرار قيم الانضباط والالتزام. في البلدان الأربعة، أثبت المواطنون أنهم قادرون على الحفاظ على التعبئة دون اللجوء إلى العنف لأشهر متتالية على الرغم من القمع والاستفزاز.
كما استقطبت البيئة السياسية في الشرق الأوسط محاور متنافسة. مما يحول دون نشوء الهوية عبر الوطنية التي سمحت للانتفاضات العربية بالانتشار بسهولة. خلافا لسنة 2011، لا يوجد اليوم جمهور عربي موحد. وانقسمت وسائل الإعلام الإقليمية، التي كانت ذات يوم مصدرًا للوحدة. يُنظر إلى الجزيرة الآن على أنها أداة حزبية للسياسة القطرية، وليست منصة للنقاش المشترك. وفي الوقت نفسه، تعرضت وسائل التواصل الاجتماعي العربية للاستعمار الكامل من خلال حرب المعلومات والروبوتات والبرامج الضارة، مما خلق بيئة سامة تكافح فيها التحالفات الجديدة عبر تكريس الأيديولوجية للاندماج. لكن التفاعلات الحاصلة بين المحتجين الجزائريين والسودانيين وإصرار الحركات العراقية واللبنانية يؤكد أنه من الممكن التغلب على هذه الصعوبات.
مقارنة بسنة 2011، فإن البيئة الدولية أصبحت أقل انفتاحًا اليوم على الموجة الثورية، وهي في وضع يجعلها غير قادرة على كبح جماحها. في حين كافحت إدارة أوباما للتوفيق بين القيم الديمقراطية والمصالح الاستراتيجية، دعمت إدارة ترامب الحكام المستبدين الإقليميين وشاركت في احتقار الاحتجاج الشعبي. لن يتطلع أحد في الشرق الأوسط اليوم إلى واشنطن للحصول على إرشادات. يفهم الطرفان، الأنظمة العربية والمتظاهرون على حد سواء، أنهما بمفردهما.
لا يعني اندلاع انتفاضات أخرى تبني وجهة نظر حتمية للتاريخ ينتصر فيها الجانب العادل حتمًا. وبعيد عن ذلك. ستحدث الانتفاضات، وعندما تحدث، فقد تؤدي إلى سقوط الأنظمة الحالية بطرق لم نشهدها في سنة 2011.
لكن على الرغم من أن كل الإمكانات الهائلة غير المستغلة لشباب الشرق الأوسط، إلا أنه لا وجود لسبب وجيه للتفاؤل بشأن آفاق الشرق الأوسط. ولن يكون هناك أمل كبير في تغير الأمور عندما يتولى الرئيس المنتخب جو بايدن منصبه.
من المرجح أن يقاوم محور دول الخليج و”إسرائيل” – الذي كانت وساطة ترامب من أهم عوامل بروزه للعلن – أي تغيير تدريجي في السياسة الأمريكية. لن تثق إيران بالتزامات الولايات المتحدة. ولن يُعاد بناء الدول التي مزقتها الحروب بسهولة، ولن يعود اللاجئون إلى أوطانهم في أي وقت قريب. في الأثناء، ستستمر حركات التمرد الجهادية في إيجاد طرق لتوحيد صفوفها. إذا كان هناك درس لابد أننا تعلمناه من أحداث 2011، فهو أنه لا يمكن لأي قوة خارجية التحكم في الشرق الأوسط.
المصدر: فورين أفيرز