صدمت وزارة الثقافة الجزائرية الرأي العام المحلي بتأجيلها النظر في اعتماد أغنية الراي من قبل اليونيسكو ضمن قائمة التراث، رغم تقديم هذا الطلب منذ 4 سنوات، وهي الخطوة التي أثارت المخاوف من إمكانية السماح بـ”استحواذ” المغرب عليه واعتماده ضمن تراثها اللامادي، فالصراع القائم بين البلدين امتد في السنوات الأخيرة إلى المجال الثقافي.
ومثل أغلب الطبوع الغنائية الجزائرية الأخرى، فالراي ليس مجرد موسيقى تغنى في الأعراس والمهرجانات، إنما فن ارتبط بتطور المجتمع ومشكلاته الاجتماعية والسياسية حتى وإن غلبت المواضيع الرومانسية على أكثر إنتاجاته، فما حكاية هذا النوع من الأغاني الذي كسب صيتًا عربيًا وعالميًا؟
هكذا كانت البداية
تختلف الروايات حول تاريخ بداية أغنية الراي، إلا أنها تتقاطع في مجملها على أن ظهورها بالصيغة الحالية يعود إلى نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، ضمن ما كان يعرف باسم “المداحات” و “الشيوخ” الذين كانوا يحيون حفلات الأعراس والأفراح وحتى المناسبات الدينية في ولايات الغرب الجزائري كوهران وسعيدة، وبالخصوص سيدي بلعباس.
يقول الصحفي سعيد خطيبي في كتابه ” أعراس النار.. قصة الراي” إن بداية هذا الفن الذي غزا العالم كانت في القرن الـ19 مع الشاعر مصطفى بن إبراهيم (1800-1867)، الذي كانت بعض قصائده جريئة في الحديث عن الجسد، وبعده الحاج محمد الغوايشي الشهير بالشيخ حمادة (1886-1967).” ويعتقد خطيبي أن أغنية الراي كانت في بدايتها وسيلة لمواجهة الاحتلال الفرنسي والتشجيع على الثورة والانتفاضة ضده.
غير أن البعض يرى أنه لا يمكن حصر أغنية “الراي” حتى في بدايتها في هذا الحيز الموسيقي فقط، لأنها ومنذ البداية عجت قصائدها بالغزل وحتى الماجن منها، وخاضت في ما كان محظورا خاصة ما تعلق منه بالجسد.
يعتقد أنه بالنظر لعلاقة الراي في بدايته بالغناء البدوي والشعر الملحون يطلق على مغنيه إلى غاية الآن في بعض الأحيان لقب الشيخ والشيخة
وصاحب هذا الخوض في الجسد تغنّ بالأولياء الصالحين، بالنظر إلى ما كان يمثله الجانب الروحاني في مخيلة الجزائري، وتاريخ الطرق الصوفية في البلاد.
ومن أبرز من عرفوا بالحديث الجريء عن الجسد والبوح بالأحاسيس وما قد يوصف عند البعض “بالجرعة الزائدة أو حتى الوقاحة”، خاصة من المحافظين، كانت السعدية بضياف المعروفة باسم “الشيخة الريميتي” التي ولدت عام 1923 وتوفيت في 2006.
ولم يكن الراي في بدايته نوعا غنائيا مستقلا، فنسب إلى غناء “المداحات” عندما تؤديه امرأة، وحين يكون المؤدي رجلا يلحق بالأغنية البدوية الوهرانية التي استمرت مع بلاوي الهواري وآخرين من جيله حتى القرن العشرين. ويعتقد أنه بالنظر لعلاقة الراي في بدايته بالغناء البدوي والشعر الملحون يطلق على مغنيه إلى غاية الآن في بعض الأحيان لقب “الشيخ” و”الشيخة”.
إلى العالمية
لم يكن كافيا لأغنية الراي ارتباط بعض قصائدها برباعيات ومدائح الأولياء والمتصوفين لتدخل إلى المؤسسات الحكومية وتبث في وسائل إعلام الدولة، بالنظر إلى أن الجرأة الزائدة وإسقاط الممنوع من قاموسها وقف عائقا بعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962 في وصول هذه الأغاني إلى بيوت الجزائريين عبر الإذاعة والتلفزيون، بالرغم من انتشار هذا الطابع الغنائي إلى الغرب لينتشر إلى معظم ولايات البلاد، وبالخصوص العاصمة الجزائر.
لكن المنع الحكومي لم يستطع أن يصمد في وجه تغير الذهنيات التي جاءت باعتماد النهج الاشتراكي في البلاد والذي لا يميل إلى الاهتمام بالجانب الديني، ما جعل السلطة تفقد يوما بعد آخر سطوتها في التضييق على الراي وإبقائه حبيسا داخل الملاهي.
واستطاعت الموجة الجديدة من مغني الراي نهاية السبعينات وبداية الثمانينات التي استبدلت لقب “الشيخ” والشيخة” بـ”الشاب” و”الشابة” أن تستثمر في الأغنية الوهرانية القديمة لأحمد وهبي وبلاوي الهواير، وتجعلها جسرا للوصول إلى الجمهور، وبالخصوص بعد رحيل الرئيس هواري بومدين، وقدوم الشاذلي بن جديد الذي فرضت عليه الظروف السير نحو الرأسمالية واعتماد اللبيرالية في عدة مجالات من حياة الجزائريين، تكيفا مع تغييرات سياسية واجتماعية وثقافية ظاهرة في البلاد.
وانفتح هذا الجيل على مختلف الطبوع الموسيقية حتى الغربية منها، فتم إدخال آلات موسيقية جديدة على أغنية الراي، ولم تبق محصورة في المعروفة منها كالناي والدربوكة والدف وغيرها، حيث كانت البداية مع مسعود بلمو الذي استبدل القصبة (الناي) بـ الترومبات.
الفضل في توسعها عالميا يعود إلى الشاب خالد الذي أطلق عليه لقب ملك الراي
ومع تحقيق الراي انتشارا واسعا، وجدت السلطة نفسها مجبرة لا مخيرة على الانفتاح على أغنية الراي، لتسمح بتنظيم أول مهرجان لهذا النوع الموسيقي عام 1985 بوهران، ليكون هذا الحدث الثقافي انطلاقة السماح ببثها في الإذاعة والتلفزيون وإدراجها في الحفلات الغنائية الرسمية، وخصوصا بعد ظهور جيل شبابي يتنفس الراي الذي استطاع أن يزيح باقي الطبوع الغنائية من أذواق الشباب خلال التسعينيات.
وفي هذه الفترة، استعملت السلطات الراي كسلاح للرد على المتشددين الذين كفروا فناني الراي بسبب الذهاب بعيدا في أغانيهم بالحديث عن الجنس والحب وحتى الخمر، فكان الثمن تعرض بعضهم للاغتيال رغم جماهيريتهم الجارفة، وأحسن الناجين كان مصيره الهجرة إلى خارج الوطن، خاصة فرنسا التي ساهمت في أن ينتشر الراي عالميا بفضل الجالية الجزائرية والمغاربية المقيمة هناك، وكذلك لتضمنه كلمات فرنسية يسرت أن ينضم إلى قائمة الأنواع الغنائية المطلوبة عالميا.
وإذا كان للشاب نصرو وحسني وفضيلة وصحراوي الفضل في الشعبية الواسعة التي حققتها أغنية الراي في الجزائر خلال التسعينيات، فإن الفضل في توسعها عالميا يعود إلى الشاب خالد الذي أطلق عليه لقب “ملك الراي” ليأتي بعده الشاب مامي والراحل رشيد طه وفوضيل وبعدهم بلال، دون نسيان صافي بوتلة الذي كان لتوزيعه الموسيقي دورا بارزا في نجاح الراي عالميا، خاصة في تعاونه مع الشاب خالد.
جدل مغاربي
بعد النجاح الذي حققته أغنية الراي عالميا بإقامة ثنائيات غنائية بين نجوم الجزائر مثل خالد ومامي ومحمد لمين وغيرهم مع فنانين عرب وأجانب، واكتساح هذا النوع الغنائي شمال إفريقيا تحديدا المغرب الذي جنح كثير من مغنيه نحو إعادة أغان جزائرية أو الاختصاص في هذا الطابع، ظهر على الواجهة في السنوات الأخيرة جدل بشان أصل أغنية الراي إن كانت الجزائر مهده أم مدينة وجدة المغربية الحدودية مع الجزائر.
وصارت هذه القضية محل شد وجذب من قبل وسائل إعلام البلدين، الأمر الذي دفع وزارة الثقافة الجزائرية بتاريخ 13 مارس/ آذار 2016 لتقديم طلب إلى اليونيسكو لإدراج أغنية الراي ضمن الموروث الثقافي الجزائري المعترف به دوليا، بعد أن راجت أخبار حول نية المغرب في نسب هذا الإرث الثقافي إليه.
وقال وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي في 2016 إن “الجزائريين قلقون على تراثهم ومن محاولات السطو عليه”. وأضاف ميهوبي “من حق الجزائريين أن يكونوا غيورين على تراثهم وتاريخهم وذاكرتهم من أي محاولة للمساس به والسطو عليه أو تحريفه”.
تُحقق أغاني أيمن السرحاني مشاهدات قياسية على موقع “يوتيوب” جعلت نجمه يسطع في وقت قصير في سماء أغنية الراي المغربية والمغاربية
واستثمر على سبيل المثال الدوزي وغيره من المغنيين المغربيون كثيرا في أغاني الفنانين الجزائريين الراحلين أمثال الشاب عقيل والشاب حسني ومغني الطابع الشعبي كمال مسعودي.
تخوف جزائري
يبدي الكثير من الجزائريين تخوفهم من اعتماد اليونسكو أغنية الراي كتراث مغربي، بعدما تحدثت بعض وسائل الإعلام عن تقدم الرباط بطلب كهذا للمنظمة الدولية، ليعاد المشهد ذاته الذي حدث مع زي “القفطان” الذي أصبح ينسب اليوم إلى المغرب، رغم أن الكثير من المصممين الجزائريين يؤكدون أنه من التراث الجزائري أو المغاربي على الأقل، لكن السلطات الرسمية في البلاد متقاعسة وغير مهتمة بالتسويق لتراثها الثقافي.
وكان الجزائريون ينتظرون أن تقول اليونسكو كلمتها الأخيرة بشان أغنية الراي خلال الدورة الـ15 للجنة الحكومية المشتركة لحماية التراث الثقافي غير المادي، المقرر انعقادها من 14 إلى 19 كانون الأول/ ديسمبر عبر تقنية التحاضر عن بعد، غير أن وزارة الثقافة أعلنت هذا الأسبوع أن الأمر قد تأجل.
وقالت الوزارة “ضمن المتابعة الدّورية لتثمين التراث الثّقافي اللامادي الجزائري كتراث عالمي، وبعد أن كانت الجزائر قد رشّحت أغنية الراي الشعبية قصد إدراجها في القائمة التمثيليّة للتراث الثقافي العالمي شهر آذار مارس 2016، فإن وزارة الثقافة والفنون لاحظت نقصا في العناصر المكوّنة للملف المودَع وهو ما يُضعف أسباب نجاحه.”
وقررت الوزارة ” تدعيم الملف بعناصر جديدة تتماشى والإجراءات التقنيّة التي تشترطها الهيئات الاستشاريّة للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو”، مشيرة إلى أنها “ستحرص على متابعة عمليّة تصنيف أغنية الراي الشعبية في الدورة المقبلة”.
وإلى أن تتحقق وعود وزارة الثقافة التي اعتُبرت تبريراتها غير مقنعة لأغلب الجزائريين، فإن عدم إقرار اليونسكو بالفن الذي يؤديه الشاب خالد إلى استمرار الإجحاف بحق الجزائريين من قبل اليونسكو والسلطات الجزائرية على حد سواء.