بينما يستعدّ التونسيون للاحتفال بالذكرى العاشرة لثورتهم التي أطاحت بنظام بن علي الديكتاتوري وفتحت الطريق أمام شعوب المنطقة العربية للانتفاض على الأنظمة القمعية، تعالت بعض الأصوات غير المؤمنة بالديمقراطية داعية الجيش للانقلاب ورئيس البلاد لتغيير نظام الحكم، حتى تنقضّ عليه أسوة بما حصل في مصر صيف 2013.
انقلاب على المسار الديمقراطي؟
دعوات الانقلاب على المسار الديمقراطي في البلاد، صدرت من عديد الشخصيات اليسارية والقومية، أخرها ما صدر أمس عن الوزير السابق والقيادي في التيار الديمقراطي محمّد عبو (يساري)، حيث دعا الرئيس قيس سعيد لحلّ البرلمان والحكومة، وإجراء انتخابات تشريعية في ظرف لا يتجاوز التسعين يومًا.
واقترح الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي أيضًا ”نشر قوات الجيش بطلب من القائد الأعلى للقوات المسلحة في المدن وكافة مناطق الإنتاج، واستنفار قوات الأمن لحفظ النظام ومكافحة الجريمة.. ووضع بعض السياسيين تحت الإقامة الجبرية إلى حين عودة القضاء للعمل بوضوح ونزاهة.. ووضع كلّ السلطات عند الرئيس”.
دعاة تفعيل هذا الفصل يريدون أن ينفرد الرئيس بالسلطة ويبعد مجلس نواب الشعب، خاصة رئيسه راشد الغنوشي عن دائرة القرار السياسي حتى يتمكّنوا من الحكم
بالتزامن مع ذلك، برزت دعوات من قيادات سياسية من خارج الأحزاب الداعمة لرئيس الحكومة بتوجيه دعوات عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام للرئيس قيس سعيد لتفعيل الفصل 80، مبرّرة ذلك بعجز رئيس الحكومة هشام المشيشي عن تسيير دواليب الدولة، وحالة الانفلات في البرلمان.
إلى جانب ذلك، دعا رئيس لجنة المالية بالبرلمان النائب عن “حركة الشعب” (قومية) هيكل المكي -أكثر من مرة- قيس سعيد إلى التوجه نحو تفعيل هذا الفصل الدستوري، مشيرًا إلى أن تونس أصبحت تواجه خطرا داهما، وأن الحكومة باتت عاجزة عن احتواء موجة الاحتقان.
هذا الفصل من الدستور، يسمح “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلِنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب”.
لكن دعاة تفعيل هذا الفصل يريدون أن ينفرد الرئيس بالسلطة ويبعد مجلس نواب الشعب، خاصة رئيسه راشد الغنوشي عن دائرة القرار السياسي حتى يتمكّنوا من الحكم وتنفيذ رؤيتهم بعد أن عجزوا في مواصلة الحكم مع حليفهم إلياس الفخفاخ المتهم بقضايا فساد.
ويتيح الفصل 80 من الدستور التونسي، حسب خبراء مقربين من قصر قرطاج، لرئيس الجمهورية قيس سعيد تعليق العمل بمبدأ الفصل بين السلطات، وتأويل أحكام الدستور في ظل غياب المحكمة الدستورية، وهو ما يفسّر دعوة قيادات في حركتي الشعب والتيار الديمقراطي لتفعيله.
يبرّر هؤلاء السياسيين دعوتهم الرئيس والجيش للانقلاب على المسار الديمقراطي في البلاد، بالوضع الحرج الذي تعيشه تونس وضرورة التدخّل لإنقاذ البلاد، حيث تعيش تونس أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، عمّقتها جائحة فيروس كورونا، وتصاعد موجة الاحتجاجات في عدد من المحافظات، مع تعمد المحتجين غلق مواقع الإنتاج بشكل نهائي.
ما موقف سعّيد من هذه الدعوات؟
هذه الدعوات للانقلاب، جاءت في الوقت الذي يستعدّ فيه التونسيون للاحتفال بالذكرى العاشرة لثورتهم، ففي 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، أطلق الشاب محمد البوعزيزي الذي احرق نفسه شرارة الثورة، ليموت فتتنفس تونس نسيم الحرية وتنعم بثورة الياسمين بعد أن هرب الديكتاتور زين العابدين بن علي.
هرب بن علي، لكن من يحنّون للدكتاتورية ونظام الفرد الواحد والعصا مازالوا موجودين في البلاد، يستغلّون أي فرصة للتعبير عن أفكارهم ورؤاهم المناهضة للثورة ولتطلعات الشعب التونسي الذي عانى من ويلات زن الاستبداد ما هو معروف للقاصى والداني.
توجد دعوات للانقضاض على السلطة وتغيير نظام الحكم، لكن هل الرئيس والجيش سيقبلان ذلك؟ من الصعب جدا أن يتماها الرئيس قيس سعيد –وهو الخبير في القانون الدستوري- مع توجهات هؤلاء، خاصة أنه يعلم يقينًا حجمهم الانتخابي عند الشعب التونسي.
تقتصر مهمة الجيش التونسي بمقتضى الدستور، على الدفاع عن الوطن وحماية النظام الجمهوري
قيس سعيد الساهر على حماية الدستور والضامن لوحدة البلاد، صحيح أن مواقفه منذ توليه منصب الرئاسة نهاية السنة الماضية، تتسم بقليل من الوضوح، لكن في مسألة احترام الدستور وضمان نجاح الانتقال الديمقراطي في البلاد هو “حازم”.
هل يمكن أن نشاهد يومًا أستاذ القانون الدستوري الذي دخل إلى السياسة في نهاية العقد السادس من عمره، قيس سعيّد، يضرب بالدستور عرض الحائط ويرتمي في أحضان قوى تسعى لعودة الدكتاتورية في البلاد؟ لو كان سيفعل ذلك لكان ارتمى في أحضان بعض القوى الإقليمية التي لا تريد خيرًا لتونس وشعبها.
وصل قيس سعيد إلى قصر الرئاسة في قرطاج اعتمادا على أصوات فئات واسعة من الشباب وشرائح اجتماعية كثيرة صوّتت له رغبة منها في تحقيق أهداف الثورة التي نادى به الشباب عشية 14 يناير 2011، ليس له أن يخذل هؤلاء ويُشرعن لانقلاب دستوري.
ويُنظر إلى تونس على أنها التجربة الديمقراطية الوحيدة الناجحة بين دول عربية عدّة شهدت ثورات الربيع العربي، بداية من ديسمبر/ كانون الأول 2010، والتي شهدتها أيضًا مصر وليبيا واليمن وسوريا.
الجيش التونسي حامي الثورة
هذا بالنسبة إلى الرئيس قيس سعيد، فماذا عن الجيش الذي ظلّ منذ نشأته بعيدًا عن التجاذبات السياسية وقراراتها، هل يستجيب لنداءات تلك القوى ويتدخّل ويمسك بزمام الأمور، خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي تتم دعوته للتحرّك والتدخّل في الشأن السياسي للبلاد والقيام بانقلاب عسكري.
الجيش التونسي، الذي لم يعمل سابقًا في السياسة وبقي محايدًا عكس باقي الجيوش في المنطقة العربية كمصر وسوريا، لن يُغامر بالتدخّل في الشأن السياسي وسيظلّ وفيًا لعقيدتها العسكرية التي تُحجّر عليه التدخّل في العمل السياسي وتفرض عليه واجب الحياد.
الجيش التونسي الذي رفض تسلّم السلطة عشية هروب بن علي نحو المملكة العربية السعودية رغم أن كل الظروف متاحة أمامه حينها، ليس له الآن أن يقبل الانقلاب على إرادة الشعب التونسي، الذي قطع أشواطًا كبيرة في طريق إرساء دولة الديمقراطية والمؤسسات.
لم يكن الجيش التونسي قبل الثورة معروف لدى أبناء شعبه إلا من خلال إنجاز بعض المشاريع من المسالك وبناء مساكن وربط عديد تجمعات سكانية بشبكتي الماء الصالح للشرب والكهرباء وبناء الجسور وحفر الآبار وتهيئة بعض المناطق الصحراوية، وحتى بعد الثورة ارتأى الجيش أن يبقى بعيدًا عن الأنظار، ما ولّد المنتمين لهذه المؤسسة عامل قوة يحسب لفائدتها.
يعي الجيش التونسي جيدًا، أن مهمته تنحصر في حفظ السلام والمساهمة في عمليات الإنقاذ في حال حدوث كوارث الأمر الذي جعله يتكفل بحفظ الأمن، ويؤمّن الظروف الأمنية لعملية الانتقال السياسي والإشراف الأمني على نجاح الانتخابات في البلاد منذ يناير 2011 ليعود بعد ذلك إلى ثكناته.
وتقتصر مهمة الجيش التونسي بمقتضى الدستور، على الدفاع عن الوطن وحماية النظام الجمهوري. وينص الفصل 18 من الدستور على أن “الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوة عسكرية مسلحة قائمة على الانضباط، مؤلفة ومنظمة هيكليا طبق القانون، ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون.”
دعاة الانقلاب على مؤسسات الحكم الشرعية، يعلمون يقينا أن الجيش التونسي خيّر منذ الثورة وحتى قبلها الاصطفاف إلى جانب الشعب، عكس بعض الجيوش العربية التي خيرت الانقلاب على إرادة شعوبها عوض حمايتها والذود عنها، لكنهم يسعون لطرق كلّ الأبواب حتى الموصدة منها علّهم يتفرّدون بالحكم.
ماذا عن الشعب التونسي؟
طرف ثالث لا بدّ من معرفة رأيه في دعوات الانقلاب عن الحكم وتدخّل الجيش وهو الشعب التونسي، صحيح أن الوضع في البلاد يتّسم بالغموض وأغلب قطاعات الإنتاج مشلولة ومتوقفة عن العمل نتيجة الاضرابات والاحتجاجات المتواصلة في مناطق عدة من البلاد.
صحيح أيضًا أنه يوجد سخط كبير من طيف واسع من التونسيين تجاه السياسيين ومؤسسات الحكم في البلاد، وهو ما يفسّر ارتفاع حجم الاحتجاجات في البلاد في الآونة الأخيرة، فهم يرون أن السياسيين تخلّوا عنهم وتنكّروا لمطالبهم حتى يحقّقوا مصالحهم الشخصية.
يوجد كلّ هذا، لكن الشعب التونسي الذي خرج ذات شتاء إلى الشوارع لطرد نظام جثم على الصدور لعقود، رغبة منه في التحرّر من العبودية ودكتاتورية الحزب والشخص الواحد، لن يقبل أن يحكمه الجيش ولا أن يتفرّد شخص بحكمه دون المرور بالانتخابات.
يعيب التونسيون فشل السياسيين في تحقيق مطالبهم، لكن يرون أن السبيل لتغييرهم هي الانتخابات الديمقراطية الحرة والشفافة وليس دبابات العسكر كما حصل في مصر صيف 2013، فحكم العسكر لم يجلب معه إلا الوبال للبلاد والعباد، وكل التجارب تقرّ ذلك.