إذا تجوّلت سيدة محجبة في شوارع كرواتيا، فإن الناس سينظرون إليها بغرابة، ولفترة أطول مما ينبغي، كأنهم يراقبونها، وقد يقترب منها البعض لقول كلمات لطيفة، ومع أن تجربتها لن تكون إيجابية بالكامل -لأن مشهد الحجاب غير مألوف- إلا أنها لن تشعر بأي تمييز أو نفور في الطريقة التي يعاملها بها السكان. وإذا توقف أحدهم للصلاة على جانب الطريق، فلن يشعر المارة بالإهانة أو الاستفزاز، وقد يكون السبب في ذلك هو أن كرواتيا -الدولة الكاثوليكية التي أصبحت عضوًا في الاتحاد الأوروبي في 2013 – لديها خبرة قديمة مع الإسلام.
إذ تعود جذور المسلمين الكروات البالغ عددهم حوالي 63 ألفًا، أي 1.5% من مجموع السكان، إلى القرن الخامس عشر حين خضعت بلادهم للحكم العثماني، رغم أن كرواتيا وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية تدريجيًا ولفترات متفاوتة، ما جعلها أقل دول البلقان خضوعًا لإدارة وثقافة الخلافة الإسلامية، حيث بقيت تحت جناحها لـ 150 سنة فقط، على العكس -مثلًا- من البوسنة والهرسك التي حكمها العثمانيون لمدة 400 عام.
ومع ذلك فإن الإرث الإسلامي العثماني، في كرواتيا مرئي، ثقافيًا ومعماريًا، حيث احتوت مدينة أوسيك على الأغلبية التركية خلال تلك الفترة حتى بدت كمدينة أناضولية وسط أوروبا. وما زالت تحتفظ البلاد أيضًا بقريتي “إسلام غريك” للأرثوذكس و”إسلام لاتين” للكاثوليك بالرغم من تبدل الانتماء الديني للسكان من الدين الإسلامي إلى المسيحية الأردثوكسية والكاثوليكية، إلا أن كلمة “إسلام” ظلت ملتصقة باسمهما كجزء من ذاكرتها.
الصورة الكاملة لمسلمي كرواتيا
ينتمي مسلمو كرواتيا إلى قوميات مختلفة، حيث تعود أصول 60% منهم إلى القومية البوشناقية، وهي أكبر ثاني أقلية قومية في كرواتيا، وغالبًا ما يُعرّف أصحابها أنفسهم على أنهم مسلمون أو بوسنيون، في حين تبلغ نسبة الذين ينتمون إلى القومية الكرواتية نحو 15% من المسلمين، وهي النسبة التقريبية للقومية الألبانية، بينما تحتل قومية غجر الروما المرتبة الرابعة وذلك بنسبة 8%، أما الأقليات الأخرى فتتوزع بنسب ضئيلة إلى القوميات العربية والتركية والفارسية.
المسلمون الذين ينتمون إلى القومية البوشناقية هم الفئة الأكثر اندماجًا وبروزًا في الحقل المهني والاجتماعي مقارنة مع المسلمين الألبانيين والغجر الروما
ويعيش هؤلاء في كل مدن كرواتيا تقريبًا، ويتركز وجود أغلبيتهم في المدن الصناعية والثقافية الكبرى مثل العاصمة الكرواتية زغرب (يمثل المسلمون 18 ألف فقط من سكان العاصمة البالغ عددهم 800 ألف نسمة ومعظمهم من الكاثوليك) ومدن رييكا وسيساك ودوبروفنيك وبولا.
وبالنظر إلى أوضاعهم الاجتماعية، فسنلاحظ أن المسلمين الذين ينتمون إلى القومية البوشناقية هم الفئة الأكثر اندماجًا وبروزًا في الحقل المهني والاجتماعي مقارنة مع المسلمين الألبانيين وغجر الروما، والسبب في ذلك أن زغرب كانت من بين عواصم جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق الأخرى، ومثلت حينذاك وجهة جذابة للمهاجرين البوشناق لما فيها من امتيازات على الصعيد المهني والتعليمي أولًا، وأرضية قانونية متينة تعترف بحقوقهم ودورهم في المملكة اليوغسلافية ثانيًا، وبالتالي فتحت هذه الفرص الأبواب أمام الأقلية البوشناقية للاندماج والإنتاج والارتقاء.
وبخلاف ذلك، يذكر التاريخ الكرواتي لمواطنيه المسلمين مشاركتهم العسكرية والمدنية في الدفاع عن بلادهم خلال الاعتداء الصربي (1991-1995)، ومساندتهم لشعبها كونهم جزءًا من هذه الأرض، وهي المحطة التي ساهمت -بلا شك- في الاعتراف بوجودهم وتثبيت وضعهم القانوني، ولا سيما من خلال مؤسسة الجمعية الإسلامية التي عقدت اتفاقًا مع الحكومة حددت فيه نسبة مساهمة الدولة في دعم التعليم الديني في المدارس، إضافة إلى جبهة العمل الديمقراطية المختصة بالنشاطات السياسية.
في نفس الوقت، تُثير هذه الأعوام حساسية المسلمين البلقان بشكل عام تجاه كرواتيا ومعتقداتها القومية المتطرفة، ففي عام 1991 التقى رئيسا صربيا وكرواتيا على حدود جمهوريتيهما، بينما كانت يوغوسلافيا لا تزال قائمة، واتفقا على تقسيم البوسنة بينهما عند تفكك الجمهورية الاشتراكية، تطبيقًا لطموحاتهما القومية في خلق ما سُمي بـ “صربيا الكبرى” و”كرواتيا الكبرى”.
استندت السياسة الكرواتية تجاه هذا القرار إلى الاعتقاد بأن الدولة الكرواتية مسؤولة عن الرفاه والوضع السياسي لشركائها، وبالتالي ضمن حقوقها من خلال التدخل في شؤونها السيادية. وتحقيقًا لهذه الغاية سلحت هذه الأطراف شعبها ووضعت خططًا لبدء التقسيم العسكري وإزالتها من الخريطة السياسية واشتد القتال سريعًا حينها.
ولوقف هذه الحرب الوحشية، اعترفت المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة باستقلال البوسنة في 6 أبريل/نيسان 1992، ومع ذلك استمر صرب البوسنة والقوات الكرواتية البوسنية في القتال بالميدان وإراقة المزيد من الدماء.
ووفقًا للإحصاءات التي تقدمها رئاسة علماء الجماعة الإسلامية في البوسنة، فإن الفترة ما بين 1992 و1995 شهدت تدميرًا ساحقًا وبشعًا لكل الممتلكات والرموز الإسلامية، وهناك ما يقرب من 20% من تلك المساجد والعقارات التي دمرت على أيدي القوات الكرواتية، والبقية على أيدي الصرب.
خلفت هذه المواجهة الدموية عواقب مأساوية ودائمة على كلا الشعبين والدولتين، لكن الطبقة السياسية الجديدة منحت أملًا جديدًا للكروات والبوشناق في علاقة إنسانية مبنية على أساس الترويج لتقاليد المنطقة التي عاشت لعدة قرون على مبادئ التعايش والتسامح بين المسلمين والكاثوليك والأرثوذكس.
الإسلام جزء من الماضي والحاضر الكرواتي
لم تكن تجربة كرواتيا التاريخية مع الإمبراطورية العثمانية العامل الوحيد الذي قرب المسافات بين الكروات والإسلام، فقد ساهمت مجموعة من العوامل في تعزيز موقف المسلمين في البلاد ودفعهم إلى الاندماج في المجتمع الكرواتي، وأهمها قانون البلاد، إذ وافق برلمان البلاد، في 27 نيسان/إبريل 1916، على قرار سلطات الإمبراطورية النمساوية-المجرية بالاعتراف بالإسلام كدين رسمي، كما ضمن الدستور منذ ذلك التاريخ حماية الأقليات القومية “من أي نشاط يعرضهم للخطر أو قد يعرض وجودهم للخطر” ونص على أن “أي تمييز على أساس الانتماء إلى أقلية قومية محظور”.
ويضاف إلى الغطاء القانوني، جانب آخر مهم هو تثقيف وسائل الإعلام الرسمية الناس حول تقاليد الأقليات بشكل عام، إلى جانب الاتصال الفعال بين الحكومة والأقليات، وانفتاح أصحاب الحكم في البلاد على الدين الإسلامي خصوصًا، وتقبلهم إياه كواحد من مكونات الهوية والثقافة الكرواتية، ففي عام 2010، رفضت بعض إدارات الشرطة إصدار رخص قيادة بها صور لنساء يرتدين الحجاب لأن القانون الكرواتي لم يكن دقيقًا بشأن هذه المسألة، وحينها اقترح وزير الداخلية تغيير القانون، وبالفعل أقر البرلمان ذلك، والآن يُسمح لجميع النساء اللواتي يغطين رؤوسهن لأسباب دينية بالحصول على مثل هذه الصور على رخص القيادة دون أي عواقب أو مشاكل.
ظلت الجالية المسلمة في كرواتيا تروج منذ سنوات لفكرة أنها يمكن أن تكون مثالًا لحل قضية الأقليات المسلمة في أوروبا وكذلك المسيحية في العالم الإسلامي
وهي النقطة التي تذكرنا أيضًا بما حدث قبل 4 أعوام تقريبًا، حين ألقت الرئيسة الكرواتية السابقة، كوليندا غرابار كيتاروفيتش، تحية الإسلام “السلام عليكم” في خطاب متلفز خلال فعالية خاصة بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للاعتراف بالدين الإسلامي، كأحد الأديان المعترف بها في البلاد دستوريًا، وقالت: “إن المسلمين جزء لا يتجزأ من المجتمع الكرواتي وثقافته”، وأكدت أن الإسلام “عنصر لا غنى عنه في التاريخ الكرواتي، والاعتراف به رسميًا خطوة مهمة من ناحية التحضر وتحقيق المساواة”.
وفي ذات الفعالية، أشاد رئيس المجلس الرئاسي في البوسنة والهرسك، بكير عزت بيجوفيتش، بالحقوق التي يتمتع بها المسلمون في كرواتيا التي قال عنها “يمكن لها أن تكون نموذجًا للمجتمع الأوروبي، ومصدر إلهام له، من ناحية تأسيس علاقات مع المسلمين داخل البلاد، ومن حيث وضع الجمعيات الإسلامية بها”.
فقد ظلت الجالية المسلمة في كرواتيا تروج منذ سنوات لفكرة أنها يمكن أن تكون مثالًا لحل قضية الأقليات المسلمة في أوروبا وكذلك المسيحية في العالم الإسلامي، حيث تجنبت كرواتيا تصاعد المشاعر المعادية للإسلام، ولكن ذلك لم يمنع حدوث بعض الاعتداءات العنصرية بين الحين والآخر لكنها بقيت محصورة وقليلة، وغالبيتها ناتجة عن التعصب العرقي وليس الديني.
هذه المعطيات تصور لنا مكانة المسلمين في كرواتيا مقارنة مع الأقليات المسلمة الأخرى التي تعيش في أوروبا، حيث تعترف الدولة الكرواتية بالزواج الديني، وتعترف أيضًا وزارة التربية والتعليم بالشهادة الممنوحة من المدرسة الثانوية للجالية المسلمة في زغرب، كما يمنح المسلمون إجازات مدفوعة الأجر للاحتفال بشهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويُسمح لهم بحضورة صلاة الجمعة ثم العودة إلى العمل.
وبعد مرور مئات السنوات، يمكن القول إن المجتمع الكرواتي منفتح على جميع الاختلافات، ولم يكن ذلك ممكنًا لولا مرونة القوانين الدستورية والإجراءات الحكومية تجاه الأقليات بشكل عام، والمسلمين بشكل خاص، وهي السياسة التي لم تنقذ البلاد فقط من جرائم الكراهية والعنصرية داخل أراضيها، وما كان سوف يتبعها من اضطرابات وتوترات اجتماعية، وإنما فتحت لها أيضًا آفاقًا اقتصادية واسعة وغير متوقعة.
تُعرف كرواتيا الآن بكونها واحدة من الدول الصديقة للمسلمين (Muslim-friendly) حيث احتلت الدولة المسيحية المرتبة 59 في مؤشر السفر العالمي للمسلمين لعام 2015، حيث لديها أكثر من 46 منتجًا حلال، وعدد من الفنادق الرئيسية الحاصلة على شهادة حلال، وذلك ما جعل التسامح الديني فيها موردًا اقتصاديًا.