“إن أحفاد الجنود العثمانيين الذين قاتلوا في إطار جيش القوقاز الإسلامي قبل نحو 100 عام يشعرون بالفخر اليوم بهذا النصر العظيم”، هكذا تذكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتصارات أجداده العثمانيين في سياق احتفالات “يوم النصر” الأذربيجاني على أرمينيا واستعادتها إقليم قره باغ.
لا يمكن الفصل بين العلاقات التركية الأذربيجانية في أي حال من الأحوال، إذ يجمع بين الطرفين تاريخ سياسي حافل يعود إلى قرن من الزمن، إضافة إلى علاقات أقدم على الأصعدة الاجتماعية والثقافية إذا رجعنا إلى القرابة وأخوة العرق التركي، ولكن الأيام الأخيرة فتحت الباب واسعًا لترابط أقوى وتداخل أعمق في سبيل إعادة إحياء عبارة “شعب واحد في بلدين” من خلال الدعم التركي اللامتناهي لمعركة باكو ضد أرمينيا في إقليم قره باغ.
حمل الدخول العسكري القوي إلى جانب الأذريين في هذه المعركة عدّة معانٍ موجهة للعديد من الأطراف، ولعلّ أولها للأذريين أنفسهم في سياق التقارب والأخوة، بالإضافة إلى رسائل لأوروبا وروسيا وإيران لإثبات الوجود الإقليمي التركي في هذه المناطق وغيرها، كما تحاول تركيا جاهدةً إلى إحياء الإرث العثماني ورعاية العرق التركي أينما وُجد.
يوم النصر
أقامت أذربيجان عرضًا عسكريًا ضخمًا ضمن فعاليات احتفالها بيوم النصر على أرمينيا، وحضر هذا الاحتفال رجب طيب أردوغان مع وفد كبير يرافقه من أعمدة الدولة التركية، وبالطبع فقد كان لأردوغان مساحةً من الكلام استطاع من خلالها إرسال الكثير من الرسائل إلى العالم، مذكرًا بأمجاد الدولة العثمانية وانتصاراتهم القديمة في أذربيجان.
تضمنت الاحتفالات أيضًا عرضًا للطائرات بدون طيار تركية الصنع، وكان لهذه الطائرات الفضل بتفوق الجيش الأذري على نظيره الأرميني أثناء عمليات القتال، ومن الملاحظ أن طائرة بيرقدار المسيرة باتت اليوم ذات شأن عال، خاصة بعد استخدامها في عدّة مواضع بأماكن التواجد التركي مثل سوريا وليبيا وأذربيجان مؤخرًا.
وذلك ما أشار إليه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بقوله إن مسيرات “بيرقدار” التركية المعروفة، “أدت دورًا استثنائيًا في تحقيق جيش بلاده النصر في عملية تحرير إقليم قره باغ من الاحتلال الأرميني”. وأكد علييف أن “تركيا أردوغان نموذج للعالم اليوم يعبر عن الاستقلال والرجولة والشجاعة”.
وكذلك ألقى أردوغان خطابًا قال فيه إن “اليوم هو يوم انتصار وفخر بالنسبة للعالم التركي”، مضيفا أن تركيا وأذربيجان ستواصلان “الوقوف جنبا إلى جنب”، وأشار الرئيس التركي إلى أن أذربيجان “أجبرت جارتها أرمينيا على التخلي عن سيطرتها على مساحات واسعة من إقليم ناغورني كاراباخ، بعد معارك عنيفة استمرت لأكثر من شهر”، وتعهد أردوغان بدعم أذربيجان في “إعادة إعمار أراضيها التي كانت محتلة”.
وجد أردوغان في هذا الاحتفال مكانًا مناسبًا لتوجيه كلامه للدول الغربية التي كانت تدعم أرمينيا في حربها ضد أذربيجان قائلًا: “على الذين جلبوا لقره باغ الدمار والدماء والدموع أن يعودوا إلى رشدهم، وأن يدركوا بأنه لا يمكن الوصول إلى أي نتيجة من خلال تشجيعات الإمبريالية الغربية”.
حضور أردوغان لاحتفالات يوم النصر الأذرية، كان امتدادًا لعلاقات الرجل الجيدة مع نظيره الأذري علييف الذي وصفه خلال خطابه بـ “الشقيق”، ولا غرابة في ذلك فقد كانت العاصمة الأذرية باكو هي المحطة الأولى لأردوغان بعد يوم واحد فقط من أدائه اليمين الدستورية رئيسا للجمهورية التركية لولاية ثانية عام 2018 تأكيدًا على قوة العلاقة بين البلدين.
وفي التاريخ عبرة
شكّل مسلمو أذربيجان مجلسًا وطنيًا في مايو 1918، معلنين بذلك ولادة جمهوريتهم الديمقراطية الأولى التي تقوم على العرق التركي، جاء ذلك إبان الثورة في روسيا التي اندلعت في 1917، كما تزامن ذلك مع تفكك جنوب القوقاز وتحوله إلى دول ثلاث وهي أرمينيا وجورجيا إلى جانب الجمهورية الأذرية.
كانت مهمة إعلان الاستقلال الأذري تقع على وزارة الخارجية في الدولة العثمانية، التي ساعدت بهذا الأمر وأوصلته لممثلياتها وسفاراتها وجعلت الصوت الأذري مسموعًا، كل ذلك حصل لأن الجمهورية الناشئة لم تكن تمتلك حينها وزارةً للخارجية أو أي مكاتب اتصالات في الدول الأخرى، إنما كانت في طور التأسيس، فوجدت من خلال الدولة العثمانية ضالتها.
لم يرغب البلاشفة الروس أن يخسروا أذربيجان ذات الثروة النفطية الكبيرة، فضغطوا عن طريق أرمينيا لإعاقة إقامة الدولة الأذرية، عند ذلك طلبت الحكومة الأذربيجانية مساعدة عسكرية من العثمانيين، وعلى إثر الطلب الأذري أرسلت السلطنة العثمانية قوة عسكرية بقيادة نوري باشا إلى أذربيجان لتقديم الدعم والحماية ولتحرير باكو من قبضة البلاشفة الروس.
يذكر أن نوري باشا كان قائدًا ضمن “الجيش الإسلامي القوقازي” الذي تم إنشاؤه من قبل وزير الحربية العثمانية أنور باشا إبان الحرب العالمية الأولى، واستطاع “جيش القوقاز” السيطرة على مدن ومناطق عديدة بعد أن فرض سيطرته على باكو عقب قتال عنيف مع قوات البلاشفة والعصابات الأرمنية، وهو الأمر الذي ذكّر به أردوغان في احتفالات النصر على أرمينيا قائلًا: “إن أحفاد الجنود العثمانيين الذين قاتلوا في إطار جيش القوقاز الإسلامي قبل نحو 100 عام يشعرون بالفخر اليوم بهذا النصر العظيم”.
عام 1918 وقعت الدولة العثمانية وأذربيجان اتفاقية الصداقة، وتضمن هذه الاتفاقية طلب المساعدة العسكرية من الآخَر في حال تعرض أي منها لخطر خارجي، لا تنسى أنقرة أن أذربيجان دعمتها خلال حرب استقلال الجمهورية التركية، حيث قامت باكو بين أعوام 1919 و 1923 بتقديم كل مواردها وإمكانياتها لدعم الأتراك ضد القوات التي غزت الأراضي التركية. الجدير بالذكر أن الأذريين شاركوا في معركة جناق قلعة عام 1914 وقدموا أكثر من 3000 قتيل في تلك الحرب.
غزا البلاشفة أذربيجان مجددًا عام 1920، لتصبح أذربيجان ضمن الاتحاد السوفييتي، وبعد إعادة إعلان استقلال الجمهورية عام 1991، كانت أنقرة أول دولة تعترف بها. ووقع البلدان على اتفاقية إعادة العلاقات الدبلوماسية، وفي عام 1992 مع اندلاع الحرب الأرمنية الأذرية على إقليم قره باغ دعمت تركيا باكو ضد خطوات أرمينيا وأغلقت حدودها البرية كما اشترطت من أجل تطبيع العلاقات التركية-الأرمينية بإعادة الإقليم المحتل لأذربيجان.
خلال العرض العسكري الذي حصل في باكو احتفالًا بالنصر على أرمينيا، حضرت الجوقة العسكرية العثمانية، وجال طيف قادة العثمانيين الذين دخلوا إلى باكو محررين عام 1918، ليعود بالذاكرة إلى مئة وسنتين، إلا أنها لم تبقَ ذاكرة طي النسيان فأحفاد الدولتين القديمتين يحيون الاحتفال ذاته على وقع النغمة ذاتها ضمن وقائع إقليمية وعالمية متجددة.