شهدت العاصمة الأذربيجانية باكو في 10 نوفمبر 2020، انطلاق الاحتفالات الوطنية بمناسبة الانتصار في معارك تحرير إقليم ناغورني قرة باغ الشهر الماضي، وشهدت هذه الاحتفالات مشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى جانب قوات تركية، تعبيرًا عن قوة العلاقة بين البلدين، وتوثيق أواصر الدعم العسكري الذي قدمته أنقرة لباكو في المعركة، إذ ساهمت طائرات البيرقدار التركية في تسهيل جزء كبير من مهمة أذربيجان في معركتها ضد أرمينيا.
لايخفى على أحد مدى الأهمية التي توليها تركيا لعلاقاتها مع أذربيجان، فإلى جانب عنصر القومية التركية، يشكل الهاجس الأمني والثقل الطاقوي، أسباب مهمة في التقارب الوثيق بين البلدين، وهو تقارب أنتج من جهة أخرى خشية إيرانية من أن ينعكس هذا التقارب على سياستها في القوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما برز واضحًا في الصراع الأخير بين بين أذربيجان وأرمينيا، حيث وجدت إيران نفسها في جبهة واحدة مع أرمينيا، بالضد من تركيا وأذربيجان، وهو ما دفع أيضًا بالأذريين في إيران، إلى انتقاد موقف بلادهم من هذا الصراع، وطالبوها بتغيير موقفها، وهو ماحصل، في مشهد بدأ يتضح يومًا بعد يوم، من إن هناك خشية إيرانية على هويتها الوطنية من التمزق، وهي خشية ترجمت في مواقف المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، في تصريحاتهم من أذربيجان في الآونة الأخيرة.
ورغم أن هناك العديد من الأسباب التي دفعت إيران إلى الوقوف بجانب أرمينيا بالضد من أذربيجان في صراعاتهم المستمرة، ومن أبرزها العلاقات الجيدة التي تربط باكو بكل من تل أبيب وواشنطن، فضلًا عن تأثير باكو الاقتصادي والطاقوي، إلا إنها من جهة أخرى تنظر إلى الثقل الشيعي في أذربيجان الممزوج بهوية قومية، مهدد أمني وجيوسياسي لها، خصوصًا وأن الأذريين في إيران، يشكلون ثاني أكبر قومية بعد الفرس، حيث تشير الإحصائيات إلى إن عددهم يبلغ نسبة 25 % من السكان، ويرتبطون بمشتركات مذهبية وقومية مع أذربيجان وتركيا، فضلًا عن طبيعة الانفتاح الذي يعيشه الشيعة في أذربيجان، وعدم تأثرهم بالدعاية الدينية التي تبثها القنوات الفضائية الإيرانية، وتمسكهم بالنهج الليبرالي.
تصريحات أردوغان تثير إيران
أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، استدعاء السفير التركي لدى طهران، بسبب تصريحات “أردوغان التدخلية وغير المقبولة في باكو”، يأتي ذلك بعد تصريحات للرئيس أردوغان في الاحتفالية التي أقيمت في باكو يوم الخميس الماضي، ألقى خلالها أبيتًا من قصيدة أذربيجانية عن نهر أرس على الحدود بين إيران وأذربيجان، ويعود بيت الشعر، الذي قرأه الرئيس أردوغان للشاعر الأذربيجاني الشهير محمد إبراهيموف، وهو ضمن قصيدة تتحدث عن نهر أرس وقيمته التاريخية لدى الشعب الأذربيجاني، وخاصة عند سكان منطقة أرس على الحدود بين أذربيجان وإيران، ومن جهته أكد ظريف، أنه لا أحد يستطيع الحديث عن أذربيجان العزيزة في إيران، ردًا على تصريحات الرئيس أردوغان حول انفصال مناطق شمال نهر أرس عن إيران.
كما دعى الصحافي الإيراني الإصلاحي محمد قوجاني، إلى مواجهة “العثمانية الجديدة” بـ”الصفوية الجديدة”. وفي هذا الإطار، يمكن القول أيضًا؛ إن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا – الذي جاء إلى السلطة في عام 2002- يستند في إيديولوجية حكمه اليوم إلى استحضار التاريخ الذي شهد صراعات مستمرة بين الدولتين العثمانية والصفوية، ورغم أن الواقع الجديد القائم على المصالح المشتركة بين البلدين، قد ساهم في زيادة التقارب بينهما خلال الفترة الماضية، فإنه لا ينبغي اعتبار تلك السياسة بمثابة تخليًا تامًا عن العلاقات التاريخية العدائية بين البلدين، فمع استمرار إشارة حزب العدالة والتنمية لإيران باعتبارها “وريثة الإمبراطورية الصفوية”، واستمرار إيران بإظهار تركيا كقوة عثمانية معادية، لا يمكن للمرء أن يتوقع تقاربًا تامًا بين الأعداء التاريخيين.
ومن المفارقات أن النموذج السياسي الإيراني الذي يسعى إلى إنشاء ما يسمى بـ”الهلال الشيعي”، قد قدم خدمة كبيرة لتركيا، ففي الوقت الذي تطرح فيه الدولتان نفسيهما، بأنهما يمتلكان مشروعًا سياسيًا إسلاميًا “شيعي ثوري – إسلامي صوفي“، نجد أن نجاح المشروع السياسي التركي جاء على حساب إخفاقات المشروع السياسي الإيراني، فالصورة الطائفية التي قدمت بها إيران نفسها، أدت إلى عزلها إقليميًا، وزيادة عدم الاستقرار داخليًا، ومن ثم، سمح ذلك لتركيا بأن تدخل حتى في مجال إيران الحيوي، وتحديدًا الشيعي، فتقديم أذربيجان لهويتها القومية على المذهبية، تشكل ضربة قوية لإيران، التي باتت ترى في ذلك صعودًا للهوية الشيعية التركية في مقابل الهوية الشعية الإيرانية.
ورغم كون الحادثة الأخيرة قد تحدث شرخًا في طبيعة العلاقات التركية الإيرانية، إلا إنه بالمقابل يمكن القول، إن الاستحقاقات الإستراتيجية التي تحيط بهما، وتحديدًا عندما يتعلق الأمر بالدور الإستخباري الإسرائيلي في القوقاز، كما إن بقاء النظام الإيراني واستمراره يمثل مصلحة كبيرة بالنسبة لتركيا، التي تدرك جيدًا أن الضغوط الدولية المتصاعدة ضد إيران اليوم، هدفها تغيير النظام السياسي هناك، ومن ثم، ترى تركيا أن أي نظام سياسي جديد قادم في إيران، سيكون قريبًا من الغرب، بل والأكثر من ذلك سيكون قوميًا علمانيًا بامتياز، وهو ما يفرض محددً آخر على الأمن القومي التركي، وفى جميع الأحوال، يوضح النهج الذي تتبعه تركيا مع إيران، كيف أنها استفادت من ظروف إيران من أجل تعزيز أهدافها، ومن المتوقع أن تخفف التوترات مع إيران لتحقيق مصالحها المتمثلة في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية.