أصدرت محكمة العدل الأوربية في الثالث من ديسمبر الجاري قرارًا بإلغاء تجميد أموال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك وعائلته، وهو القرار الذي يلغي القرارات السابقة بحق تجميد أموال العائلة الصادرة في 2016 – 2018، ويسمح لأبناء مبارك التصرف في تلك الأموال الموضوعة في البنوك الأجنبية.
القرار ربما لم يكن مفاجئًا لكثير من المتابعين في ضوء المؤشرات الأخيرة التي كانت تذهب لتلك النتيجة الحتمية، لكنه جاء صادمًا لقطاع كبير من الشعب المصري الذي كان يؤمل نفسه باستعادة تلك الأموال والتي قدرتها بعض المصادر بـ 70 مليار دولار.
وبصرف النظر عن صحة هذا الرقم، إلا أن إلغاء قرارات التجميد السابقة يشير إلى أن هناك أخطاء جسيمة كانت وراء هذا الحكم الذي يجهض آمال استعادة تلك الأموال، وهي الأخطاء التي تتشارك فيها الإرادة السياسية للدولة والإجراءات القضائية المتبعة كما سيرد ذكره تفصيلًا.
المحكمة في تفسيرها للقرار رأت «أن مجلس الاتحاد الأوروبي لم يتمكن من التأكد أن العقوبات المفروضة على مبارك وأسرته كانت على أساس متين»، مضيفة أنه «لا يكتفي بإشارة من السلطات المصرية»، «قبل أن يتحقق مجلس الاتحاد من احترام حقوق الدفاع والحق في الحماية القضائية الفعالة».
وفي أول رد فعل على هذا القرار أكد محامي أسرة مبارك، فريد الديب أن المحكمة الأوروبية أنصفت مبارك وأسرته، منوهًا أنه “سيرفع دعوى تعويض ضد الجهة المعنية هناك لتقاعسها عن التحقق خلال السنوات العشر السابقة من أن الرئيس مبارك وأفراد أسرته يلقون “النصفة الكاملة”، بحسب صحيفة “الوطن” المصرية.
ويعد ملف الأموال العربية المهربة للخارج أحد أبرز الملفات التي فرضت نفسها على ساحة الأضواء منذ ثورات الربيع العربي، ويقدر حجم تلك الأموال في البنوك السويسرية فقط بنحو 200 مليار دولار، فيما قدرت إجمالي المبالغ العربية المودعة في الخارج بصفة عامة بحوالي عدة تريليونات من الدولارات، بحسب ما نقله موقع “دويتش فيله” عن الغرفة العربية السويسرية للتجارة والصناعة في جنيف.
9 سنوات بلا جدوى
منذ تنحي الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك عن الحكم في 2011 بدأت التحركات القضائية لاسترداد الأموال المهربة والتي تنوعت ما بين أرصدة في بنوك بريطانية وسويسرية وعقارات في لندن ونيويورك ولوس أنجلوس، وفيلات في شرم الشيخ والغردقة.
ليلة التنحي مباشرة، كانت سويسرا هي الأسبق من حيث التفاعل مع المطالب المصرية، حيث جمدت 750 مليون دولار، من أموال مبارك ورجاله، بجانب إعدادها قائمة أولية شملت 17 اسمًا ارتفعت بعد ذلك إلى 31 شخصًا، وكان من المقرر إلغاء تجميد هذه الأموال في عام 2013، إلا أن الحكومة السويسرية مدته 3 أعوام أخرى.
الحكومة السويسرية استندت في قرارها آنذاك إلى الاتفاقية التي وقعت عليها مصر في عام 1992 لمكافحة الفساد، لكن كانت هناك عقبة أمام إتمام هذا القرار واسترداد مصر لتلك الأموال المجمدة، تمثلت في ضرورة وجود حكم قضائي بات يثبت فساد مبارك ورجاله.
وقبيل رحيل مبارك بساعات قليلة أحال النائب العام المصري نخبة من رموز الرئيس الراحل إلى التحقيق بتهمة الاستيلاء على المال العام، أبرزهم: وزير الإسكان السابق أحمد المغربي، ووزير الصناعة والتجارة السابق رشيد محمد رشيد، ورئيس تنظيم الحزب الوطني السابق أحمد عز، ثم لحق بهم بعد ذلك وزير البترول الأسبق سامح فهمي، ورجل الأعمال حسين سالم، فيما تم إدراج علاء وجمال مبارك وسوزان مبارك، وفتحي سرور وصفوت الشريف وزكريا عزمي، في قضايا الكسب غير المشروع، لتختتم لائحة الاتهام بمبارك نفسه بعد ذلك.
في ظل تلك الأجواء المشحونة تتابعت الأخبار التي تشير إلى مصالحات تمت ولا تزال مع رموز مبارك، فإذ بهؤلاء خارج السجون، بعضهم ظفر بالبراءة وآخرون تصالحوا مع الدولة
وعلى مدار 9 سنوات تم تشكيل 5 لجان رئيسية لاسترداد تلك الأموال المهربة، اللجنة الأولى تشكلت في 4 إبريل عام 2011، إبان المجلس العسكري، والثانية في 23 فبراير 2012، عن طريق مجلس الشعب (البرلمان)، أما الثالثة فتشكلت في 2 سبتمبر بتكليف من الرئيس الراحل محمد مرسي.
وفي 2 نوفمبر 2014 أصدر الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي قرارًا بتشكيل “اللجنة الوطنية التنسيقية لاسترداد الأموال المهربة بالخارج”، أما اللجنة الخامسة والأخيرة فتشكلت بقرار من المهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، في نوفمبر 2015.
وطيلة تلك السنوات لم تحرز تلك اللجان أي تقدم يذكر في هذا الملف، هذا في الوقت الذي كلفت فيه موازنة الدولة أكثر من 40 مليون جنيه (2.5 مليون دولار) في صورة بدلات سفر وأتعاب محامين وخلافه، بحسب محامي مبارك، فيما قدرها عضو البرلمان المصري طارق الخولي بـ 120 مليون دولار.
ما الذي حدث؟
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا لم تستجيب سويسرا وغيرها من البلدان التي تحتض أموال مبارك وأسرته للمطالب المصرية؟ وهنا يشير الكثير من المحللين إلى أن كثيرًا ما خاطبت الحكومة السويسرية مصر لإثبات فساد مبارك حتى يمكنها من استرداد تلك الأموال، لكن لم تلق تلك المناشدات أي استجابة من القاهرة.
السفير فلانتين زيلوجر، مدير إدارة القانون الدولي في وزارة الخارجية السويسرية، والمسؤول عن ملف استرداد الأصول، في تصريحات له خلال لقاءه وفداً إعلاميًا مصريًا عام 2015، أشار إلى “الكرة في ملعب مصر”، ومن ثم عليها تقديم الأدلة الموثقة بشأن تورط تلك الشخصيات المجمدة أموالهم في قضايا فساد وصدور أحكام قضائية في هذا الشأن.
وأضاف أن سويسرا كانت قد أوقفت تبادل المعلومات مع النيابة المصرية بسبب إقالة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود في ديسمبر 2012، وهو ما أثار الشكوك لديها في تدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية، مع الوضع في الاعتبار أن المستشار المقال كان قد عينه مبارك في 2006.
وعن مسألة احتكار سويسرا بكافة الأموال التي هربها مبارك، أشار الدبلوماسي السويسري إلى أن “الحكام الطغاة ليسوا أغبياء لكي يضعوا أموالهم كلها في مكان دولة حتى لو كان سويسرا”، مضيفًا أنهم “ربما يكونوا مستبدين ودمويين لكنهم بالتأكيد ليسوا أغبياء، وبالتالي فإذا كانت لهم أموال في سويسرا فقد يكون لديهم أموال في دول أخرى”.
وعما يثار بشأن تعنت الحكومة السويسرية في الإفراج عن الأموال المجمدة لديها، أضاف أن بلاده أعادت أكثر من ملياري دولار إلى دول تم تهريب أموال منها، من بينها 700 مليون دولار تم إعادتها إلى الحكومة النيجرية بعدما حصلت على حكم قضائي بفساد رئيسها الراحل سان أباتشي.
التصالح يجهض الأمال
اللافت للنظر أنه وبينما يتابع المصريون عن كثب مسار استرداد أموال مبارك، مؤملين أنفسهم بانتصار معنوي أكثر منه مادي يحسب لهم ضد فساد ثلاثة عقود كاملة ترك فيها الرئيس الراحل البلاد في قبضة حفنة من المنتفعين وأصحاب الأجندات الرأسمالية، إذ بهم يتلقوا ضربة موجعة من السلطات نفسها.
وفي ظل تلك الأجواء المشحونة تتابعت الأخبار التي تشير إلى مصالحات تمت ولا تزال مع رموز مبارك، فإذ بهؤلاء خارج السجون، بعضهم ظفر بالبراءة وآخرون تصالحوا مع الدولة، فهاهي زوجة مبارك، يُسقط عنها التهم مقابل 24 مليون جنيه تسددهم للدولة.
هذا بالتوازي مع الإفراج عن رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف، مقابل مليون و147 ألف و850 جنيه، فيما تصالح رئيس البرلمان الأسبق، فتحي سرور، مقابل 6 ملايين جنيه، أما رئيس ديوان رئيس الجمهورية، زكريا عزمي فدفع مليون ونصف نظير الإفراج عنه، كذلك صفوت الشريف كقابل 250 ألف جنيه، ورشيد محمد رشيد وغيرهم.
ثم جاءت الضربة الأكثر إيلامًا، وهي تصالح جهاز الكسب غير المشروع، في 23 أغسطس 2016، مع رجل الأعمال حسين سالم (المتهم بإهدار المال العام في قضية تصدير الغاز لإسرائيل ) مقابل تنازله عن 5 مليارات جنيه و341 مليون و850 ألف جنية، والتي تقدر بنسبة 75% من إجمالي ثروته البالغة 7 مليارات و122 مليون و466 ألف و733 جنية.
التصالح مع رموز الفساد في تلك الحقبة المنقضية يعكس رغبة أخرى غير تلك التي يروج لها إعلاميًا
رسائل قرار المحكمة الأوروبية
حمل حكم محكمة العدل الأوربية العديد من الرسائل والدلالات في آن واحد، الأولى موجهة إلى منظومة القضاء المصري، فمنطوق الحكم يشير إلى أن سبب إلغاء قرارات التجميد السابقة يعود إلى وجود أخطاء إجرائية في محاكمة مبارك وأبنائه، إذ لم يقدم القضاء أي أدلة مقنعة للمحكمة الأوروبية.
ومن خلال متابعة سير العملية القضائية يلاحظ أن هناك تعاطفًا واضحًا مع مبارك وعائلته، تجسد ذلك في العديد من الشواهد التي كانت تجمع بين قضاة الجلسات والرئيس الراحل، وهي المفارقة التي تعمقت ملامحها في التباين الفجً في التعامل بين مبارك ومرسي كرئيسين متهمين في قضايا مختلفة بصرف النظر عن موضوعيتها.
الدلالة الثانية تشير إلى عدم وجود الإرادة السياسية الكافية لاسترداد تلك الأموال، أو تعظيم الخصومة مع مبارك وأبنائه ورموز نظامه، فبجانب الاتهامات الموجهة من الحكومة السويسرية بتجاهل الجانب المصري للمطالب الخاصة بتقديم ما يفيد بتورط مبارك في قضايا فساد، فإن التصالح مع رموز الفساد في تلك الحقبة المنقضية يعكس رغبة أخرى غير تلك التي يروج لها إعلاميًا وتشكل لأجلها اللجان التي اهدرت الملايين من الجنيهات في شكليات لا فائدة منها.
وبدلًا من المضي قدمًا في استئصال شأفة حقبة مبارك التي شهدت فسادًا لم تشهده البلاده منذ عقود طويلة، كان تقرب النظام من أبناء تلك الحقبة مثيرًا للجدل، فباتوا اليوم واجهة المجتمع الأبرز، والمكون الأهم والأقوى للبرلمان الحالي بغرفتيه (النواب والشيوخ) هذا بجانب تمهيد الطريق أمامهم لبناء حزب وطني جديد بمسمى آخر (مستقبل وطن).
كل تلك المؤشرات تذهب إلى حقيقة واحدة، تتمثل في انتفاء الرغبة السياسية في استرداد أموال مبارك، وتجنب المزيد من الخصومة مع أبنائه وعائلته، وهو ما يعكس حجم المصالح المشتركة بين النظامين، الحالي والمنحل، وحجم التشابه الكبير بينهما حتى وإن رفع النظام الحالي شعارات التبرؤ من حقبة مبارك بكل مافيها.
هل من تجارب ناجحة في هذا المسار؟
لاشك أن عملية استرداد الأموال المهربة للخارج مسألة غاية في الصعوبة، وتحتاج لنفس طويل من قبل الحكومات في التعاطي مع التعقيدات القضائية والبيروقراطية في الإجراءات، لكن هذه الصعوبة تتحطم على صخرة الإرادة السياسية للدولة حالما توفرت.
البعض من أنصار مبارك والنظام الحالي يميلون في تبريرهم للفشل في تحقيق أي إنجاز يذكر في هذا الملف إلى صعوبة المسألة وتعقيداتها، وأن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، وهنا تساؤل: هل هناك من نماذج سابقة في هذا الإطار تشير إلى نجاح حكومات أخرى في استرداد أموال حكامها الفاسدين؟
بالطبع العقود الماضية حافلة بالعديد من التجارب الناجحة في هذا الشأن، منها ما تم ذكره آنفا من استرداد نيجيريا لعشرات الملايين من الدولارات التي نهبها الدكتاتور النيجيري السابق ساني أباتشا بعد 18 سنة علي وفاته، ويعود هذا النجاح إلى الخبرات القانونية الكبيرة التي استعانت بها الحكومة النيجرية، وتوفر الإرادة السياسية التي دعمت هذا الملف بكل ما لديها من خبرات وإمكانيات.
من الواضح أن نظام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لا يريد بشكل أو بأخر الصدام مع نظام مبارك، حتى لو كان الخاسر هي الدولة وموارد الشعب التي تم نهبها على مدار سنوات طويلة مضت، بعيدًا عن الجولات القضائية الماضية صفرية النتائج.
عربيًا.. ورغم تجميد ملف الأموال المهربة بسبب النزاع السياسي في ليبيا بين الشرق والغرب، إلا أن الدولة الليبية استطاعت عبر حكم محكمة بريطانية استعادة قصر الساعدي القذافي في لندن والذي قدرت قيمته 16 مليون دولار، هذا بخلاف التحركات القانونية الأخرى في هذا الملف.
كذلك هناك النموذج الماليزي، حيث نجحت الحكومة الحالية في استرداد العديد من الأموال المهربة للخارج عن طريق الحكام السابقين، ومن أبرز القصص في هذا المضمار قصة استرداد اليخت الذي كان يملكه رئيس الحكومة السابق نجيب رزاق والذي تقدر قيمته بـ 250 مليون دولار.
من الواضح أن نظام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لا يريد بشكل أو بأخر الصدام مع نظام مبارك، حتى لو كان الخاسر هي الدولة وموارد الشعب التي تم نهبها على مدار سنوات طويلة مضت، بعيدًا عن الجولات القضائية الماضية صفرية النتائج.
هذا التفسير يعززه التزامن الغريب بين قرار المحكمة الأوروبية إلغاء قرارات تجميد أموال مبارك وبين رفع اسم جمعية “جيل المستقبل” اللي أسسها جمال مبارك من قضية التمويل الأجنبي الشهيرة رقم 173، وذلك بعد يومين فقط من قرار محكمة العدل.
ينضم إلى قائمة دفوع هذا الرأي ما أعلنته محكمة الاستئناف الموافقة نوفمبر الماضي بشأن إنهاء أثر قرار المنع من التصرف الصادر بحق أسرة الرئيس الراحل، وقد طالبت البنك المركزي باتخاذ اللازم من الناحية المصرفية والقانونية في هذا الشأن.
ربما لم يتعلق قرار المحكمة الأوروبية بكافة أموال أسرة مبارك في الخارج، كونه يتعلق ببعض الأحكام الصادرة خلال عامي 2016 و2018 فقط، كما أنه لم يتضح بعد كيفية تصرف أبناء الرئيس الراحل في تلك الأموال، إلا أنه يعد مؤشرًا هامًا وجديًا للخارطة العامة لهذا الملف المثير للجدل، ليقضي معه وبنسبة كبيرة على أحلام المصريين في تحقيق أي انتصار معنوي على فساد مبارك المتوارث حتى اليوم بعد تصدر رموزه المشهد السياسي والاقتصادي مرة أخرى.