تصاعد الدور التركي المستمر إقليميًا طيلة السنوات الأخيرة بات يُلقي بأثره على تغيّرات القوى المهيمنة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وجعل سياسات أنقرة تحت أنظار دول ومجتمعات المنطقة خاصة بعد أن تزايد المكوّن العربي والإسلامي حضورًا في معادلاتها، فيما ساهمت ثنائية دبلوماسيتها القائمة على القوة الناعمة حينًا والصلبة (عسكرية) حينًا آخر في كسر الحواجز التي أقامتها أوروبا سابقًا حينما تداعت أعمدة الدولة العثمانية، الأمر الذي ساهم في تعقيد علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي.
عودة الأتراك إلى ساحة الفعل الدولي يعود بالأساس إلى تخليهم عن المقاربة التقليدية التي اعتمدتها في سياستها الخارجية القائمة على التوجّه نحو الغرب وتكريس خيوط دبلوماسيتهم لتوطيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بهدف الانضمام إلى الاتحاد، وهي خطوة عزّزت حضور أنقرة على الصعيد الإقليمي وأقلقت الشريك الأوروبي، فتحوّل الأتراك نحو آسيا وروسيا والعالمين العربي والإسلامي أكسبها نقاط قوّة في سجالها المستمر مع الأوروبيين حول فرص وتحديات الشراكة المؤجلة بينهما.
قوة وعقوبات روتينية
التحوّل الجذري في الدبلوماسية التركية وانخراطها في مجالها الجغرافي والتاريخي، جعل منها دولة وازنة ذات ثقل سياسي في المعادلة الدولية، فأنقرة غيّرت ميزان القوى في ليبيا ودعمت الحكومة الشرعية المعترف بها من الأمم المتحدة ضد قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من فرنسا وروسيا وبعض دول الخليج المناوئة للربيع العربي، ودعمت باكو ضد يريفان التي هاجمت إقليم قره باغ وهو من أراضي أذربيجان المعترف بها دوليًا.
الصعود المتنامي لقوة الأتراك مرده ترسيخ أنقرة لحضورها ونفوذها الإقليمي من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا وصولًا إلى منطقة جنوب القوقاز الاستراتيجية التي سجلت فيها تركيا نصرها الأخير بدعمها لحليفتها باكو، وبالإضافة إلى الاقتصاد باعتباره من أركان النهضة التي تعرفها البلاد، يبدو أن مساعي تنقيبها عن النفط شرقي البحر الأبيض المتوسط بالتزامن مع إرسالها سفنًا بحرية وحربية إلى مناطق تعتبرها ضمن جرفها القاري “الوطن الأزرق”، ورقة أخرى ستعزز مكانة أنقرة على حساب جيرانها ومنافسيها الأوروبيين الذين أقلقتهم.
خوف الأوروبيين من منافسة تركيا القوة إقليمية مستقبلية التي تتحكم في الطرق التجارية والطاقة والهجرة في شرق البحر المتوسط، والساعية لضمان منفذ لأسواق إفريقيا الشمالية والدول الأخرى، أحيا فيهم الهواجس الكامنة، ودفع بهم إلى محاولة تحجيم تمدد نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي عبر آلية العقوبات التي ترى فيها أنقرة إجراء روتيني لن يؤثر على علاقتها بالاتحاد بشكل ملموس.
الاتحاد الأوروبي وافق مؤخرًا على توسيع العقوبات “الفردية” ضد أنقرة، على ألا تطال اقتصاد البلاد، وذلك ردًا على أعمال التنقيب عن موارد الطاقة، التي أطلقتها تركيا في شرقي البحر المتوسط، وفي بيان مشترك، “تعهد الاتحاد الأوروبي بتوسيع قائمة الأتراك المستهدفين بحظر السفر وتجميد الأصول” “بينما لم يتجه نحو فرض عقوبات أكثر إيلامًا من الناحية الاقتصادية ضد الحكومة في أنقرة”.
ووفقًا لـ”بلومبيرج” لم يستجب رؤساء حكومات الكتلة لمطالب تقودها اليونان، الداعية لبدء في صياغة عقوبات أشد مثل “حظر المعاملات بين المؤسسات الأوروبية والشركات التركية”، في مقابل ذلك أشاروا إلى إمكانية التفكير في المزيد من الإجراءات العقابية، بحلول شهر آذار 2021.
تردد الأوروبيين في اتخاذ إجراءات تُجاه أنقرة، حوّل تحذيراتهم المستمرة إلى مجرّد رد فعل روتيني أجوف
من هذا الجانب، يبدو أن أنقرة تعرف جيدًا أن الاتحاد الأوروبي ككتلة منقسمة في المواقف والسياسات غير قادرة في الوقت الراهن على اتخاذ إجراء قوي تجاه تركيا، وهو ما أكّدته تسريبات رويترز التي أفقدت اجتماع زعماء الاتحاد الأوروبي في بروكسل ثقله بتأكيدها على أن البيان الختامي لن يتضمّن سوى عقوبات خفيفة، أو الاكتفاء بالتحذير من أنه إذا استمرّت تركيا في انتهاك سيادة اليونان وقبرص، فسيفرض عليها الاتحاد عقوبات في اجتماعه المقبل في آذار/ مارس.
التحذيرات الأوروبية للأتراك ليست جديدة إذ إن قمّة الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي حذّرت تركيا من أنه إذا استمرّت في نشاطاتها الأحادية الجانب في شرق المتوسّط وفي انتهاك القانون الدولي، فإن قمة العاشر من كانون الأول/ ديسمبر سوف تفرض عقوبات عليها، فيما صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، تشارلز ميشال، أنّ قمّة بروكسل سوف تناقش مسألة فرض عقوبات عليها.
تردد الأوروبيين في اتخاذ إجراءات تُجاه أنقرة، حوّل تحذيراتهم المستمرة إلى مجرّد رد فعل روتيني أجوف فاقد لمقومات الجرأة الدبلوماسية والسياسية، ما يعني بالضرورة أن الموقف الأوروبي عامة في حالة تشرذم ناتجة عن بنية المصالح البينية التي تربط أنقرة ببعض الدول الأعضاء.
نصف تقارب
على عكس فرنسا التي تقود مساعي حثيثة لحصار أنقرة وسد المنافذ أمامها سواء في عملية انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي أو في مجال النفوذ الإقليمي والدولي، يرى المراقبون أن الكلمة الحاسمة في قرارات الاتحاد الأوروبي تعود لألمانيا باعتبارها تُمثل صوت العقل لا تُحركها المصالح الضيقة كباريس، وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، اتهم في وقت سابق تركيا، بأنها تعرقل الحوار المباشر مع اليونان وقبرص اليونانية وتُواصل عمليات الاستفزاز، فإن موقف المستشارة أنجيلا ميركل كان أكثر اتزانًا وتمثيلًا للسياسة الألمانية المحايدة المبني على قاعدة النصف تقارب، وذلك من خلال دعوتها لإبقاء باب الحوار مع أنقرة مفتوحًا وعدم فرض عقوبات عليها.
بدوره وصف نائب الألماني السابق، يورغن تودينهوفر من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (ميركل)، جهود الاتحاد الأوروبي في محاولة فرض عقوبات على تركيا بأنها “هراء”، مضيفًا: “اعتبر ذلك هراء (فرض العقوبات)، والتصرف بطريقة المدرس الحازم تجاه تركيا غير عادل أبدًا”.
في التوجه ذاته، أشار الناطق باسم المفوّضية الأوروبية، بيتر ستانو، إلى أن العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي لها أبعاد كثيرة، معتبرًا أن مصلحة أوروبا تكمن في أن تتقدّم العلاقات إيجابًا بالقدر الممكن المرتبط بالموقف التركي، وفي إقامة تعاون بنّاء وحوار، مشدّدًا على أن تركيا عضو في “حلف شمال الأطلسي”.
الموقف نفسه تقريبًا عَبّر عنه رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، الذي قال إنه يجب إبقاء نافذة الفرص مفتوحة من أجل مسار إيجابي؛ فتجذير التوترات ليس في مصلحة الاتحاد، ولا سيما أن “قبالتَنا بلدًا عضوًا في حلف شمال الأطلسي”، داعيًا إلى عدم تصعيد التوتر عشية القمّة، معتبرًا أن أهمّ شيء هو أن يكون التكتل الأوروبي متوحّدًا وكلمته واحدة، ويتحدّث بمنطق مقنع، مضيفًا أن “الإشارات التي سنرسلها إلى أنقرة يجب أن تكون واضحة جدًا، وهي ألّا يتصاعد التوتر”.
وفي نفس الاتجاه جاء تصريح رئيس المجلس الاوروبي شارل ميشيل، الذي أعلن عن الاستعداد الدائم لبروكسل للتعاون مع تركيا في المجالات ذات الاهتمام المشترك شريطة أن تستجيب للشروط الأوروبية.
انقسام أوروبي
انقسام الموقف الأوروبي حول العقوبات لا تُجسده تصريحات مسؤولي البلدان الأعضاء، بقدر ما أشارت إليه التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبيل زيارته لأذربيجان، حيث أكّد أنّ قرارات العقوبات المحتملة من جانب الاتحاد الأوروبي لا تهم تركيا كثيرًا، مشيرًا إلى أن الدول الأوروبية تفرض عقوبات على بلاده منذ 1963، متابعًا القول: “سنرى القرارات التي سيتخذونها والخطوات التي سيقدمون عليها، هناك قادة أوروبيين صادقين ومنصفين يعارضون مثل تلك القرارات”.
في قراءة بسيطة، تدرك الإدارة التركية أن تعزيز موقع أنقرة على الخارطة الجيوسياسية العالمية وإعادة ترتيب وضعها الاستراتيجي في المنطقة والعالم يتطلب التعامل مع الشريك الأوروبي (مع تنفيذ التأجيل) وفق دبلوماسية تعدد القنوات وتشابك العلاقات والتعويل على الخلافات الداخلية الأوروبي لفرض سياسة الأمر الواقع، خاصة بعد أن تبين بما لا يدع للشك أن دول كفرنسا تعمل جاهدة لمنع انضمام تركيا للتكتل.
أوروبا منقسمةبسبب عقوبات تركيا:
اليونان،قبرص الروميةوفرنسا:تدعو لذلك
ايطاليا والمجر:ضد
المانيا:تدعو للحواروتركيا ترد غير آبهة:”عقوباتكم لن تؤثر علينا ولن نتخلى عن حقوقنا وحقوق قبرص التركية”
تركيا لم تعد بمحل”المفعول به”بل”الفاعل”الذي يحسب له الف حساب
من يوقظ الأعداء من غفلتهم؟— Muhammet Erdoğan – محمد أردوغان ?? (@Muhamed_Erdogan) December 9, 2020
من هذه الزاوية، يبدو أن الأتراك وقفوا على التغيرات التي أصابت الاتحاد الأوروبي الذي بات منقسمًا نتيجة خروج البريطانيين وصعود أعضاء يطاردون طموحاتهم السياسية المغامرة (فرنسا ماكرون)، وبالتالي فإن عملية الاستثمار في عجز التكتل عن مجاراة تحوّل الجغرافيا السياسية في العالم لصالح أقطاب أخرى كروسيا والصين قد تُعطي ثمارها على المدى القريب أو المتوسط.
وسط التضييق الأوروبي وافتعال الأزمات كالقضية اليونانية والتدخل الإقليمي في ليبيا وفي مناطق أخرى إضافة إلى ملف الحريات وحقوق الإنسان، تُمارس أنقرة مع التكتل دبلوماسية لعبة الأعواد المتفرقة التي يسهل كسر كل واحدة منها على حدة، فأنقرة تعلم جيدًا أن ألمانيا البراغماتية لا يهمها سوى قضايا اللاجئين والمحاور الأمنية الكبرى كالإرهاب وتطوير المبادلات الاقتصادية، وأن إسبانيا وإيطاليا تخشيان أن تقود أي عقوبات محتملة على أنقرة إلى أضرار بمصالحها الاقتصادية، فيما لا تملك باريس من أمرها سوى آمال رئيس شاب بإعادة دور فرنسا الاستعماري.
قسم مهم من أمن أوروبا بيد الأتراك سواء أعجب ذلك الأوروبيين أم لم يعجبهم
وزير الخارجية المجري بيتر زيجارتو pic.twitter.com/SnkEQy46Wv
— وكالة أنباء تركيا (@tragency1) December 8, 2020
من جهة أخرى، يشهد الاقتصاد التركي نموًا بوتيرة أسرع بكثير من الاقتصاد الأوروبي، وذلك بفضل انفتاحها على عوالم أخرى في آسيا وإفريقيا ما يعني أن أنقرة في الوقت الحالي تحظى بأفضلية مقارنة ببعض أعضاء التكتل، ما يجعل الأخير بحاجة إلى التقارب من أجل تسهيل عملية الوصول للأسواق عبر المنافذ التركية، وبالتالي فإنّ مساعي إضعاف تركيا لا تخدم الغرب، خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان أن أنقرة لن يعسر عليها إيجاد مكان في النظام الاقتصادي الجديد الذي يتم تشكيله من قبل أقطاب عالمية كالصين، وذلك لكونها جسرًا بين قارات أوروبا وآسيا، ففي حال مالت أنقرة للضفة الأخرى وانخرطت مثلا في رابطة جنوب شرق آسيا “آسيان” وأدارت ظهرها لأوروبا سيزداد نفوذها الجيوسياسي وستتنوع لديها البدائل، وهو أمر تتخوّف منه عدد من الدول الأوروبية.
ورقة بايدن
لقاء بروكسل الأخير شدّد على أن الاتحاد الأوروبي سينسق إجراءاته وقراراته بشأن تركيا مع السلطات الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، ما يعني أن الأوروبيين سيلعبون ورقة العلاقات الأمريكية التركية من أجل الضغط على الأنقرة لتعديل سياستها الخارجية، والاستثمار في توتر الأجواء بين البلدين لتحجيم النفوذ التركي في منطقة القوقاز.
هذه الخطة يبدو أنّها ارتجالية إلى أبعد الحدود، إذا كانت أوروبا ترمي من وراءها استغلال مخاوف واشنطن من تقارب أنقرة مع موسكو ومن التعاون العسكري من خلال منظومة الصواريخ الدفاعية إس 400، فإن الأتراك سيلعبون نفس اللعبة وسيستغلون محاولة بايدن لجم التأثير الروسي في المنطقة بصفتها الدولة الوحيدة القادرة على ذلك.
رهان أوروبا على تدهور العلاقات بين أمريكا وتركيا، خاسر منذ البدء فأنقرة ستغير من أسلوب تعاملها مع واشنطن بعد رحيل ترامب وستحل مكانها سياسة جديدة تُقدم من خلالها نفسها على أساس القوة الإقليمية التي لا يُمكن الاستغناء عنها، فعمق دبلوماسية أنقرة تكمن في قدرتها على ربط العقد التي يصعب حلّها.
بالنهاية، يبدو أن العلاقات الأوروبية التركية تتحكم فيها نظرية الاستبعاد والاستيعاب، فبينما تنادي أصوات بالانفتاح على أنقرة وترى في ذلك خطوة إيجابية على كل الأصعدة، تعلو أخرى وهي الكفة السياسية الغالبة بالرفض متعللين بكل ماهو ديني ثقافي يرتبط بهوية حضارية إسلامية، حيث يرون أنّ تركيا لا تنسجم مع الهوية “المسيحية” التي تجمع أعضاء النادي الأوروبي، لكن من الواضح أن التكتل القاري (أوروبا) مازال إلى الآن رهين أسئلة الفرص والتهديدات في علاقته بأنقرة.