ترجمة وتحرير نون بوست
اتخذ مشروع “الإسلام التنويري” الذي يتبنّاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدًا جديدًا بعد مقتل المدرّس صامويل باتي. وقد وجّه ماكرون انتقادات حادّة لكل من يعارض مشروعه، بما في ذلك وسائل الإعلام الأمريكية التي يزدريها بشكل خاص.
وكان النهج النقدي في وسائل الإعلام الأمريكية تجاه ما يحدث على الساحة الفرنسية مختلفا تماما عن تعامل الإعلام البريطاني مع “المشروع الإسلامي” الذي يطرحه ماكرون. وتشمل رؤية ماكرون ما يمكن للمسلمين أن يفكروا به بشأن عقيدتهم وما قد يعترضون عليه، وكيف يعلّمون أطفالهم. وفيما انتقدت وسائل الإعلام الأمريكية هذا المستوى من التحكم في تفكير الآخرين، وقفت معظم الصحف البريطانية إلى جانب رؤية ماكرون. في الواقع، صادق مجلس الوزراء الفرنسي مؤخرًا على مشروع قانون ماكرون لـ”تعزيز مبادئ الجمهورية” وسيُناقش قريبا في الجمعية الوطنية.
تبنّي رواية الحكومة الفرنسية
حثّ مقال افتتاحي في صحيفة التايمز البريطانية على “الدعم غير المشروط” للحملة، وأشاد بخطط الحكومة الفرنسية لحظر التعليم المنزلي ومنع الأئمة الأجانب من تدريب الدعاة في فرنسا “كآلية للدفاع عن النفس من أجل دولة ديمقراطية”. نسمع أيضا عن خطط لإعطاء الأطفال الفرنسيين أرقام هوية، بهدف إنقاذهم من “براثن الإسلاميين“. تبدو هذه السياسات شبيهة إلى حد ما بحملة الاضطهاد الصيني ضد مسلمي الأويغور، إلا أن وسائل الإعلام البريطانية تكتفي بتكرار رواية الحكومة.
ولا تبدو الإشادة بهذه الحملة القمعية أمرا مفاجئا من صحيفة روّجت في السابق أخبارا كاذبة عن المسلمين البريطانيين، لكن الحماس في تبني رؤية الحكومة الفرنسية هذه المرّة جاء من صحيفة “الغارديان” اليسارية الوسطية، والتي روّجت بشكل ملحوظ ادعاءات ماكرون بأنه يضع قوانين جديدة “ضد الانفصالية الدينية”.
هناك أيضا دعم لحملة لأجهزة الأمنية الفرنسية في صحيفة التلغراف، حيث عملت الصحيفة على ترويج فكرة أن المسلمين في جميع أنحاء أوروبا يثيرون المشاكل مثلما يحدث في فرنسا. وأعربت مجلة ذي سبيكتاتور عن أسفها لأن ماكرون يتحرك “بمفرده”، متجاهلة حقيقة أن كل أجهزة الدولة الفرنسية تجنّدت لتنفيذ حملة القمع ضد المسلمين.
تُظهر المقارنة بين وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية مدى تماهي الإعلام البريطاني مع رؤية ماكرون. نشرت صحيفة نيويورك تايمز، التي أبدى الرئيس ماكرون ووسائل الإعلام الفرنسية استيائهما منها بشكل خاص، قصة واقعية عن قتل الشرطة الفرنسية للمتهم باغتيال باتي. وعلى الجانب الآخر، سارعت المواقع الإخبارية البريطانية قبل أسابيع من مقتل باتي، إلى نشر تقارير لم يتم التحقق منها، تزعم أن رجلا صرخ “الله أكبر” وهدّد بوجود قنبلة في برج إيفل. وتبين فيما بعد أن ذلك الخبر لا أساس له من الصحة.
بين الإعلام الأمريكي والإعلام البريطاني
انتقد ماكرون وسائل الإعلام الأمريكية التي تجرأت – على عكس نظيرتها البريطانية – على التشكيك في حملة حكومته القمعية ضد المواطنين المسلمين في فرنسا. وقد ندّد كتاب الأعمدة في الولايات المتحدة بسياسات ماكرون، واعتبروها تكتيكا انتخابيا لاستمالة اليمين المتطرف. كما احتدم الجدل حول استخدام العلمانية كغطاء لتبرير العنصرية ضد المسلمين.
في الأثناء، قامت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بحظر عمود أثار استياء الرئيس الفرنسي، ونشرت في المقابل رسالة يبرّر فيها مواقفه، مدعيا أن هناك بعض المناطق في فرنسا “ترتدي فيها فتيات صغيرات في سن الثالثة أو الرابعة الحجاب الكامل” .
فتحت وسائل الإعلام الأمريكية المجال أمام تعدد جهات النظر ولم تنجرّ وراء آراء الرئيس الفرنسي ولم تعتبره بطلا عالميا يدافع عن حرية التعبير. ويُظهر الازدراء البريطاني لطريقة تناول وسائل الإعلام الأمريكية للقضية، تحيّزا مفضوحا لممارسات الأجهزة الأمنية.
صحفي يشاهد مقابلة تلفزيونية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس يوم 4 كانون الأول/ ديسمبر.
أظهرت أبحاث أجرتها مؤسسة “ديكلاسيفايد يو كي” الاستقصائية، أن وسائل الإعلام المطبوعة في بريطانيا تنشر “معلومات انتقائية تدعم أولويات صانعي السياسات” في المملكة المتحدة. يبدو أن هذا التوجه يمتد الآن إلى القنوات التلفزيونية. بالكاد، تُذكر تجاوزات السلطات الفرنسية، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية وترويع تلاميذ المدارس.
من جانبه، اتهم وزير التعليم الفرنسي الجامعات بالخضوع للإيديولوجية “اليسارية الإسلاموية”؛ ولم تبذل وسائل الإعلام البريطانية أي جهود للتحقق من دقة هذا المصطلح أو أسباب استخدامه في فرنسا. تنتشر فكرة “الفاشية الإسلامية”، وهي فكرة مفضلة لدى دعاة الحروب من المحافظين الجدد، بسرعة كبيرة بين الإعلاميين المعادين للمسلمين.
والغرض من ذلك هو الخلط بين بعض الأعمال الفردية التي ارتكبها متطرفون بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وغزو العراق، والربيع العربي، وظهور تنظيم الدولة، وأسوأ تجاوزات الفاشية الأوروبية، بما في ذلك القوانين القمعيّة التي تم سنّ أغلبها منذ فترة قصيرة.
“عدو الجمهورية”
عندما أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان أنه سيحلّ منظمة “التجمع ضد الإسلاموفوبيا” بوصفها “عدوا للجمهورية“، رغم إدانة المنظمة بوضوح لعملية قتل باتي، أشارت “بي بي سي” في تقرير لها إلى أن مثل هذه المنظمات تتخفّى خلف “واجهة إنسانية”، لكنها “تقوم وراء الكواليس بإنشاء مجتمعات مصغّرة داخل المجتمع الفرنسي”.
يضيف التقرير: “ليس هناك شك بأن اليسار والمنظمات الإسلامية ستصدر الاتهامات قريبا، وتعتبر أن هناك مبالغة، وأنه لا يمكن إغلاق الجمعيات ذات التوجه الإنساني حتى إن كنت تختف معها”. من الواضح أن التقرير يزدري آراء أولئك الذين قد يفكرون في التنديد بهذا الانتهاك الصارخ للحقوق المدنية للمسلمين الفرنسيين.
تُمنح بعض الشخصيات الإسلامية المشكوك في مؤهلاتها، والتي لا تعكس آراء معظم المسلمين، المجال للحديث في وسائل الإعلام باعتبار أنها شخصيات معتدلة ، لكنها تمثل “التطرف” من منظور إعلامي.
قد يشمل “التطرف” أن يطلب الأطفال المسلمون طعاما حلالا في المدرسة، وهو ما يعتبره البعض علامة على الانتشار الناعم للإسلاموية. في الواقع، كان الخلاف حول وجبات الغداء المدرسية تكتيكًا استخدمه السياسيون اليمينيون، محاولين إقناع الأطفال المسلمين أن عليهم تناول لحم الخنزير لكي يثبتوا أنهم فرنسيون حقًا.
على الرغم من هذا الخطاب الإعلامي الموحّد الذي يتبنى وجهة نظر السلطات الفرنسية، إلا أن بعض الإعلاميين البريطانيين ما زالوا يطالبون بالمزيد. حيث اعتبر مراسل صحيفة التلغراف تشارلز مور أن قلة اهتمام بريطانيا بمقتل باتي “أمر صادم”، وهي وجهة النظر ذاتها التي رددتها “ديلي ميرور” و”آي نيوز“.
قبل أسبوعين، شنّت “آي نيوز” هجومًا حادّا على المسلمين لأن بعضهم تجرأوا على الاعتراض على وضع نصوص مقدسة في أغنية استخدمتها المغنية الأمريكية ريهانا في عرض للملابس الداخلية.
كما نددت الكاتبة ميلاني فيليبس بجُبن وسائل الإعلام في مواجهة الإسلاميين، وأشادت بالكاتب الفرنسي إريك زمور في عمودها بصحيفة التايمز. وكان زمور قد صرّح في وقت سابق أنه يجب على المسلمين الاختيار بين فرنسا والإسلام، وأثنى على نظرية “الاستبدال العظيم” التي تمثل المحرك الأساسي وراء بعض أفظع هجمات البيض المتطرفين في العالم.
تحريف وانحياز
تحاول وسائل الإعلام البريطانية عبر تقاريرها حول ما يحدث في فرنسا، إلى ترويج قصص لا يمكن تصديقها. خذ على سبيل المثال، ما تنقله صحيفة “ديلي ميل” على لسان دارمانان، عندما اتهم والد تلميذة بإصدار “فتوى” ضد باتي. لم يوضح المقال أن الشخص العادي في الإسلام لا يمكنه إصدار فتوى دينية.
يعتبر ذلك أحدث الأمثلة عن التلاعب بكلام بعض المسلمين لترويج أفكار المستشرقين حول “بربرية” الإسلام، وحول الاضطهاد الذي يُمارس على المرأة بإجبارها على ارتداء الحجاب، وعن تحول المدارس الإسلامية لمراكز لتلقين الفكر المتطرف.
مع تسارع خطوات الحكومة الفرنسية لفرض نموذج “الإسلام التنويري الفرنسي” – من خلال منح قادة الجالية الإسلامية في فرنسا 15 يومًا ليقرّوا بأن الإسلام “دين غير سياسي” – كانت الفرصة متاحة أمام وسائل الإعلام اليسارية للتنديد بتناقضات الحكومة الفرنسية.
لكن ذلك لم يحدث، فمع بداية الحملة الهستيرية ضد الأقلية المسلمة في فرنسا عقب مقتل صامويل باتي، كانت مجلة “سبايكد” الإلكترونية البريطانية، غير المقربة من الجالية المسلمة، الوحيدة التي نددت بما تقوم به السلطات الفرنسية، ومحاولة “استغلال حرية التعبير لفرض رقابة على كل الأصوات المعارضة“.
في الواقع، يُظهر انفراد مجلة إلكترونية بهذا الرأي الناقد لممارسات الحكومة الفرنسية، كيف انحازت وسائل الإعلام البريطانية الرئيسية بحماس لحملة القمع الفرنسية ضد المواطنين المسلمين.
المصدر: ميدل إيست آي