في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول، الموافق يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، انتشر خبر صحفيّ يقول إن أجهزة الأمن المصريّة قبضت على رجل الأعمال المعروف، أحمد صفوان ثابت، رئيس مجلس إدارة شركة “جهينة” للألبان والعصائر.
بعد القبض عليه، شاع استنتاج مفاده أن هذا القرار قضائيٌ متوقع، في ضوء ما هو معروف عن صلة القرابة الكائنة بين “صفوان ثابت”، كما عرف اسمه في أوساط الإعلام والأعمال، وبين قيادات إخوانيّة سابقة، مثل مأمون الهضيبي وحسن الهضيبي، وأنه سبق وصدر في حقه، ثابت، قرار بالتحفظ على أمواله منذ حوالي 4 أعوام.
ولكن ما حدث فعليا، أنه بعد القبض عليه بساعات، بدا الأمر أنّ وسط رجل الأعمال في مصر، بات بصدد “حملة اعتقالات” موسّعة، تستهدف أسماء عريقة في هذا المضمار، تفانى بعضهم خلال الفترة الأخيرة في إثبات ولائه للنظام السياسي الحالي، مثل سيّد رجب السويركي، مالك سلاسل “التوحيد والنور” لتجهيزات وسائل الإعاشة في المنازل، ورجب زهران، وخالد الأزهري، وصولًا إلى القبض على مالك سلسلة “أولاد رجب” العاملة في مجال منتجات التجزئة، قبل ساعات من تسطير هذه المادّة.
لذلك، فإننا نحاول، هنا، استجلاء حيثيّات هذه الحملة، أسباب هذه الاعتقالات، لصالح من، وما سرّ التوقيت، وكيف ستؤثر على الاقتصاد وغيرها من التساؤلات التي يطرحها القرّاء والمتابعون منذ أكثر من أسبوع إلى الآن.
الريتز كارلتون مصر
على غير المتوقّع من ظاهر الأمر، فالاتهامات الموجّهة للمقبوض عليهم لا تتعلق بوقائع فساد مالي في الأساس، وإنما حبسَ رجال الأعمال المذكورة أسماؤهم 15 يوما على ذمة التحقيقات في القضية 865 حصر أمن الدولة العليا، لسنة 2020، ضمن لائحة اتهام تتضمن: الانضمام إلى جماعة إرهابية، والدّعوة إلى التظاهر دون تصريح، والتحريض على العنف، وتمويل جماعة إرهابية؛ وهو ما ترتب عليه بشكل أو بآخر، مصادرة أموالهم، لحين البتّ، قضائيًا، في هذه الاتهامات.
مصادرة الأموال، والحبس، على خلفيّة الإدراج على قوائم الإرهاب هي ثمرة عمل ما تعرف بـ”لجنة التحفظ على أموال العناصر الإرهابية”، الّتي تشكّلت رسميًا عام 2015، على خلفيّة الحكم القضائي الصادر عن محكمة الأمور المستعجلة، في النصف الثاني من عام 2013، بحظر أنشطة جماعة الإخوان المسلمين، واعتبارها جماعة إرهابيّة، والتحفظ على أموال قياداتها وعناصرها.
منذ تشكيل هذه اللجنة القضائية “المستقلّة”، كما تشدد السلطات المصرية دائما في حديثها عنها، قوبلت بمعارضة واضحة من بعض الهيئات القضائية الأخرى، الّتي كانت تنظر إلى قرارات اللّجنة باعتبارها قرارات سياسيّة، وإداريّة، يجوز الطّعن عليها، مما أدّى إلى نشوب ما يشبه المعركة الصّامتة بين هذه اللّجنة والنّيابة العامة ومحكمة الأمور المستعجلة من جهة، والمحكمة الإدارية العليا ومحكمة النقض من جهة أخرى.
من يقوم بمحاسبة رجال الأعمال، هو نفسه متّهم بتبديد الأموال العامّة، سواءً في مصر أو في السّعوديّة
في عام 2015، أصدرت اللجنة قرارًا بالتّحفّظ على أموال وممتلكات 1345 شخصيّة مقرّبة من جماعة الإخوان المسلمين، وأكثر من 100 مدرسة، ونحو 60 شركة، و500 مقرًا، تصل قيمتهم السّوقيّة نحو 50 مليار جنيه وفق أقلّ التقديرات، كان من بين هذه الشخصيّات أحمد صفوان ثابت، رئيس مجلس إدارة شركة “جهينة”، ومحمد أبوتريكة لاعب كرة القدم السابق في النادي الأهلي، وفي يناير/ كانون الثاني 2017، أيَّدت جنايات القاهرة هذه القرار، ولكنّ المفاجأة كانت إلغاء محكمة النقض هذه الأحكام لاحقا.
بحلول عام 2018، تفتَّق ذهن النظام المصري، الّذي ألمح رأسه، عبد الفتاح السيسي، في أكثر من مناسبة إلى عدم رضائه عن المسارات التقليديّة لمحاكمة خصومه السياسيين في القضاء المصري، إلى ضرورة تحصين أعمال هذه اللّجنة، لتكون أعمالها بالتنسيق مع النيابة العامة، ويقصر على محكمة الأمور المستعجلة، المعروف ولاؤها للنظام، وحدها، النظر في قرارات التحفظ على الأموال الصادرة عن اللجنة، بقانون رئاسي رقم 22 لسنة 2018، على أن تذهب الأموال المصادرة إلى الخزينة العامة للدولة.
يُذكرنا هذا المسارُ بما قام به صديق الرئيس المصريّ في السعوديّة الأمير محمد بن سلمان، عام 2017، ضدّ خصومه على السلطة، حيث يلتقي السّياسيّ بالاقتصاديّ في آن. قبض بن سلمان على نحو 400 من كبار رجال الأعمال بالمملكة، وبدلا من لجنة التحفظ على أموال الإرهاب أسماها اللجنة العليا لمكافحة الفساد، وبدلا من السّجن المباشر كان السّجن فندقا يليق بالأسماء المحبوسة، هو فندق “الريتز كارلتون” بالرياض، وقد تحرّى القائدان كلاهما التشبث بثوب زائف من القانون، يقول إن التّحفظ على رجال الأعمال “مؤقت، لحين ثبوت الأدلة أو انتفائها”، وبينما جمع بن سلمان ما يقارب 400 مليار ريال بحلول عام 2019، تذهب بعض التقارير إلى أنّ ما جمعه السيسي قد يصل إلى 250 مليار جنيه مصري.
من المفترض أنّه لا يوجد مشكلة جوهرية في محاسبة رجال الأعمال الّذين راكموا ثرواتٍ ضخمة على مدار عقود دون استيفاء حقوق المجتمع والدولة، ولكنّ ما يحدث يبدو أنّ أهدافه مختلفة؛ فمن يقوم بمحاسبة رجال الأعمال، هو نفسه متّهم بتبديد الأموال العامّة، سواءً في مصر أو في السّعوديّة، ولكنّ القانون هنا له وجها واحدا فقط، كما أنّ من ينفّذ القانون، يختار طائفة معيّنة من رجال الأعمال، هم، في الحقيقة، السّند الاقتصادي لخصومه السّياسيين على السّلطة. فبينما ركَّز بن سلمان على فرع/ جناح أبناء الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز، حيث يلتقي السّياسيّ بالاقتصاديّ، فإن السّيسي يصادر أموال رجال الأعمال الّذين كانوا على صلة بالإخوان المسلمين.
وتنشد كلتا السّلطتين من خلال هذه الحملات الأهداف نفسها تقريبًا، وهي سدّ عجز الميزانية، وتمويل المشروعات العملاقة، بعد تراجع أسعار النفط في السعوديّة، وزيادة المصروفات في مصر، بالإضافة إلى إعادة تأسيس علاقة رجال الأعمال بالسّلطة في مستهلّ عصر سياسيّ جديد؛ فرجل الأعمال الصالح، وفق هذه الممارسات، لا من يقوم بأداء دوره الوطنيّ والاجتماعيّ، عبر سداد الضرائب والتأمينات والأجور، إلى جانب تنمية أرباحه، بغض النظر عن ميوله السياسيّة والفكريّة، وإنما هو من ينجح في خطب ودّ السّلطة، سياسيًا وإعلاميًا، أو على الأقلّ تجنّب إغضابها. هذا، جنبا إلى جنب مع أهداف أخرى مثل إشعار المجتمع بأنه لا حصانة لأحد إلا شخص الحاكم، فالكلّ، مهما بلغ نفوذه تحت التهديد، وإعادة رسم خرائط المستثمرين المهيمنين على القطاعات الكبرى ليظلّوا تحت المجهر دائما، وتشديد الرّقابة على المنافذ الاقتصادية للخصوم السياسيين.
التوقيت
تأتي الحملة الجديدة على منابع من ينظر إليهم النظام المصري على أنهم خصوم سياسيّون ومنافسون محتملون يضمرون له التهديد، في ظلّ مناخ خارجيّ داعم لتحويل المعركة التقليديّة ضد ما يعرف بالإسلام الأصوليّ أو الإسلام المتطرّف، الّذي يتبنّى رؤى مضادّة لقيم الحريّات الشخصيّة، ويتطلّع إلى تطبيق الشّريعة، ولو بالقوّة، إلى معركة، أيضاً، مع الإسلام السّياسيّ، والبنى الاجتماعيّة الحاضنة للإسلام.
توقيت الحملة الأمنية الأخيرة ضد رجال الأعمال مرتبط بنتائج التحقيقات مع نائب المرشد العام لجماعة الإخوان، محمود عزت
أبرز هذه الأمثلة، ما يحدث في فرنسا منذ عهد الرئيس فرنسوا أولاند، والّذي تبلور، بوضوح، في نهاية الفترة الأولى من ولاية الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، عبر تشديد الرقابة على الأئمة القادمين من خارج البلاد، وعقاب المؤسسات والهيئات الّتي تسمح بأنشطة اجتماعيّة انفصاليّة في الحياة اليومية، كالصلاة، والفصل بين الجنسين، والسّباحة المنفردة، واستحداث، أو توسيع صلاحيات، مؤسسات تابعة للدولة لإدارة شؤون المسلمين، مثل المجلس الوطني للأئمة، والجمعيّة الإسلامية للإسلام في فرنسا، والمجلس الفرنسيّ للعقيدة، وهو ما يتوقع أن يشمل، بدوره، البنى الاقتصاديّة الدّاعمة للإسلام السياسي هناك، في ظلّ عدم استحياء الدّولة من اتّخاذ قرارات “جذريّة” تدخل في نطاق “الشخصي” مثل منع التّعليم المنزلي، والتّعامل مع التمظهرات السياسيّة للإسلام على أنها “العدوّ القاتل للجمهوريّة”، على حدّ وصف جيرالد درامانان وزير الداخلية.
وقد تلقّت “التّجربة المصريّة” في التّسويّة بين كافة التمظهرات السياسيّة، والاجتماعيّة، للإسلام، والتّعامل معها جميعًا كـ”خطر” ينبغي ضربه مبكرا دفعة معنويّة من الخارج مؤخرًا، بعد مقتل صامويل باتي، المدرس الفرنسي صاحب الرسوم المسيئة للرسول 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عبر عدّة زيارات، واتصالات، أوروبيّة، تثني على محاور السّياسة المصريّة، الّتي بلورها نظام يوليو/ تموز 2013 بظلالها المحلّية، مثل الحفاظ على الاستقرار المظهريّ في المجتمع، وتقليص خطر “داعش”، وملامحها الإقليميّة الدّاعمة لما أسمونه “استقرار المنطقة” على غرار دعم اتفاقيات التطبيع العربي مع “إسرائيل”، ومواجهة النفوذ التركي، بما يمثله من ثقل داعم للإسلام السياسي، في شرق المتوسط وليبيا ولبنان والعراق
أبرز هذه الأنشطة الدّاعمة للنظام المصري وأطروحاته مؤخرًا كانت زيارة وزيرة الخارجية الأسبانية أرانشا جونزاليث، وشارل ميشال رئيس المجلس الأوروبي، وجان إيف لورديان وزير الخارجية الفرنسي، وريتشارد مور مدير المخابرات البريطانية، واتصالات ميركل وماكرون بالسيسي، للثناء على نتائج إدارته للداخل المصري، مع تحوّل في الخطاب يقول إنّ الدعم الأوروبي للنظام لم يعد مرهونا بتحسن أوضاع حقوق الإنسان، حتى لا تتأثر قدرات الدولة في محاربة الإسلاميين، بعد إغراءات السيسي لهذه الدول بصفقات السّلاح الملياريّة، وهو ما يعطي، في النهاية، إجراءاته الجديدة ضد خصومه السياسيين زخمًا مضاعفا، ينزع عنها الاهتمام الإعلامي المنشود باعتبارها تحركات غير قانونيّة، ويمهد، أيضا، من زاوية أخرى، إلى “تدشين مرحلة جديدة تستهدف الوجود الإسلامي في الغرب وفق سياسات مقتبسة من النهج المصري”، كما يقول الباحث أحمد مولانا.
وبنظرةٍ أكثر دقّة، وبتمحيص لما يصدر عن الصّحف المصريّة، الّتي تمثّل صدى لسرديّة النّظام عن الأحداث، فإن توقيت الحملة الأمنية الأخيرة ضد رجال الأعمال مرتبط بنتائج التحقيقات مع نائب المرشد العام لجماعة الإخوان، محمود عزت، الّذي قبض عليه مختبئا في “التجمّع الخامس”، شرق القاهرة، منذ حوالي 4 أشهر، حيث تشير التقارير إلى اعتراف عزّت بأنّ عددًا من رجال الأعمال المقبوض عليهم كانوا يمررون مبالغ مالية كبيرة ساعدت في هروبه إلى وسطاء، أكدوا، بعد التحقيق معهم، تلقيهم هذه الأموال، لضمان أمانه كل هذه الفترة السابقة.
الدولة منافسا
من ضمن الرّوايات الّتي تحاول تفسير، والتنبؤ، بسلوك النظام المصري تجاه ملف الاقتصاد عمومًا، روايةٌ تقول إنّ النظام المصريّ، عبر ذراعه العسكريّ، يسعى إلى الهيمنة على بعض القطاعات الاقتصادية، وإخضاعها لنفوذه. بطبيعة الحال، ينفي النظام ذلك، وتتراوح المؤشرات على صدق هذه الرواية، بين المبالغة أحيانا، والصحة أحيانا أخرى.
الحملة لن تتوقف عن الأسماء المقبوض عليها، ومن المنتظر أن تتوسع لتشمل نحو 11 شخصية خلال الأيّام القليلة الماضية
وفي ملف القبض على رجال الأعمال مؤخرًا، وجدنا أنّ هناك علاقة محتملة بين هذه الرّواية وسلوك النّظام المصري، وبالأخصّ عند الإشارة إلى خبر القبض على أحمد صفوان ثابت، رئيس مجلس إدارة شركة “جهينة”، فقبل 24 ساعة فقط بالضبط من قرار القبض على مالك الشركة التي يعود تاريخ إنشائها إلى أكثر من 35 عاما وتمتلك 70٪ من سوق الألبان في مصر ويقدر رأس مالها السوقي بنحو نصف مليار دولار أمريكي، نشر المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية خبرًا عن اجتماع السيسي بقيادات حكومية، وعسكرية، لبحث سلسلة مشروعات رسمية كفائية في قطاعي الألبان واللحوم.
ليس التزامن شرطا لوجود علاقة بين الحدثين، ولكن بالرّجوع إلى عام مضى، سنجد، أيضا، أنّ وزير قطاع الأعمال العام المصري أبدى استياءه من بُنية قطاع الألبان المصريّ، المقسَّم بين ملايين ملّاك الأبقار الصغار وبين المصنَّعين الكبار، منوهًا عن نيّة الدولة، السّيطرة على هذه السّلاسل، ومركزتها، عبر مشروع عملاق، بالشراكة مع الصّندوق السياديّ المصريّة “ثراء”، الّذي يتعاون مع جهاتٍ خليجيّة، سعوديّة وإماراتيّة، في المشروع المنتظر إنشاؤه في توشكى.
اللّافت هنا، أن بعد الإطاحة بصفوان ثابت من منصب رئيس مجلس الإدارة، كان من المقرر أن ينتقل المنصب إلى نجله سيف، الّذي كان يشغل منصب نائب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب للشركة، على خلفيّة بنوّته من المؤسس، وعمله في معظم القطاعات الأساسيّة بالشركة: الموارد البشرية، والعمليات التشغيليّة، ومصنع العصائر؛ ولكن رئاسة مجلس الإدارة ذهبت إلى المستثمر السعودي محمد الدغيم، الّذي تقلّد مناصب نافذة في وزارات سعوديّة، وكان جزءا من تشكيل عضوية مجلس إدارة الشركة.
ووفقًا للسّرديّة النّظاميّة الّتي بثّها النظام عبر الصحافة، والّتي تشير إلى علاقة بين القبض على مجموعة رجال الأعمال الإسلاميين، ونتائج التحقيقات مع محمود عزت، فإن الحملة لن تتوقف عن الأسماء المقبوض عليها، ومن المنتظر أن تتوسع لتشمل نحو 11 شخصية خلال الأيّام القليلة الماضية، وهو ما يرجح صحته بعد القبض على مالك سلسلة “أولاد رجب” منذ ساعات قليلة.