قبل شهر افتتحت الإمارات قنصلية عامة لها في مدينة العيون بالصحراء، كأول ممثلية دبلوماسية لدولة عربية بالمنطقة، تندرج في سياق دينامية الاعتراف بمغربية الصحراء، تلاه مباشرة اعتراف أمريكي ودعم لخيار الحكم الذاتي، الذي تتشبث به الرباط كحل وحيد للنزاع الدائر بينها وبين جبهة البوليساريو التي تسعى إلى إقامة “جمهورية صحراوية” تتخذ من العيون عاصمة لها.
نهاية أزمة دبلوماسية
لكن ليس لدى الإمارات رعايا تسعى إلى خدمتهم في المنطقة، حتى تفتتح قنصلية هناك. صحيح أن مبادرة من هذا النوع أنهت الأزمة الدبلوماسية دامت أكثر من عامين بين هذه الدولة الخليجية والمملكة المغربية، إلا أن هذا القرار ينطوي على عدة دلالات، لعل ما خفي منها رغبة الإمارات ضم عضو إستراتيجي جديد إلى نادي المطبعين مع الدولة العبرية.
ملف الصحراء هي قضية المغرب الأولى، وعلى أساس ذلك تحدد اتجاهات سياستها الخارجية، وتميز بين دول الأصدقاء التي تعترف بمغربية الصحراء وتدعم أطروحة الحكم الذاتي، والدول الخصوم التي تعترف بقيام “الجمهورية العربية الصحراوية” وتدعم الأطروحة الانفصالية لجبهة البوليساريو.
كان لدى الأمارات موقف واضح من قضية الصحراء، وبافتتاح تمثلية دبلوماسية بالمنطلقة تجدد موقفها كما ورد في محضر الدورة الخامسة للجنة المشتركة بين البلدين، أبو ظبي 21-22 مايو 2018: “تؤكد الإمارات مساندتنا الدائمة للمغرب في قضيتها حول دعم مبادرتها للحكم الذاتي في الصحراء، كما نقف مع كل الإجراءات التي تتخذها المغرب لمواجهة أي تحد لوحدة ترابها، وأن أي حل لهذا النزاع الإقليمي المفتعل لا يمكن أن يكون إلا في إطار سيادة المملكة المغربية ووحدتها الترابية”.
إثر افتتاح الإمارات قنصلية لها بالعيون، تحدث عميد الدبلوماسية المغربية ناصر بوريطة عن دلالات سياسية وقانونية، لما تؤكده وأن هذه الخطوة الدبلوماسية على حق المغرب في سيادته في الصحراء بدعم من الإمارات، ومن شأنها أيضًا أن تفتح لرجال الأعمال الاستثمار في المجالات الاقتصادية، إذ تأتي الاستثمارات والتمويلات المباشرة الإماراتية بالمغرب في المرتبة الأولى عربيًا، كما أصبحت تتصدر الاستثمار الأجنبي في سوق الأسهم المغربية بقيمة سوقية تناهز 88.9 مليار درهم وهو ما يعادل 9.36 مليار دولار أمريكي.
ورطة حقيقية
حينما اندلعت موجات متلاحقة من غضب شعبي في المغرب إثر إعلان الإمارات تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل” بمباركة أمريكية، ساد صمت رسمي من طرف الرباط، كسرته تصريحات لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني أعلن خلالها رفض بلاده لجميع أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، لكنه كان متحدثًا في نشاط حزبي ما جعل صفته الحزبية كأمين عام لحزب العدالة والتنمية تطغى على صفته الحكومية الرسمية، بالتالي فالعثماني لم يعبر آنذاك سوى عن موقف شخصي وحزبي، علمًا أن السياسة الخارجية للمغرب لا تدخل ضمن صلاحيات رئيس الحكومة، بل هي حصرًا من صميم اختصاص الملك بموجب الدستور الذي استفتاه المغاربة عام 2011.
اعتبر مراقبون أن الخارجية المغربية لم تخرج ببيان رسمي توضح موقفها من عملية السلام الإماراتية الإسرائيلية، مرده إلى أن المملكة تعتبر السياسة الخارجية للبلدان قرارًا سياديًا. لكن بدا واضحا أن الرباط كانت تتعرض لضغط، خلف الكواليس، من طرف واشنطن، فقبل اتخاذ القرار وجبت الموازنة بين القضايا الداخلية والخارجية، وهو نفس توجه الملك الراحل الحسن الثاني.
الحسن الثاني وياسر عرفات
ومع الوعود الأمريكية لتسوية نزاع الصحراء وجدت المملكة المغربية نفسها في ورطة حقيقية، بحكم أن العاهل المغربي يرأس لجنة القدس، وكان سباقًا إلى الدفاع عن القضية الفلسطينية، ودعم حق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته المستقلة. فكان من المستبعد آنذاك أن تلحق المغرب مباشرة بقطار التطبيع، خاصة بعد الردود الشعبية الداعمة للقضية الفلسطينية، لم تكن الدولة المغربية لتغامر بقلب الشارع ضدها.
إعادة رسم الشرق الأوسط
توطد الإمارات علاقتها مع “إسرائيل” وأمريكا والسعودية، من أجل إعادة رسم هذه المنطقة من العالم، وتأمل الإمارات أن ينظم المغرب إلى هذا المعسكر، كإضافة نوعية في مواجهة توسعات إيران ومطامح تركيا، وللإطاحة بجميع المنظمات الإرهابية التي تحمل السلاح، لما أبدته الرباط من تعاون وثيق بين شركائها الأوربيين، خاصة بلجيكا وفرنسا وإسبانيا، من خلال إحباط التهديدات الإرهابية المحتملة في أوروبا، كما تترأس المملكة حاليًا إلى جانب كندا “المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب”، فضلًا عن كونها فاعلًا نشطًا في التحالف العالمي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
المغرب يرتئي أن هذا المعسكر الأنسب لكي ينتمي له، حيث تقف فيها الولايات المتحدة الأمريكية، أي حليفها التقليدي الذي تقاسمه رؤى حول قضايا كبرى وملفات مرتبطة بالأمن الإقليمي والدولي.
الصفحة الأخيرة من معاهدة الصداقة الموقعة سنة 1786، والمختومة من قبل السلطان محمد الثالث وتوماس جيفرسون وجون آدامز
لقد كانت المغرب أول دولة تعترف باستقلال الولايات المتحدة سنة 1777، حين أقدم السلطان محمد الثالث على إصدار منشور من مدينة مكناس يتعلق بالسماح لعدة دول بممارسة نشاطاتها التجارية مع المغرب، وكانت من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، واعتبرت هذه المبادرة اعترافًا بسيادة أمريكا واستقلالها.
اللوبي اليهودي راعيًا للمغرب
دائمًا ما ترعى أمريكا مصالح “إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط، كيف لا وقد كانت ممثل المعسكر الغربي والحامية للمصالح الأمريكية في المنطقة بعد صعود الاتحاد السوفيتي، أما حاليًا فيشكل اللوبي الإسرائيلي أكثر وأقوى مجموعات الضغط في الولايات المتحدة الأمريكية.
المستشار الملكي آندري آزولاي
المملكة المغربية حاضرة داخل اللوبيات اليهودية الأمريكية، ويرجع الفضل في ذلك إلى التقدير الذي تحظى به المغرب من طرف معتنقي الديانة اليهودية، ذلك أن بلاد المغرب كانت ملاذًا آمنا لليهود على مدى قرون، علاوة على العلاقة التي تجمع بين يهود مغاربة بيهود أمريكان من صناع القرار السياسي، هنا يظهر دور أسماء بارزة من الطائفة اليهودية المغربية، يتقدمهم المستشار الملكي أندري أزولاي، والأمين لمجلس الطوائف اليهودية بالمغرب سيرج بيرديغو.
في حقيقة الأمر، لم يكن قرار المغرب استئناف علاقته الدبلوماسية مع “إسرائيل” حقيقة مستبعدة، من واقع العلاقات الثقافية التجارية التي تجمع بين البلدين، والتعاون الاستخباراتي والعسكري بينهما منذ ما يقرب من ستة عقود، فضلًا عن تكهنات الإعلام الإسرائيلي بأن المغرب كانت ستحذو حذو الإمارات في التطبيع.
اجتماع سري ضم رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نيتنياهو ووزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر 2018، بعد توقف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل كامل منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، رغبت “إسرائيل” في تطبيع العلاقات مع المغرب، وناقش الطرفان أيضا خلال هذا اللقاء الجهود المبذولة لمواجهة المطامح الإيرانية في المنطقة، كما أكد نيتنياهو رغبته في زيارة المغرب على نحو علني.
وعلى أية حال، فقد تبعت البحرين الخطوة الإماراتية بافتتاح قنصلية عامة لها في مدينة العيون بإقليم الصحراء تشجيعًا للمغرب، لتكون ثاني دولة عربية تفتتح هناك بعثة دبلوماسية كما كانت ثاني دولة تهرول نحو التطبيع مع دولة الاحتلال بعد جارتها التي تتشارك معها بأن لا رعاية لها بالإقليم الصحراوي، في خطوات تبدو كمن يزيل عن نفسه العار بتكثير سواد المطبيعين، وهي خطوة تأكد بدورها دور الإمارات في ملف التطبيع المغربي.