ترجمة وتحرير: نون بوست
كرس أنور البني حياته للدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا، والآن في منفاه في ألمانيا، يشارك هذا الناشط في محاكمة تاريخية هي الأولى من نوعها ضد نظام بشار الأسد المتهم بارتكاب جرائم حرب.
كان أنور البني قد وصل لألمانيا قبل شهرين فقط عندما دخل لمحل ووجد نفسه وجها لوجه مع رجل يعتقد أنه كان يشرف على استجوابه وسجنه قبل حوالي 10 سنوات. كان كلاهما يبتاعان البقالة من محل تركي بالقرب من بلدة مارينفلدي، وهو مخيم للاجئين قرب برلين. ورغم أن البني شعر أنه يعرف هذا الرجل، فإنه لم يتمكن من تذكر اسمه وصفته.
قبل ذلك بعام، أي في سنة 2014، كانت أنجيلا ميركل قد قررت فتح الحدود الألمانية أمام أكثر من مليون لاجئ سوري فارين من ويلات الحرب في بلادهم. ولكن حتى قبل ذلك التاريخ كان الآلاف قد وجدوا طريقهم إلى برلين. أحد هؤلاء هو أنور البني، المحامي والناشط الحقوقي الذي يتمتع بخبرة تفوق الثلاث عقود في مقاومة النظام السوري أمام المحاكم، وقضى عدة سنوات في السجون، وبات جزء من شبكة كبيرة تضم زملائه وزبائنه وأصدقائه والمعارضين السابقين للنظام.
ويقول البني حول تلك المصادفة: “لقد كنت صحبة زوجتي، وقلت لها أنا أعرف هذا الرجل، ولكنني لا أستطيع أن أتذكر من هو. ثم بعد بضعة أيام قال لي أحد الأصدقاء هل تعلم أن أنور رسلان موجود هنا في مخيم مارينفلدي معك؟ وحينها تذكرته.”
هذان الرجلان اللذان التقيا صدفة في المحل، واللذان يحملان نفس الإسم، درس كلاهما القانون، ولكن كل منهما اختار طريقا خاصة به في التعامل مع النظام السياسي الاستبدادي السوري. فرسلان أصبح ضابط شرطة، قبل أن ينتقل إلى جهاز المخابرات، أين شارك في اعتقال أنور البني.
بعد ذلك فكر البني كثيرا في ذلك اللقاء، وعاد إلى الملفات القانونية التي يمتلكها، حيث أنه رغم مغادرته لبلده ظل يتابع عن بعد نفس النضال ضد الدولة السورية والمسؤولين الذين أساؤوا لها واستغلوا السلطة لعدة عقود، واليوم يقول: “أنا لا أكره أنور رسلان في حد ذاته، وأعلم أن المشكلة في النظام بشكل عام، ولذلك لم أشعر بأي شيء تجاهه.”
ولكن بعد أربع سنوات التقى الرجلان مجددا، ولكن هذه المرة تغيرت المواقع، إذ أن ألمانيا كانت تستعد لتنظيم محاكمة تاريخية. هذه المرة البني هو الذي يتعامل مع السلطات، حيث أنه يساعد المحققين الألمان، فيما يواجه رسلان اتهامات قد تقوده إلى السجن.
اليوم بعد حوالي عشر سنوات على بداية الحرب الأهلية السورية، أصبح أنور رسلان أول شخص في العالم يمثل أمام القضاء، على خلفية التعذيب وعمليات القتل الممنهجة التي تعرض لها المدنيون السوريون على يد الدولة أثناء تلك الحرب. أما البني الذي كان في يوم ما شوكة في حلق المسؤولين السوريين، فهو يساعد على إيجاد الشهود المستعدين للإدلاء بإفاداتهم.
أنور رسلان يصل إلى المحكمة للمثول أمام القضاء في ألمانيا.
وقد وجهت إلى رسلان، العقيد السابق في المخابرات السورية، تهم تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال بدايات الصراع، قبل أن ينشق عن النظام في 2012. في ذلك الوقت عمل رسلان مع المخابرات العسكرية، ويعتقد أنه كان يقود وحدة تحقيقات سيئة السمعة تسمى الفرع 251، كان لها سجن خاص بها. ويعتقد المحققون الألمان أنه في ذلك السجن كان رسلان يشرف على آلة رعب، حيث يتعرض السجناء لشتى صنوف التعذيب، مثل الصدمات الكهربائية والضرب والاعتداء الجنسي على فترات تصل إلى 16 شهرا. وتشير وثائق الاتهام الموجهة إليه أن أكثر من أربعة آلاف شخص تعرضوا للتعذيب خلال تلك الفترة، منهم 58 شخصا لفظوا أنفاسهم الأخيرة.
وقد انطلقت محاكمة رسلان في 23 نيسان /أبريل في مدينة كوبلنتس التاريخية، الموجودة على ضفاف نهر الراين بين فرانكفورت وكولن، أمام لجنة مكونة من ثلاثة قضاة. ومن المنتظر أن تدوم المحاكمة أكثر من عام كامل، وهي ستشمل أيضا إياد الغريب، المتهم بالمشاركة هو أيضا في هذه الجرائم عبر لعب دور محدود في الأعمال التي ارتكبها رسلان في دمشق. وتمثل هذه التطورات لحظة تاريخية بالنسبة لعدد كبير من السوريين الذين نجوا من غرف التعذيب أو فقدوا أحبة لهم على يد النظام. وإذا ثبت تورط رسلان فإنه قد يواجه حكما بالسجن مدى الحياة.
وتتواصل أطوار الحرب الأهلية في سوريا منذ حوالي 10 سنوات، حيث أن بشار الأسد في إطار سعيه للتمسك بالسلطة، دأب على خرق القانون الدولي واستخدام التعذيب والأسلحة الكيميائية واستهداف المستشفيات والبنى التحتية المدنية. ورغم كل الفظاعات التي اقترفها تنظيم الدولة وباقي الأطراف المشاركة في هذا النزاع، فإن القوات الحكومية لا تزال هي المسؤولة عن غالبية الضحايا المدنيين وعمليات الاختفاء القسري داخل سوريا.
وتعد فرص تحقيق العدالة ضئيلة سواء داخل البلاد أو في المحاكم الدولية. ففي وقت منيت فيه المعارضة بعدة هزائم على الأرض، من غير المرجح أن بشار الأسد وضباطه سوف يتم جلبهم للمثول أمام المحاكم المحلية. وبما أن سوريا ليست طرفا في المحكمة الجنائية الدولية، فإن حكومتها لا يمكن ملاحقتها من قبل هذه المحكمة. ويمكن لمجلس الأمن الدولي أن يأمر بإجراء تحقيق، إلا أن هذه المساعي تمت عرقلتها من قبل روسيا والصين. كما أن الدعوات لإنشاء محكمة خاصة، مثل تلك التي عقدت للنظر في جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، لم تفض إلى أي نتيجة.
أول محاكمة لعناصر من المخابرات السورية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تدور أطوارها في ألمانيا.
كل هذه العراقيل تجعل المحاكم الوطنية هي السبيل الوحيد للناجين من أجل المطالبة بمحاكمة عناصر النظام. وهنالك دول مثل ألمانيا يوجد فيها مبدأ قانوني يسمى “الولاية القضائية الدولية”، يسمح للمحاكم بملاحقة شخص على ارتكابه لجرائم في أي مكان في العالم، إذا كانت تتسم بالخطورة.
هذه المحاكمة ليست المحاولة الأولى لجلب حكام سوريا للوقوف أمام العدالة: إذ أن عددا من مذكرات الإيقاف أصدرتها حكومات غربية ضد مسؤولين كبار. إلا أن النخبة الحاكمة وكبار الضباط لا يزالون متحصنين داخل حدود بلادهم لا تطولهم يد العدالة، وهم لا يسافرون إلا إلى الدول الحليفة التي لن تقوم أبدا بتسليمهم. ولهذا فإن المحاكمة الجارية حاليا في ألمانيا، تمثل أول مرة يواجه فيها شخص اتهامات بالمسؤولية عن أرخبيل السجون الذي يديره النظام السوري، وسيجيب أرسلان عن مختلف الأسئلة تحت القسم، بشأن كيفية إدارة غرف التعذيب، ودورها في منع سقوط نظام بشار الأسد.
ويبدو أنور البني شخصا نحيلا ذو شارب كثيف، يفضل البدلات البسيطة والقمصان ذات الياقة المفتوحة. وقد أمضى الجزء الأكبر من حياته في صراع خطير وعقيم من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، في بلد بات معروفا بكثرة الانتهاكات. ولكن كل ذلك لم يضعف عزيمته أو يفقده حس الدعابة الذي يتمتع به. فهو دائما ما يظهر مبتسما، ويحمل سيجارة في يده، أو سيجارة إلكترونية بات يستخدمها في ألمانيا بسبب القانون الذي يمنع التدخين داخل الأماكن المغلقة.
هذا الرجل البالغ من العمر 61 عاما بدأ شعره يتساقط إلا أنه لا يزال يبدو محافظا على حيويته رغم أن الشيب بدأ يغزو شعره البني الداكن. وحول مظهره الذي يبدو دائما مفعما بالشباب يقول أنور البني: “أنا لم أفقد أبدا إيماني خلال المعركة من أجل سوريا أفضل، وأنا متأكد من أننا سوف نفوز.”
قابلنا أنور البني في وقت سابق من هذا العام، قبل بدء المحاكمة، وكان اللقاء في أحد أحياء برلين الذي تكثر فيه المقاهي والأنشطة الثقافية، داخل مقر شركة لإنتاج الأفلام. وقد بدا لي هذا العنوان غريبا لدرجة أنني كنت أشك في أنه خاطئ. ولكن في الواقع تبين أن أحد منتجي الأفلام في برلين عرض على البني سعرا منخفضا لكراء غرفة مزينة باللوحات والنباتات قرب مكاتب المنتجين.
قرر البني أن يصبح محامياً بعد أن شاهد إخوته يختفون في السجون بسبب دعمهم للسياسات الشيوعية
يبدو رسلان واعيا بأن تفاؤله وروح الدعابة لديه يمثلان تناقضا عجيبا، بالنظر إلى المأساة العميقة التي عايشها في سوريا، وهو يقول: “آمل أن لا تعتقدوا أنني دون كيشوت.” وقد وصل تعداد الضحايا في سوريا إلى أكثر من نصف مليون قتيل، مع وجود عشرات الآلاف من المفقودين. وقد شرد أكثر من نصف السكان، حيث أصبح 6.6 مليون سوري لاجئين في الخارج، مع وجود عدد مماثل من النازحين داخل البلاد.
إلا أن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا بدأت قبل وقت طويل من اندلاع الحرب. وإذا كان نضال أنور البني من أجل تحقيق الديمقراطية في سوريا قد فشل في تقويم سياسات النظام، فإنه أدى به إلى الاعتقال عدة مرات، والسجن لخمس سنوات في إحداها. وهو يعلم جيدا مرارة فقدان الأحبة الذين يغيبون داخل أقبية السجون. إذ أن شقيقته وثلاثة من أشقائه إلى جانب أخت زوجته وأخيها قضوا ما مجموعه 73 سنة كسجناء سياسيين في سوريا.
ورغم أن نشاط البني في سوريا قبل الحرب كان يحظى باهتمام كبير، فإن عائلته كانت تعاني ماديا لأنه كان يدافع عن المعتقلين مجانا. وقد لاحقت السلطات زوجته التي فقدت وظيفتها كمهندسة مساعدة في 2007، وتم منعها من السفر.
حيث يقول البني مع ابتسامة حزينة على وجهه: “لقد كانت ترى أن أصدقائي يمتلكون منازل فخمة وسيارات فاخرة رغم أنني كنت محاميا أكثر براعة منهم. لقد عانت كثيرا بسببي.”
وعندما سألناه حول ما إذا كانت زوجته قد طلبت منه تغيير مهنته، انفجر ضاحكا وقال إن هذا الأمر معقد جدا، حيث أن زوجته حاولت منع ابنيه من السير على خطاه، وطلبت منه في إحدى المرات أن يوقف إضراب جوع كان يخوضه في السجن، لأن أطفاله كانوا في غاية القلق عليه ولم يتمكنوا من الدراسة.
وعندما تمكن البني أخيرا من مغادرة وطنه في 2014، من المؤكد أن السلطات كانت تأمل أنه سيختفي كأن لم يكن، حيث أن كل المؤشرات كانت تدل على أنه لن يتمكن من مواصلة نشاطه الحقوقي في أوروبا، التي تعبت من الحرب السورية ووجهت أنظارها صوب محاربة تنظيم الدولة. ولكن على العكس تماما حيث أن تأثير أنور البني تزايد.
وقد تبدو قصة حياة هذا الرجل من الروايات الخيالية وليست حقيقة، حيث أنها مليئة بالأحداث والمفارقات الغريبة، حتى قبل الصدفة التي وضعته وجها لوجه مع أنور رسلان داخل المحل التركي. إذ أن والده الصائغ الذي كان ينتج تحفا أثرية مقلدة لفائدة تجار الآثار المتحيلين، فارق الحياة عندما كان البني في عمر 12 سنة، إلا أنه واصل حرفة والده لتأمين مصاريف العائلة حتى تمكن أشقاؤه من إنهاء الدراسة.
وقد ترك البني حرفة والده منذ وقت طويل، إلا أنه لا يزال يتمتع بنظرته الثاقبة وقدرته على تمييز الجمال. فقد أراني أحد الأصدقاء صورة تحفة صنعها البني داخل السجن. فقد نحت تمثال جسد دلفين متعرج، باستخدام عجين مسحوق القهوة والحليب المجفف ونوى التمر واللصق، ثم تركها لتجف، ثم قام بتنظيف التمثال وتلميعه بشكل دقيق جدا ليبدو كأنه تم نحته من حجر ثمين.
وقد قرر البني أن يصبح محاميا بعد أن شاهد إخوته يختفون في السجون بسبب دعمهم للسياسات الشيوعية. ولكن بسبب نقص المال لدى عائلته، عمل في مجال البناء في بداية الثمانينات قبل أن يبدأ دراسة القانون. وخلال تلك السنوات شارك في بناء سجن صيدنايا الواقع قرب دمشق، والذي يعد الأسوأ سمعة في سوريا. وهنالك صورة يظهر فيها البني في أيام شبابه وهو يرتدي نظارة شمسية وقميصا أبيض مواكبا للموضة التي كانت رائجت خلال تلك الفترة.
أنور البني على اليسار في عام 1982 في صيدنايا، أين ساهم في بناء السجن أثناء عمله في مجال البناء قبل أن يبدأ دراسة القانون.
ويتذكر البني أنه كان سعيدا عندما شاهد التصاميم في تلك الفترة، حيث أن المشروع كان في الأصل مصمما ليكون سجنا يحترم معايير حقوق الإنسان، وكان هو يتوقع أن أحد إخوته على الأغلب سوف يقضي فيه فترة من حياته. خلال تلك المرحلة لم يكن هنالك أي شيئ تحت الأرض، وكانت كل الغرف يدخلها الهواء والشمس، مع وجود فضاء لممارسة الرياضة ومساحة لكرة القدم وكرة السلة. ولكن مع حلول العام 2008 الذي شهد أعمال شغب للنزلاء، كان صيدنايا قد تحول إلى رمز للتعذيب والانتهاكات السجنية.
ولم يكن البني يتفق مع أفكار إخوته، حيث أنه لم يكن أبدا مؤمنا بالأحزاب أو الدين، بل كان فقط مساندا للروح الإنسانية والحقوق الفردية. حيث يقول: “لم أكن أعتقد أن الله سيساعدني، ربما لأنني كنت أعتمد على نفسي فقط منذ سن 12 عاما.” ومن الأنشطة التي قادت أنور البني إلى السجن في 2006، إقدامه رفقة بعض النشطاء على كتابة مسودة دستور جديد ديمقراطي لسوريا، كان سيستخدم ليس فقط كحجة ضد بشار الأسد، بل حتى ضد معارضيه. “الجميع يعد بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن في الغالب ليس لديهم برنامج عملي لتطبيق هذه الوعود. أردت أن أعرف من الجميع: ما هي برامجكم لجعل حياة الناس أفضل؟”
عندما بدأ البني تدريبه على المحاماة في وسط الثمانينات، كان حافظ الأسد هو من يحكم البلاد ويقوم بتحضير باسل ابنه الأكبر لخلافته. حينها كان بشار مجرد طالب طب يحمل القليل من الطموحات السياسية، إلا أن وفاة شقيقه باسل في حادث سيارة في 1994، قذفت بطبيب العيون الطويل النحيل الذي درس في بريطانيا، ليصبح ولي العهد بين ليلة وضحاها. وبعد ست سنوات توفي حافظ الأسد، ليترك ابنه البالغ من العمر 34 عاما فقط مسؤولا عن البلاد، بعد أن فاز باستفتاء لحكم البلاد بنسبة 97 بالمائة.
حينها كانت هنالك فترة قصيرة من الأمل بأن روح الشباب، والوقت الذي قضاه في الخارج، وزوجته السورية البريطانية الأنيقة أسماء الأسد، كلها عوامل سوف تجعل من بشار قائدا مصلحا، إلا أن كل تلك الآمال تبددت سريعا. كما أن الحرب الأهلية في السنوات الأخيرة أثبتت أن الابن يمكن أن يتفوق على والده، عندما يتعلق الأمر بسفك الدماء والتوحش.
ويقول البني حول الفترة التي كانت تسمى ربيع دمشق: “لقد كان هنالك الكثير من الكذب عندما أمسك بشار بالسلطة. لقد كان كله كلاما سطحيا حول عاداته الغربية، وادعاءات بأنه سيفتح الباب أمام الديمقراطية والمجتمع المدني. نحن لم نصدق ذلك ولكننا أردنا التجربة، ثم بدأت حملات الاعتقال.”
إلى جانب بعض المحامين الحالمين من الشباب، قرر البني في تلك الفترة الشروع في تحميل المسؤولية للحكومة: “لقد شكلنا لجنة للدفاع عن السجناء السياسيين”. ذلك النشاط أدى بشكل غير مباشر إلى تأسيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، وهو منظمة حقوقية طموحة تم إنشاؤها في دمشق في 2004.
هذا الاسم الذي تم اختياره للمركز، كان الهدف منه هو البقاء بعيدا عن رقابة المسؤولين، إلا أن هذا النشاط أدى بأنور البني إلى الدخول للسجن. إذ أنه في 2006 تم الحكم عليه بخمس سنوات بتهمة “نشر أخبار كاذبة، وإنشاء مجموعة سياسية غير مرخصة والتعامل مع دول أجنبية.”
اعتقد ضابط الاستخبارات السابق أنور رسلان أن غياب الاهتمام بالحرب السورية، أو قراره بأن ينشق عن النظام في 2012، سيحميه
عندما تم الإفراج عن البني في 2011، كانت سوريا تبدو على وشك أن تشهد تغييرات جديدة. إذ أنه غداة اندلاع الربيع العربي، بدت الأمور كما لو أن بشار الأسد يمكن أن يلتحق ببقية المستبدين الذين تم إسقاطهم، ليكون مصيره المنفى مثل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، أو السجن مثل الرئيس المصري حسني مبارك، أو حتى القتل مثل معمر القذافي. إلا أن الثورة السورية دخلت في دوامة وتحولت إلى حرب مكتملة الأركان، بعد تعدد المجموعات المسلحة وظهور التنظيمات المتطرفة، ونشوب صراعات على النفوذ بينها.
حينها أصبحت سوريا مكانا أكثر خطورة، حيث أن نشطاء حقوق الإنسان كانوا يتعرضون للقتل أو الاختفاء القسري، ومن بينهم أصدقاء مقربون من أنور البني، مثل خليل معتوق، ورزان زيتونة التي كانت قد أسست معه مركز الدفاع عن حقوق الإنسان. وقد اختفى معتوق في منطقة يسيطر عليها النظام في 2012، أما رزان فيعتقد أنها تم اختطافها على يد جماعة جيش الإسلام بعد سنة واحدة في ضواحي دمشق.
ورغم تزايد التهديدات فإن البني أراد البقاء، بما أن أصدقاؤه ضحوا بأرواحهم، وهو كان يخشى من أن الذهاب للمنفى كان يعني إسدال الستار على مسيرته النضالية. ولكن في بداية 2014 تلقى البني تحذيرات من صدور مذكرة لاعتقاله، وداهمت قوات النظام السوري شقيقه أكرم في حفل زفاف، معتقدة أنه هو أنور. فسارع بإرسال زوجته وأطفاله إلى الخارج، ونشر أخبارا تفيد بأنه فر، ثم اختبأ لتجهيز مخطط الهروب.
قام أنور البني بصبغ شعره باللون الأشقر، وصبغ أيضا شاربه الكثيف، بما أن حلقه كان سيترك آثارا بارزة. وقام أيضا بوضع عدسات زرقاء في عينيه. وقدم له أحد أصدقائه بطاقة هويته، وقامت آخرى بنقله بسيارتها للحدود اللبنانية وطلبت منه أن ينتظر مكالمة هاتفية. وانطلقت رحلته مع غروب الشمس، وهو يتذكر تلك المغامرة ويقول: “لقد كنا نحتاج لتنفيذ خطتنا في وقت تصعب فيه الرؤية، ولكن الناس لم يشعلوا الأضواء بعد، بمعنى أن لا يكون الحراس في نقاط التفتيش قد بدؤوا في استخدام الكشافات للإضاءة، ذلك هو الوقت المثالي لعبور الحدود.”
عبرت السيارة ست أو سبع نقاط تفتيش، وكانت صديقته تقوم بمغازلة الحراس لصرف انتباههم عن ذلك الراكب الصامت الذي يحمل أوراقا مزيفة. وبعد حوالي ساعة وصلوا إلى منطقة جبلية غير مراقبة، أين مشى البني إلى الحدود اللبنانية وبدأ حياة جديدة.
بفضل علاقاته، لم تخض عائلة البني نفس الرحلة الطويلة لاجتياز الحدود البرية والبحرية التي يخوضها العديد من السوريين الذين فروا إلى ألمانيا، حيث كانت التأشيرات الممنوحة لهم في بيروت تسمح لهم بالسفر مباشرة إلى برلين، وقد تقدموا بطلب لجوء واستئنف البني نضاله من أجل حقوق الإنسان.
في آذار/ مارس 2015، بعد يومين من الانتقال من مخيم اللاجئين إلى أول منزل له في ألمانيا، سافر البني إلى نيويورك من أجل التحدث أمام منظمة الأمم المتحدة. فقد دعي من قبل منظمة العفو الدولي من أجل المشاركة في نقاش حول الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سوريا. وخلال اجتماع وجيز، أخبر البني الأمم المتحدة بأن معتقلين كانا على وشك الموت في سجون النظام مشيرا إلى أن حوالي 150 ألف سوري بين عداد “المفقودين”.
أصيب البني بخيبة أمل من مدى قدرة الغرب على تجاهل انتهاكات الحكومة السورية
بالعودة إلى ألمانيا، لم يكن لدى البني أي مكتب ليباشر عمله أو شهادة لممارسة مهنته، ورغم دعوة الأمم المتحدة، لم يظهر القادة الأوروبيون اهتماما كبيرا بالحرب السورية. يقول البني: لم أتخيل أن يشاهدوا كل هذه الفظائع ويلتزموا الصمت. لم أرد أن أصدق أن أوروبا قد تمضي كل هذا الوقت في مشاهدة ما يحدث دون أن تحرك ساكنا. لقد صدمني ذلك حقًا”.
ربما اعتقد ضابط الاستخبارات السابق أنور رسلان أن غياب الاهتمام بالحرب السورية، أو قراره بأن ينشق عن النظام في 2012، سيحميه. لقد غادر سوريا بعد بضعة أشهر من حدوث مجزرة في بلدة الحولة التي تعد من معاقل المعارضة، مسقط رأسه. هرب أولا إلى الأردن ثم إلى تركيا، وهناك، انضم إلى المعارضة ثم طلب اللجوء إلى ألمانيا.
لقد كان منفتحا بشأن العمل مع المخابرات السورية، مؤكدا أنه تجاوز الماضي. كما سعى في سنة 2015 إلى طلب المساعدة من الشرطة الألمانية بعد أن اقتنع بأن عملاء النظام السوري يلاحقونه، ولكن لم تجد الشرطة أي دليل على ذلك. وفي سنة 2017، استدعي رسلان ليكون شاهدا في تحقيق حول جرائم الحرب في سوريا. وقد دفعت تلك المقابلة المحققين إلى البحث في أنشطة رسلان السابقة، ليُعتقل في سنة 2019 بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
في محاكمة عقدت في شهر أيار/ مايو، نفى رسلان كل التهم الموجهة إليه. وفي بيان قرأه محاميه، قال رسلان إنه عامل المعتقلين حسب القوانين حتى أنه “قدم لهم القهوة في أول جلسة استجواب”. وأضاف أنه التقى ببعضهم في المنفى. ويذكر رسلان أن الوتيرة السريعة لإطلاق سراح المعتقلين التي كان يعتمدها أدت إلى تقليص صلاحياته، وذلك وفقا لنص المحاكمة الذي نشر على الإنترنت من قبل مركز السوري للعدالة والمساءلة.
في حزيران/ يونيو، كان البني من بين الشهود ليروي بالتفصيل ما حدث من فظائع ويتحدث أيضا عن الهياكل البيروقراطية لسجون الأسد وغرف التعذيب، التي يعرفها جيدا من خلاله تجربته كمعتقل وسنوات تمثيله للناجين منها بعد ذلك. يقول البني عن هذه القضية: “إنها ليست مسألة شخصية. إن غايتي تحقيق العدالة لجميع السوريين”.
عندما وطئت قدماه أول مرة أوروبا، أصيب البني بخيبة أمل من مدى قدرة الغرب على تجاهل انتهاكات الحكومة السورية. ولكن في المنفى، التقى بمحامين وناشطين ومنظمي حملات كان يعرفهم منذ سنوات الكفاح، وقد اكتشف أن العديد منهم يحاولون الاستفادة من النظام القانوني الأوروبي للنضال في سبيل هذه القضية.
أنور البني مع صور لضحايا النظام السوري، خارج قاعة المحكمة في حزيران/ يونيو.
بينما لا يستطيع البني ممارسة مهنة المحاماة، فإن لديه اعتمادا مفيدا أكثر: وهي ثقة السوريين فيه التي تسمح له بأن يساعد في إيجاد شهود للإدلاء بشهادتهم بشأن ما تعرضوا له من انتهاكات في وطنهم. إن العثور على ناجين والقدرة على التحدث عن أي مخاوف تراودهم بشأن الإدلاء بشهادتهم، هو مفتاح نجاح أي محاولة لرفع دعوى قضائية ضد جرائم الحرب المرتكبة في بلدهم، في وقت تغيب فيه الأدلة الملموسة.
إنه الآن جزء من شبكة من الناجين السوريين والناشطين القانونيين الأوروبيين العازمين على تحقيق العدالة من خلال تقديم ملفات إلى السلطات القضائية في السويد والنرويج والنمسا وألمانيا أيضًا. وبينما لا تزال الأخبار بشأن سوريا قاتمة، فإن التقدم الذي يحرزونه يمثل بارقة أمل.
إنهم يدركون أن قضية رسلان لن يكون لها أي تأثير فوري على النظام السوري. وحتى إذا وقع إدانته، فهو لم يصمم أو يسير النظام السوري، ناهيك عن أنه غادر سوريا في وقت مبكر من اندلاع الحرب، بينما استمرت ماكينة التعذيب في العمل. ولكن من المؤكد أن هذه القضية الجنائية ستؤدي إلى تصدع جدار الحصانة الذي ساعد كل من الدعم الروسي واللامبالاة الغربية الأسد في إقامته حول دائرته الداخلية.
يقول باتريك كروكر، المحامي المتخصص في الجرائم الدولية والمساءلة ورئيس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والإنسانية، الذي لعب دورا محوريا في جهود القارة واسعة النطاق لتوظيف الشرائع الدولية لتحقيق العدالة للسوريين: إذا كانت هذه الجهود تقض مضجع المزيد من المسؤولين في دمشق، فهذا يعني أننا على الطريق الصحيح”.
تاريخيًا، كانت محاكمات جرائم الحرب – ومن أبرزها محاكمات نورنبيرغ للقادة النازيين – تُعقد بعد انتهاء الحرب، وعادة ما يشرف عليها المنتصرون. على غير العادة، وقع النظر في هذه القضية بينما لا تزال الحرب مستعرة والمسؤول المتهم كان يعمل مع الجانب المنتصر، وهذا يمثل سابقة جديدة ليس فقط لسوريا وإنما للدول الأخرى أيضًا
يقول البني إن “هذه المحاكمة ستؤثر على الأفراد الذين لا يزالون يرتكبون الجرائم في سوريا. إنها تعقد بينما لا تزال الحرب مستمرة، وليس بعد انتهاء الصراع والتفكير بهدوء في “تحقيق العدالة”. كما يشير البني إلى نزاهة النظام القانوني الألماني الذي يمكن أن يوفر سجلا لا جدل فيه للجرائم المرتكبة في سوريا، حيث أنه “من المهم أن نوضح لكل العالم ما حدث حقا في سوريا. فلا يمكن لأحد أن يقول ذلك في محكمة تفتقر للمصداقية”.
بعد قضاء ست سنوات في برلين، إن البني على يقين من أنه سيعود يوما إلى سوريا لدرجة أنه لم يحاول تعلم الكثير من اللغة الألمانية. إنه ممتن للحصول على ملاذ آمن، لكنه لا يستطيع أن ينكر حنينه إلى وطنه. ومن بين أكثر الأماكن التي يفتقدها مقهى المحامين في قصر العدالة، وهو مبنى من الحقبة الاستعمارية يقع في وسط دمشق، يقدم القهوة والشاي والسجائر، ويمثل فضاء يناقشون فيه أيضا المسائل القانونية ويجتمعون فيه قبل الجلسات وبعدها، أو يلتقون فيه موكليهم.
يأمل البني أن تساعد حملات العلاقات العامة والعقوبات والتهديد بالاعتقال والمحاكمة في الحد من دور هؤلاء الجنرالات في أي مفاوضات دولية حول مستقبل سوريا
في برلين، يشرب البني في اليوم غالبا عدة أكواب من القهوة الفورية، بينما يقدم لضيوفه القهوة المعدة على الطريقة السورية المنكهة بحب الهال مع الحلويات السورية. يعني تسرعه في اللجوء إلى المنفى أنه يمكن الآن شراء كيكة التمر من أي محل في برلين. هاتفه دائما يرن ويعج برسائل السوريين المنتشرين في أنحاء أوروبا الذين إما يبحثون عن المساعدة أو يريدون مد يد العون، ومن الناشطين أيضًا. يوم التقيت به، كان عدد الرسائل غير المقروءة المرسلة له على واتسآب تزيد عن 4800 رسالة. إنه قلق بشأن السوريين الباحثين عن اللجوء المعتقلين في قبرص، وبعض المئات منهم الذين من الممكن أن يقع ترحيلهم في السعودية.
إن البني الآن في مأمن أكثر مما كان في دمشق، ولكن التهديدات لا تزال مستمرة على مواقع التواصل الاجتماعي ومعظمها من أشخاص مجهولين – وهو ما يذكره بأن الكثيرين في سوريا كانوا ليفرحوا لو رأوا اسمه على اللائحة الطويلة للموتى أو المفقودين. وهو لا يزال قلقا بشأن زملائه الذين بقوا في سوريا.
في حين أن قضية رسلان لا تزال مستمرة، فإن البني يحاول مطاردة قادة آخرين. بينما كنا نتحدث، التحق بنا أحد الناجين الذي كانت آثار التعذيب دائمة على جسده لمناقشة قضية. تضاف أسماء متهمين جدد باستمرار. يقول البني في حديثه عن سوري يعيش في أوروبا متهم بجرائم حرب: “لقد سمعنا بشأنه منذ ثلاثة أيام”. وهو مقتنع بأن جنرالات الأسد لا يمكن أن يمكثوا في السلطة للأبد.
في الوقت الراهن، يأمل البني أن تساعد حملات العلاقات العامة والعقوبات والتهديد بالاعتقال والمحاكمة في الحد من دور هؤلاء الجنرالات في أي مفاوضات دولية حول مستقبل سوريا ما بعد الحرب، أو جهود إعادة الإعمار. في هذا الصدد، أكد البني: “هدفي الرئيسي هو إقصاؤهم وقطع كل الطرق عليهم لمنعهم من إعادة بناء سمعتهم. إذا أصبحوا جزءا من مستقبلنا، سيكون ذلك كارثة”.
كما يأمل أنور البني أن يتجاوز صدى القضايا التي يساعد في تجميعها في جميع أنحاء أوروبا حدود سوريا، لتكون بذلك تحذيرا من أنه حتى أقوى الحلفاء الدوليون لا يمكن أن يضمنوا لأي أحد الحصانة من العدالة والإفلات من العقاب. ربما سيمكننا ذلك من إنقاذ أشخاص في دول أخرى تحكمها أنظمة استبدادية مثل نظام الأسد، يعتقد حكامها أنه يمكنهم ارتكاب الجرائم والنجاة بفعلتهم. إن المجرمين الآن خائفون، لأنهم باتوا يعلمون الآن أنهم ليسوا محصنين”.
المصدر: العارديان