الطفل الصغير الذي تريد أن تجعله يحبو لا بد أولًا أن يكون قادرًا بدنيًا على ذلك وجسمه مستعد لهذه العملية، ثم سيدفعه الفضول تجاه العالم الخارجي فيقترب من الأشياء البعيدة ويكتشفها، وحين يجد من يحضر تلك الأشياء المثيرة للاهتمام إليه دون أي جهد منه، فإنه لن يبذل جهدًا في تعلم الحبي أو المشي للوصول إليها، لذلك يكون من الصحي في بعض الأحيان وضع (محفز) للطفل مما يثير انتباهه بعيدًا عنه لتجعله يقترب إليه ويبذل مجهوده في ذلك.
قس على هذه العملية أي عملية تعلم تريد للأطفال أن يتعلموها، ابتداءً من الأحرف الأبجدية وجداول الضرب وصولًا إلى التفاضل والتكامل والفلسفة والكيمياء. يجمع كل تلك العمليات التعليمية أمر واحد هو (الدافعية للتعلم).
فما هي الدافعية؟
كثرت الدراسات والأبحاث والتجارب التعليمية التي حاولت أن تفهم طريقة تعلم التلاميذ، وحاول علم النفس المعرفي والسلوكي، أن يفسر طريقة التفاعل في العملية التعليمية بين المعلم والطالب والمعلومة نفسها، حتى إن علم الأعصاب تدخل في بعض المراحل كي يجد تفسيرًا لطريقة فهم الطلاب وكيفية عمل السيالات العصبية أثناء تلقي المعلومات الجديدة وأثناء عملية إثارة الفضول والدافعية تجاه ما يراه الطالب ويسترعي انتباهه من المناهج.
ودخلت المدرسة في منافسة شديدة مع التلفاز واليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات والألعاب الالكترونية في إثارة انتباه الأطفال وإثارة دافعيتهم للتعلم، ومن هنا صار من المهم أكثر أن نفهم كيف تتكون الدافعية وكيف نحرض على الرغبة في التعلم.
الدافعية داخلية المنشأ والدافعية خارج المنشأ
ما الذي يجعل البعض يقبل على التلفاز أو الجلوس لساعات طويلة على الهاتف متابعًا حسابات أشخاص لا يعرفهم ومشاهدًا فيديوهات كثيرة تهمه ولا تهمه؟..فيما أنه لا يقبل البقاء لساعة متواصلة وهو يدرس مادة ما للجامعة أو يقرأ كتابًا؟..بينما يُقبل كثيرون على الدراسة ويقضون ساعات كثيرة وهم يطالعون ويقرؤون؟
يقع مصدر الدافعية خارجية المنشأ خارج شخص الطالب متمثلًا في المعلم أو الأهل أو حتى المعلومة التي تثير فضول الطالب لتدفعه للرغبة في التعلم
هذا الفارق أثار اهتمام علماء النفس والاجتماع منذ مدة طويلة، ففيما يقبل بعض الطلاب بحماس على الذهاب إلى المدرسة يأبى آخرون ذلك تمامًا، وظهرت نظريات وفرضيات كثيرة عن هذا الأمر، حيث تحدث عالم النفس الأمريكي هوارد غاردنر عن أنواع الذكاء، وجاء من وضع فرضيات لأنواع التعلم (التعلم البصري والسمعي والحسي)، وتحدث علماء النفس عن تعامل المدرس مع الطلاب وغيرها من الأسباب التي لا تجعل الطالب يرغب بالذهاب إلى المدرسة، وهنا وُضع مصطلح الدافعية داخلية المنشأ والدافعية خارجية المنشأ.
ففي حين يقع مصدر الدافعية خارجية المنشأ خارج شخص الطالب متمثلًا في المعلم أو الأهل أو حتى المعلومة التي تثير فضول الطالب لتدفعه للرغبة في التعلم، يقع مصدر الدافعية داخلية المنشأ في الطالب نفسه والذي يتعلم لأنه يحقق شيئًا يعرفه لنفسه، التفوق وشعور النجاح، المعرفة.. تجنب متاعب ما أو الحصول على نتائج ومكافآت.
كيفية نحفّز الدافعية الداخلية عند الطلاب؟
1. إعطاء الطالب مساحة لذاتية القرار
تأتي أهمية الجوائز والتعزيزات في تعزيز الدافعية داخلية المنشأ وتوليدها لدى الطلاب، حيث يمكن تحريضها من خلال الحاجة إلى الإحساس بالكفاءة وذاتية القرار، وهذه الأخيرة تعني امتلاك المقدرة على القيام باختيار أمر ما ضمن أكبر عدد ممكن من المواقف المحتملة، وهذا يشجع شعور الطالب بالكفاءة ويجعله متحمسًا أكثر للحصول على المعلومة.
أيضًا وجود خيارات متعددة أمام الطالب في الواجبات والأبحاث تعطيه دافعًا ليقوم بالعمل الذي اختاره على أكمل وجه.
2. نظرة الطالب لنفسه وفكرته عن الذكاء
بينت بعض الدراسات أن الطلاب الذين يعتقدون أن الذكاء قابل للتطوير والزيادة قادرون على تحسين مستواهم الدراسي أكثر من أولئك الذين يؤمنون أن الذكاء جامد غير قابل للتغير والتطوير، وهذا الأمر يعرقل الدافعية الداخلية لدى الطالب، فهو إن كان يؤمن أنه أقل ذكاء من غيره بسبب تلميحات أو تصريحات من الأهل والمعلمين والمقارنة المستمرة مع أقرانه من زملائه في الصف وأقربائه فهذا سيجعله يصاب بالإحباط ولا يجتهد في الدراسة لأن النتيجة كما يراها بجميع الأحوال لن تكون جيدة.
3. رفع مستوى الأهداف
وهذه عملية يجب أن تكون مدروسة من قبل المدرسين وواضعي المناهج التربوية، فإن وضع تمارين وأهداف قابلة للتحقيق ولكن صعبة المنال وتحتاج إلى بعض المجهود تولد لدى الطالب شعورًا بالتحدي والتحفيز القوي لتحقيقها، بالمقابل وضع أهداف غير قابلة للتحقيق لمجرد تعجيز الطالب وإثبات المدرس أنه هو الأعرف منه، فهذا يجعل الطالب يصاب بالإحباط ولا يفكر أو يبذل مجهودًا لحلها أو حفظها.
يمكن رؤية هذا جليًا في الألعاب الالكترونية حيث تجد المراحل صعبة ولكن يمكن تحقيقها عدا عن ذكر أمثلة لأشخاص فازوا بها وتجاوزوها مما يعزز ثقة اللاعب بأنه قادرعلى تجاوزها ويجعله يعيدها مرارًا وتكرارًا حتى يتجاوزها.
4. الإرجاعات السببية
الطريقة التي يُفسر بها التلميذ نجاحه أو فشله يؤثر كثيرًا في عملية تحفيزه وتفعيل الدافعية في داخله، فهو يمكن أن يعزو النتيجة إلى أسباب داخلية أو أسباب خارجية مثل: الذكاء والجهود المبذولة والطاقة الخاصة به كلها أسباب داخلية، لكن المدرس وطريقة شرحه وظروف الامتحان وأسئلته أسباب خارجية وغالبًا يلجأ الطالب إلى إرجاع فشله إلى الأسباب الخارجية لأنه غير قادر على تغييرها، بينما من يعزو نجاحه أو إخفاقه إلى أسباب داخلية فهذا يساعده على تغييرها ووضع رؤية للتحكم بها قدر المستطاع.
يمكن تلخيص ما سبق بالقول إن التلميذ الذي لديه دافعية داخلية هو أكثر وعيًا بفاعليته الذاتية، والتي تؤثر على:
الإرجاعات السببية: فأولئك الذين لديهم شعور مرتفع بالفاعلية الذاتية يرجعون أسباب النتائج مهما كانت إلى جهودهم وأمور متعلقة بهم ويعملون على تطويرها.
الأهداف والتطلعات: يملكون أهدافًا وتطلعات عالية ويؤمنون بقدرتهم على النجاح والحصول على أعلى النتائج.
دور المعلم في عملية الدافعية وتحفيزها لدى الطلاب
يُعتبر المدرس بالنسبة للطالب مرجع وجداني وليس علمي فقط، فالطفل ينتظر أن يقرأ نظرات الرضا والقبول في ما يقوم به، فالمعرفة بالنسبة له هي رغبة في الإتقان ورغبة في القبول.
نقص الدافعية لدى المدرس يمكن أن يقتل كليًا الدافعية لدى التلاميذ
لذلك يُعتبر حماس المدرس لما يتعلمه الطفل وينجزه، ونظرته للطفل على أنه شخص مبدع ذكي تلعب دورًا هامًا في نظرة الطفل لنفسه وبالتالي دافعيته نحو التعلم.
أيضًا إن نقص الدافعية لدى المدرس يمكن أن يقتل كليًا الدافعية لدى التلاميذ، كيف يمكن أن ترفع مستوى الدافعية عند الطالب في حين أن المدرس يتثاءب طيلة الدرس أو ينظر في ساعته أويجلس ويعطي التلاميذ واجبًا يكتبونه خلال الفصل بدلًا من مشاركتهم العملية التعليمية أو حين يصرخ عليهم ويُشعرهم أنهم عبء ثقيل عليه؟!
وهناك محور آخر هام في عملية تحفيز الطالب والتي يقوم بها المعلم من خلال شرح الدروس وإعطاء معنى لكل موضوع أو فصل يدرسونه، فالرياضيات مثلًا علم جامد يكرهه أغلب الطلاب لكن إضافة الحديث عن أصل نشوء هذه العلوم سيجعل الأمر أكثر حيوية وجذبًا للطلاب، فالكثيرون لا يعرفون أن علم الهندسة نشأ بين العلماء المصريين لدراسة فيضانات النيل ورسم قطع الأرض الخصبة بعد الفيضانات والتي تتغير باستمرار.
دور الطلاب فيما بينهم في عملية الدافعية
عملية التعلم تدور حول محاور عدة يكون الطلاب أحدها وجزءًا هامًا منها، إذا تحدثنا عن التعلم في الفصول أو التعلم الجماعي فإن التنافس أمر لا بد منه ضمن الفصل، وأحيانًا يكون لهذا التنافس بين الطلاب دور إيجابي في تعزيز الدافعية لديهم فكل منهم يريد أن يثبت أنه الأفضل وأنه الأذكى والأقدر على إحراز نتائج جيدة، مما يعزز رغبتهم في التعلم والحصول على درجات أعلى وهذا أمر جيد إذا ما استطاع المدرس ضبطه ضمن الحدود التي تجعل الدافعية فعالة بين الطلاب، أما إن تجاوز الأمر حده أو استخدم المدرس التنافس كوسيلة للتمييز بين الطلاب فهذا سينعكس سلبًا على الكثير منهم، لأنه كما ذكرنا سيجعل البعض يعتقد أنه غير قادر على الوصول لدرجة زميله أو أنه أقل ذكاء منه.
قد يعتقد البعض أن الدافعية هي أمر متعلق بالطالب نفسه فقط، لكن الحقيقة أنها عبارة عن خليط من مكونات عدة حاولنا أن نجملها في المقال، وهي أمر متشعب ومعقد لارتباطه بالدرجة الأولى بالنفس البشرية والتي مازالت عصية على الفهم تمامًا.