تعرف كل من الصين وروسيا كيف يمكن التربح من الضغوط، الحصار الطويل لكل منهما جعل البلدين يطوران استراتيجية تفلت من كل أزمة بإجراءات أقوى، وقلب الطاولة على الخصوم، وهو ما حدث بالضبط خلال أزمة كورونا، ومحاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصم بكين ونسب الفيروس إليها لتجريسها في العالم، لكنها استغلت هذه المناوشات وأجرت تحالف من نوع آخر لإقامة نظام صاروخي جديد مع روسيا يمثل تهديد للغرب بأكمله.
شكلت كل من روسيا والصين السمات الرئيسية للعلاقات الدولية أثناء الوباء، أصبح ثابتا أن العدو بأقصى سرعة لتعزيز التحالف بين موسكو وبكين وخاصة في الأنشطة الدفاعية، ينطلق من قواعد العداء للغرب الذي لاينحصر على الاستعداد العسكري فقط.
يتجاوز ذلك إلى الثقافة والاقتصاد والمؤسسات الدولية التي تجتهد الصين وروسيا في إنشاء كيانات موازية على شاكلة بنك التنمية الجديد الذي سيمول البنية التحتية ومشاريع دول البريكس، وهو بنك سينافس البنك الدولي، بجانب تدشين كيان منافس لصندوق النقد الدولي خاص بالعملة بقيمة 100 مليار دولار، وهي ضربة قاضية بكل المقاييس للنظام العالمي.
ما قبل الصواريخ
طول الأشهر الماضية التي فرض فيها فيروس كورونا منطقه على العالم، والرئيس الامريكي دونالد ترامب يصمم قوالب جديدة للمواجهة مع الصين، يخترع أسلحة متنوعة للقضاء عليها عبر العقوبات تارة، والتعريفات الجمركية والخطابات السياسية المدمرة تارة آخرى.
نجح ترامب بشعبويته وطريقته الفريدة في تمرير أفكاره وإقناع جماهيره بخطورة الصين على حاضر ومستقبل أمريكا، جهزهم ذهنيا لتقبل أي قرار مهما كانت تكلفته بما في ذلك توجيه ضربة نووية للصين إن أراد، مع أن الواقع يكشف أن سياسات الرجل تجاه الصين استخفاف بعقول العالم أجمع في ظل سعيه لإجبار بكين على مزيد من الانفتاح على السوق الأمريكي بالعقوبات والحروب الكلامية بين البلدين.
يكشف عن ذلك أداء الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، حيث اشترت الصين بما يقرب من 60 مليار دولار بضائع أمريكية، وكانت ثالث أكبر وجهة تصدير لهذه السلع، والشهر الماضي وحده شهدت مبيعات فول الصويا والذرة في الولايات المتحدة إلى الصين ارتفاعا كبيرًا، وبلغت قيمة الصادرات الأمريكية من الذرة الرفيعة إلى الصين في الفترة من يناير إلى أغسطس 2020 617 مليون دولار، مقابل 561 مليون دولار للفترة نفسه في 2017.
يحدث ذلك رغم التصعيد السياسي والدبلوماسي من كلا البلدين وإغلاق القنصليات والخطاب الصارم المتطاير من المنصات الرسمية والحرب الشعبوية على تويتر وملاحقة الباحثين الصينيين الذي لجأوا لسفارات بلادهم للاختباء فيها هربا من الملاحقات الأمنية والأوامر الصادرة باعتقالهم، بزعم انتحالهم صفات مزورة والعمل من الباطن جيش التحرير الشعبي الصيني.
تحالف الصواريخ
منذ بدء تفشي كورونا استغلت الصين انشغال العالم بتدعيات الفيروس والحرب الترامبية الضروس على بكين لإقامة تحالف وثيق مع روسيا، تحت راية تبادل الآراء حول سبل الوقاية من الوباء وتعزيز التعاون في مجال البحث العلمي .
لكن بوتين كان له رأي آخر عندما كشف على نحو مفاجئ للعالم، أنه يعمل مع الصين على بناء نظام إنذار مبكر للهجوم الصاروخي لتحسين القدرات الدفاعية للصين، وهو نظام لايملكه في العالم كله إلا روسيا والولايات المتحدة ولديهما شبكات شاملة للإنذار الصاروخي.
نظام الإنذار المبكر هو رأس الحربة في مقاومة خطر الصواريخ العابرة للقارات، حيث يملك رادار متخصص للاضطلاع بهذه المهمة، وماهية قوة هذا النظام في قدرته الدينماكية على التطوير المستمر وتعزيز كفاءته في رصد وتعقب الصورايخ وخاصة الباليستية بشكل مبكر للغاية.
تستطيع رادارات الإنذار المبكر رصد 5 آلاف كيلومتر، فضلاً عن قدرتها على الرصد الفضائي بأقصى سرعة ممكنة، وهنا عدة دقائق قليلة تمكن أي دولة من التنبؤ بمثل هذا الهجوم تمثل كنوزًا لاتقدر بثمن.
طورت الصين وروسيا خلال أزمة كورونا من التعاون بينهما لتحقيق سبق جديد في مارثون تحدي الولايات المتحدة وقطعا معًا مسافات جديدة في تفتيت قبضتها على العالم بالاستمرار في بناء نظام عالمي جديد يتضمن قوى مختلفة على أكتاف بلدين يربط بينهما تفاهمات أيدلوجية وسياسية وقانونية.
استثمرت روسيا والصين المعاهدات الأمنية بينهما منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي تقتضى بعدم استهداف بعضهما البعض بالصواريخ في تصدير إطار شرعي للمجتمع الدولي حول تبادلهما المعلومات حول الأنشطة العسكرية الحدودية على نطاق واسع، وكذلك التدريبات الجوية والبحرية والبرية، وتوريد تقنيات الدفاع الأكثر تقدمًا إلى بكين، بما في ذلك الطائرات المقاتلة المتقدمة وصواريخ أرض- جو التي جعلت الصين أكبر مستورد للسلاح من روسيا.
رعب عالمي
الضربة الروسية الصينية حققت أهدافها المعنوية حتى الآن بالإعلان عن مثل هذا التحالف، دون أن يوضحا ما هي آليات التعاون في مجال الإنذار المبكر التي مازالت غير معروفه حتى الآن، مع أن المشروع يشمل صواريخ باليستية طويلة المدى.
تتخوف القوى الغربية من حدود هذا التعاون، ولاتعرف إن كان سيمتد إلى الصواريخ قصيرة المدى التي كانت محظورة سابقًا بموجب معاهدة المدى المتوسط، والتي تسبب ترامب بحماقته في التراجع عنها، في فبراير من العام الماضي في تعليق روسيا لها هي الآخرى، وجاء التعاون مع الصين في نظام الإنذار المبكر ليكون الرد الثاني الأكثر قسوة.
وإنشاء شبكة إنذار مبكر مشتركة يعني كارثة للغرب، تبدأ بنقل تكنولوجيا الدفاع إلى بكين وستنتهي بإنشاء غرفة عمليات مشتركة بين منطقتين دفاعيتين بحجم روسيا والصين ما يسمح لهما بالسيطرة على قارة أسيا التي كان الصراع عليها سببًا رئيسيًا لترامب للانسحاب من معاهدة الصواريخ قصيرة المدى.
والسيطرة على أسيا تعني طرديًا السيطرة على الشرق الأوسط ووسط وغرب إفريقيا، وهي المناطق التي تتدفق منها الصراعات بشكل متكرر عبر حدود تمتد عليها جماعات عرقية مثل الأكراد التي تخترق عدة دول، فضلا عن السيطرة على شبكات الجريمة المنظمة والانفراد ووضع سياسة مختلفة عن الأطر الغربية للتعامل مع كل هذه الظواهر، ما يخرج الغرب عمليًا من هذه المناطق.
ولن تتوقف المشكلة عند هذا الحد، بل ستتكفل مثل هذه المعاهدة بدفع الصين وروسيا لاتخاذ مواقف أقوى في القضايا العالمية وضم دول جديدة حليفة لهما ومنبوذة من الغرب مثل كوريا الشمالية التي تشترك مع روسيا في حدودها البرية، ولاسيما ان هذه الدول لاتتوقع أي تحسن في العلاقات مع الولايات المتحدة في ظل الإدارة الجديدة لبايدن.
كشفت ثورات الربيع العربي حقيقة المنافسات العالمية وترهل الدبلوماسية أمام لغة القوة حتى الآن في سوريا وليبيا واليمن وغيرهم
فهناك توافق بين النخبة السياسية الأمريكية بشأن مدى التهديد الروسي والصيني لهم، ولايشفع لهما من الجهود الدبلوماسية لإثبات التزامهم بالسلام العالمي، كما أن الغرب لديه تفسير مقارب، وهو يتضح من عدم تحقيق اختراق جوهري في التعاملات بين روسيا والاتحاد الأوروبي وخاصة فيما يتعلق بأوكرانيا .
يمكن القول ان مثل هذا الإنذار المبكر، حال الاستمرار فيه، هو أقوى اختبار للنظام الدولي وللقوى الكبرى واللاعبين الإقليميين الذي أصبحوا في مواجهة بعضهم البعض بعد أن أثبتت الدبلوماسية الوقائية فشلها في حل ثغراث هذا النظا ولاسيما منذ 2011.
كشفت ثورات الربيع العربي حقيقة المنافسات العالمية وترهل الدبلوماسية أمام لغة القوة حتى الآن في سوريا وليبيا واليمن وغيرهم من الدول المنكوبة التي زاد من جراحها التنافس الدولي والصراع المستمر على المصالح بين مراكز القوى المختلفة.