السروال الفلسطيني الشهير الذي تتغنى به فرق فنون الفلكلور والدبكات الفلسطينية المختلفة، هو بالأساس مستوحى من اللباس التقليدي للأكراد، وكذلك بعض الأكلات الشهيرة على مائدة الطعام الفلسطينية، مثل أكلة “السُّماقية” التي لا يخلو بيت فلسطيني من وجودها، والتي تُعتبر الوجبة الرئيسية في أفراح أهل غزة بالذات، وكذلك “الرمانية”، و”الكشك” وكذلك أكلة “الفقاعية” التي يتم إعدادها من عشبة “الحمصيص” التي تنتشر في فصل الشتاء بكثرة، وهي مستوحاة من طبق “السماقية” لكن بتغيير نوع العشب.
فكيف وصلت قائمة الأكلات الكردية إلى موائد الطعام الفلسطينية، وكذلك بعض الألبسة القديمة والعادات والأعياد المختلفة في فصل الربيع كموسم “المنطار”، وعيد “النبي روبين” وموسم “النبي موسى” والمستوحاة أيضا من أعياد “نيروز” الكردية؟ وكذلك بعض العائلات من ذات أصول كردية التي تتواجد أغلبها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، ويقدر عددها بـ20 ألف أسرة، ومن أبرز هذه العائلات (حتحت، الظاظا، الجعبري، الكردي، الدهدار، محيسن)؟
هجرة الجهاد والتجارة الكردية لفلسطين عبر التاريخ
يرى المؤرخ الفلسطيني الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم، أن بداية تواجد الأكراد في فسطين، يرجع لزمن السلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي، حيث جاؤوها مجاهدين لتحريرها من الإفرنج عام 1187 ميلادي بعد احتلال دام لقرابة 100 عام، بينما كانت الهجرة الثانية بغرض التجارة في زمن المماليك، الذين ورثوا الحكم من الأيوبيين، ثم جاءت الهجرة الثالثة في زمن العثمانيين، لتقلد المناصب والوظائف الحكومية.
وكان “حي الشجاعية” شرق مدينة غزة، أول موطئ قدم للأكراد، والشجاعية اليوم يُمثل الهوية الدالة على مدينة غزة، الذي لا يزيد طوله عن 5 كيلو متر وعرضه 3 كيلومتر، يقطنه أكثر من 40 ألف مواطن، أي يعيشه بكل كيلو متر مربع واحد منه 5000 إنسان، وهي المنطقة السكنية الأكثر كثافة في العالم، وفق ما أشار إليه مسبقا الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
زادت هجرة الأكراد لفلسطين خلال حكم المماليك، الذين أظهروا اهتماما بالغا بغزة، إذ كانت حلقة وصل بين دمشق والقاهرة
اسم “الشجاعية” مكتسبة من شخصية “شُجاع الدين الكردي”، وهو مجاهد كردي من مدينة الموصل شمالي العراق، لحق بجيش السلطان صلاح الدين الأيوبي، واستشهد في معركة “غزة الكبرى”، خلال الحرب الصليبية الثانية عام 1240 ميلادي، وانتصر المسلمون بها، وسُميت بساحة الشجاعية على اسمه.
وزادت هجرة الأكراد لفلسطين خلال حكم المماليك، الذين أظهروا اهتماما بالغا بغزة، إذ كانت حلقة وصل بين دمشق والقاهرة، وهما أهم عاصمتين للدولة المملوكية، ونقطة التقاء تجار الهند والحجاز واليمن الذي يُصدرون منتجاتهم من التوابل والبخور وغيرها لأوروبا عبر ميناء غزة القديم الذي كان المنفذ البحري الوحيد لأوروبا من نوعه في تلك الفترة، ما جعل السلطان المملوكي سيف الدين قلاوون يهتم بها بصفتها كانت أهم خزينة اقتصادية للدولة المملوكية، فبعد أن تم تقسيم بلاد الشام بعهده لعدة ولايات، جعل من مدينة غزة ولاية لوحدها ولم يشملها مع ولاية كل فلسطين، لموقعها الجغرافي المميز الذي يفصل بين ثلاث قارات، كما جعل فيها نائبه الأكبر.
كل ذلك دفع من الأكراد في شمالي سوريا والعراق ومناطق تركيا في زمن المماليك، بالتوجه لغزة للعيش بها كون أن بلادهم حينها غلبها الفقر والتهميش، و”تعتبر هذه الهجرة الكردية لغزة الثانية من نوعها، بغرض التجارة، بعد أن تواجدوا بغزة للمرة الأولى بزمن الأيوبيين بغرض الجهاد”.
بداية تأسيس الشجاعية انطلاقًا من “حارة الأكراد”
ومن “حارة الأكراد” بحي الشجاعية، تشكلت اللبنة الأولى للأكراد في فلسطين ابتداء من هذا الحي، وتضم الحارة اليوم عدة معالم بُنيت في فترة المماليك والعثمانيين على أيدي الأكراد، منها “قصر حتحت” و”مسجد بن عثمان” وكذلك “مسجد السيدة رقية”، التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا.
قصر ومنزل حتحت
وبالحديث عن “قصر حتحت” أنشأه المختار الكردي إبراهيم حتحت الذي قدم من بلاد الكرد في شمال سوريا، لغرض تجارة النسيج الذي يأتون به من دمشق، وما زال هذا القصر متواجدا وشامخا حتى اليوم، بصخوره الجيرية القديمة المخلوطة برمال “الكُركار الأصفر” والتي تُعطي للبناء ميزة الدفء شتاءا والبرودة صيفا، وهي إحدى خصائص الفن المعماري القديم للدولة الأيوبية والمملوكية.
ويقول صاحب القصر حاليا أمجد حتحت لـ”نون بوست”: “هذا البيت كان لملك تجارة النسيج الدمشقي في غزة سابقا جدنا إبراهيم حتحت، وبعد أن توفاه الله ورث أبناؤه هذا البيت، حيث ازدهرت غزة خلال فترة المماليك بزيارة الوفود العرب والأفارقة إليها سواء أكانوا تجار أو طلاب علم أو لاجئين، وكالعادة كانت (حارة الأكراد) بحي الشجاعية الملجأ الأول لهم ودليلهم، من خلال ديوان وقصر حتحت”.
من هنا استغل أصحاب القصر الوجوه التي تزورهم يوميا بفتح معمل خياطة ونسيج في زوايا هذا البيت، بدلا من أن يستوردوه عبر قوافل من دمشق، ثم ما لبث حتى قاموا بإنشاء معصرة زيتون أيضا، في السنوات الأخيرة من حكم العثمانيين، ويعتبر هذا المنزل اليوم أقدم البيوت وأولها في حي الشجاعية والتي تُحاكي أول موطئ قدم للأكراد في الأرض الفلسطينية.
على بضع أمتار من مسجد بن عثمان، يوجد معلم آخر للأكراد، وهو مسجد السيدة رقية
ومؤخرا تم تحويله لمؤسسة علمية تخص النساء من الجهة الشمالية للقصر، ومؤسسة تربوية للطفل من الجهة الجنوبية له.
جامع بن عثمان
أما جامع بن عثمان، فهو أقدم المساجد وأكبرها في قطاع غزة، وبناه السيد “شهاب الدين بن أحمد بن عثمان” وهو رجل دين وتاجر كردي، سكن بحي الشجاعية خلال فترة الحكم المملوكي، قام ببناء هذا المسجد بعد زيادة عدد الوافدين لغزة واحتياجهم لمعابد ومنازل أكثر في عام 1430 ميلادي، في القرن الثامن من السنة الهجرية.
وهنالك قبر في زوايا هذا المسجد وهو للأمير الكردي “سيف الدين يخلجا” الذي يُعتبر ملك أمراء مصر وبلاد الشام، وهو منصب لا يحصل عيه إلا من يتولى إمارة ولاية غزة في زمن السلطان المملوكي سيف الدين قلاوون، كرسالة على تعايش الأكراد قديما مع الفلسطينيين انطلاقا من الشجاعية.
مسجد السيدة رقية
وعلى بضع أمتار من مسجد بن عثمان، يوجد معلم آخر للأكراد، وهو مسجد “السيدة رقية” وغير معروف من هي حتى الآن، ولكن بعض المؤرخين نسبوها للنسوة الأكراد بغزة اللواتي تزوجن من الحكام العثمانيين، عقب انهيار الحكم المملوكي وسيطرة العثمانيين على الأرض الفلسطينية وبعض أقطار الوطن العربي، ودراسات أخرى تقول إنها إحدى الجاريات اللواتي كان يخدمن في قصور العثمانيين، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن السابع للميلاد.
توسع الأكراد داخل باقي الأراضي الفلسطينية
وتوسع نفوذ الأكراد من غزة لداخل فلسطين نحو القدس والخليل وغيرها من المدن الفلسطينية، فقد سجل التاريخ الفلسطيني أحداثًا دموية بين العائلات الكردية وأصحاب الأراضي الأصليين في فلسطين، حيث شكلت هجرتهم السابقة وتملكهم في فلسطين صراعًا مع الأهالي، مثل تلك الصدامات الدموية بين ملتي العرب والأكراد في الخليل، وفشلت كل جهود الأمراء بفلسطين بوقف القتال بين الطرفين، حتى رُفع الأمر للسلطان سيف الدين قتيباي في العاصمة المصرية القاهرة، وهو آخر سلاطين الدولة المملوكية.
عائلات حي الشجاعية سجلت صمودا أسطوريا خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة صيف عام 2014
في عام 1473 أمر السلطان قتيباي قواته بالحرب على الجماعتين، لوقف النزاع بينهما والتعايش معا، وانتهى الأمر بمذبحة طالت الطرفين، عُرفت باسم “مذبحة قتيباي” راح فيها آلاف الضحايا من الطائفتين، وتفرقت العائلات الكردية والعربية من الخليل لجميع أنحاء فلسطين، وخير مثال حارة “الشرف الكردي” في القدس المحتلة، فيما أنشأ من تبقى بالخليل، ديوانا خاصا بهم، عُرف باسم “ديوان الأكراد” وما زال قائما حتى اليوم، يعالج قضايا نحو 20 ألف أسرة من أصول كردية في الخليل وباقي أنحاء فلسطين.
الأكراد في الثورة الفلسطينية المعاصرة
وفي العصر الحديث، سجل الأكراد العرب في فلسطين تاريخا أسطوريا في الملاحم التي خاضتها الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما دفع من الزعيم الراحل ياسر عرفات – أبو عمار، إلى إنشاء “جمعية الصداقة الفلسطينية – الكردية” عام 1999 وهي الأولى من نوعها عربيا، وسبقت بذلك جمعية “جمعية الصداقة العراقية – الكردية” المتواجدة في محافظة أربيل أقصى شمال العراق.
كما أن عائلات حي الشجاعية سجلت صمودا أسطوريا خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة صيف عام 2014 وأقدمت دولة الاحتلال الإسرائيلي على تدمير حي الشجاعية بشكل شبه كامل وقتل 350 فلسطيني وجرح أكثر من 1500 خلال أقل من 72 ساعة، وهي أكبر مجزرة إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية منذ احتلالها عام 1948.