لماذا يسلك فيروس كورونا سلوكًا انتقائيًا داخل أجساد ضحاياه؟ لماذا هذا التباين في شدة الأعراض من شخص لآخر؟
لوهلة حاولوا معي تذكر الأشخاص من محيطكم الخاص الذين تعرضوا للإصابة بفيروس كورونا، بالطبع مرت أسماؤهم وأشكالهم في مخيلتكم الآن (ربما كانوا أحد أفراد أسرتكم أو زملاء عمل أو جيران سكن أو أحد الأصدقاء) منهم من استطاع التغلب على الإصابة والتعافي وبعضهم عانى ما عانى من مضاعفات الإصابة وبعضهم خسر معركته أمام فيروس كورونا ورحل عنا.
ويأتي بدوره السؤال الذي يراود ذهننا الآن: لماذا بعض الأجساد قاومت الإصابة بـCOVID 19 والبعض الآخر لا؟ لماذا فتكت العدوى ببعض الأجساد رغم كونهم في ريعان الشباب وتمام الصحة؟ هل هناك أجساد وعوائل أكثر عرضة لمضاعفات المرض الخطيرة من غيرها؟
يشكل هذا التساؤل لغزًا كبيرًا حير العلماء والباحثين، ولفهم “لماذا يسلك فيروس كورونا سلوكًا انتقائيًا”؟ قد تكمن الإجابة في أجسادنا لا الفيروس، وبعبارة أدق في جيناتنا.
الإجابة الأكثر منطقية هي التي توصل إليها قسم من الباحثين ومفادها أن هناك ميلًا جينيًا لدى بعض الأشخاص للإصابة بمضاعفات كوفيد 19 المميتة.
تظهر الإحصاءات أن نسب الإصابة في العرق الأسود والآسيوي أكبر من العرق الأبيض، مع تزايد احتمالية الوفاة من مضاعفات الإصابة بكوفيد 19 للعرق الآسيوي
مشروع Genomic project (وهي شركة أسستها وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية في إنجلترا عام 2013 تهدف لجمع 100 ألف تسلسل جينوم من المرضى وعائلاتهم لدراستها بشكل أعمق ليفتح باب المستقبل نحو تقديم رعاية صحية جينية لكل من يحتاجها) درس عينات الحمض النووي لمرضى كوفيد 19 في أكثر من 200 وحدة عناية مشددة في المملكة المتحدة، حيث تم مقارنة هذه العينات بعينات الأشخاص الأصحاء، وتم التوصل إلى وجود اختلافات جينية ارتبطت بالأشخاص الذين عانوا من مضاعفات كوفيد 19 الخطيرة.
لوحظ وجود اختلاف في الجين المسمى TYK2 الذي يسبب اختلالًا في جهاز المناعة يظهر بشكل خلايا مناعية مفرطة النشاط angry cell ما يجعل استجابتها المناعية ذات مفعول مدمر للرئة.
الاختلاف الجيني الآخر تمت ملاحظته في الجين IFNAR2 والجين DPP9 اللذين يُعتقد أنهما السبب في نقص مادة الإنترفيرون في أجسام المرضى الذين تعرضوا لمضاعفات كوفيد 19 (الإنترفيرون مادة يفرزها الجهاز المناعي في جسم الإنسان كاستجابة لدخول العدوى الفيروسية الجسم)، كما كان هناك اختلاف في الجين OAS المسؤول عن تثبيط قدرة الفيروس على استنساخ نفسه.
الكروموسوم 3
في دراسة أخرى نُشرت بمجلة الطبيعة أجريت على أكثر من 3000 مريض مصاب بكوفيد 19 أظهرت ارتباط الفشل الرئوي في مرضى كوفيد 19 بمجموعة جينية متكونة من 6 جينات على الكروموسوم 3.
كوفيد 19 وعلاقته بفصيلة الدم
وجد الباحثون ارتباطًا واضحًا بين شدة المرض والكروموسوم رقم 9، الذي يحمل مجموعة جينات مسؤولة عن تحديد مجموعات الدم ABO، التي أظهرت الدراسات تأثيرها على شدة الأعراض لدى المرضى المصابين بفيروس كورونا، بمعنى أن الأشخاص الذين يحملون زمرة الدم A يكونون أكثر عرضة للإصابة بالمضاعفات والفشل الرئوي، بينما تفيد الأبحاث أن ارتباط زمرة الدم O ارتباط وقائي مقارنة ببقية زمر الدم.
لا يزال الباحثون والعلماء إلى يومنا هذا يحاولون فك لغز هذا السلوك الانتقائي الغريب لفيروس كورونا على أمل أن يستطيع علم الوراثة الوقوف بوجه هذه الجائحة
كوفيد 19 والجندر
أظهرت دراسة أجريت على مرضى كوفيد 19 في فرنسا أن 73% من مرضى كوفيد 19 الراقدين في العناية المشددة من الرجال، ويعزى هذا الارتفاع في إصابة الذكور دون الإناث إلى العامل الجيني، حيث هناك الجين TLR7 الذي يعمل ككاشف لنشاط الفيروس في الجسم، هذا الجين يوجد على الكروموسوم X، وبما أن الإناث يمتلكن زوجًا من كروموسوم X فبالتالي يمتلكن عددًا مضاعفًا من الجين TLR7 ما يجعل كفاءة الجهاز المناعي للإناث في التصدي لفيروس كورونا أفضل منه في الذكور.
كوفيد 19 والخلفية العرقية
تظهر الإحصاءات أن نسب الإصابة في العرق الأسود والآسيوي أكبر من العرق الأبيض، مع تزايد احتمالية الوفاة من مضاعفات الإصابة بكوفيد 19 للعرق الآسيوي، وهنا يكمن التساؤل المطروح: هل الظروف المعيشية (من ناحية البيئة المزدحمة والوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض) هي السبب في تزايد الإصابة في هذه الأعراق أم أن هناك أعراقًا أكثر عرضة للإصابة من غيرها؟
حاولت إحدى الدراسات الإجابة عن هذا التساؤل بإجراء تحليل بعدي موسع توصل إلى أن المرضى من العرق الأسود الآسيوي والإسباني أكثر عرضة للإصابة بكوفيد 19.
هذا الاستنتاج توصلت إليه أيضًا دراسة موسعة أخرى أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذه الدراسة أضافت أن المرضى المنحدرين من عرق إسباني يعانون من المضاعفات الخطيرة للإصابة مقارنة بغيرهم (بعد التأكد أن هذه المضاعفات لا تعزى إلى أسباب أخرى كالظروف الاجتماعية والاقتصادية والمعاشية أو الأمراض المزمنة).
ولا يزال الباحثون والعلماء إلى يومنا هذا يحاولون فك لغز هذا السلوك الانتقائي الغريب لفيروس كورونا على أمل أن يستطيع علم الوراثة الوقوف بوجه هذه الجائحة.