في نوفمبر 2017 شنً ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حملة مكبرة أطاح فيها بالعشرات من الرموز السياسية والاقتصادية للمملكة، حين اعتقلهم داخل فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، كانت المبررات حينها “محاربة الفساد”، في واحدة من أكبر حملات التطهير منذ بداية حكم آل سعود.
الأسماء التي تضمنتها تلك الحملة، وبعضها أمراء وأفراد داخل الأسرة الحاكمة، كانت مثار جدل لدى الجميع، لكنها كانت “العين الحمراء” التي أظهرها الأمير الشاب الطامع في خلافة والده على عرش المملكة، لكافة الأصوات المعارضة التي تعرقل طريقه نحو تحقيق حلم الولاية.
العديد من الانتقادات وجهت لتلك الحملة في هذا التوقيت، ونتيجة لضغوط داخلية وخارجية تم الإفراج عن المعتقلين، لكن بعد تسويات عدة معهم أسفرت عن تنازلهم عن 107 مليار دولار لصالح المملكة، بالإضافة إلى استرجاع أصول وعقارات وأسهم بمليارات غيرها.
اليوم يتكرر المشهد وإن كان بصورة أخف وطأة مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، حملة اعتقالات جديدة تحت مسمى “ميني ريتز” بنفس المبررات السابقة “مكافحة الفساد” استهدفت مسئولين عسكريين وموظفين عموميين ورجال أعمال، وأسفرت عن مصادرة مبالغ نقدية كبيرة، بعضها كان في مخابئ تحت الأرض وأخرى داخل مساجد، بجانب “حالات تلبس” لوقائع رشوة، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.
وعلى رأس الأسماء التي تم توقيفها في هذه الحملة، رئيس هيئة الترفيه، المستشار تركي آل الشيخ، الذراع اليمنى لولي العهد، مع ضباط وموظفين آخرين بوزارة الدفاع، ممن ثبت تورطهم في تعاملات مالية مشبوهة أكسبتهم أكثر من 1.2 مليار ريال، حيث تم إيقافهم عن العمل وتحويلهم للتحقيق.
موجة الاعتقالات الجديدة أثارت مخاوف الشارع السعودي، كما تسببت في إحداث حالة من القلق لدى العديد من رجال الأعمال والشخصيات العامة، إذ لا تزال أصداء “الريتز كارلتون” تخيم على الأجواء، ولا تزال صور أمراء المملكة وكبار رجال الأعمال وهم يفترشون الأرض داخل الفندق تقلق مضاجع الكثيرين ممن فقدوا شعور الأمن داخل وطنهم في ظل السياسات الحالية للأمير الشاب.
حزمة من التساؤلات باتت تفرض نفسها مع الحملة الجديدة التي استقت اسمها من حملة 2017 تتعلق بالدوافع الحقيقية من وراء شنها في هذا التوقيت التي تواجه فيه المملكة أزمات اقتصادية كبيرة، فهل تهدف فعلًا إلى محاربة الفساد كما يتم الترويج لها أم هي خطوة جديدة لتعزيز قبضة بن سلمان وإنعاش خزائن السعودية بعد العجز الذي تواجهه منذ سنوات بسبب سياسات الداخل والخارج؟
مكافحة الفساد
يمثل الفساد أحد أبرز الأمراض التي تنخر في عظم المجتمع السعودي على مدار عقود طويلة مضت، والذي كلف المملكة مئات المليارات من الخسائر عامًا تلو الأخر، الأمر الذي أودى بالمملكة إلى المركز الـ62 على مستوى العالم، في مؤشر مدركات الفساد لعام 2016 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
السنوات الأخيرة شهدت جهودَا ملموسة في هذا الإطار، ففي العام الحالي فقط تباشر هيئة الرقابة ومكافحة الفساد السعودية ما يقرب من 158 قضية جنائية، متهم فيها مئات المواطنين والمقيمين، بعضهم شخصيات عامة، إحدى تلك القضايا تعمل الهيئة فيها على استرداد نحو 328 مليون دولار (1.229 مليار ريال).
البعض يرى أن الحملات التي يقودها ولي العهد تهدف في المقام الأول إلى مكافحة الفساد والقضاء على جذوره التي تمددت بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وأن الحملة التي بدأت منذ 2017 وتستمر حتى اليوم نجحت في إعادة عشرات المليارات لخزائن المملكة.
جميع قضايا الفساد التي تباشرها الهيئة خلال الأعوام القليلة الماضية وصلت 3700 قضية
وزير التجارة السعودي، وزير والإعلام المكلف، ماجد القصبي، يعتبر أن مخطط مكافحة الفساد يندرج تحت رؤية “2030” وأن المملكة أعادت هيكلة جهاز مكافحة الفساد من جديد، كما أدمجت هيئة الرقابة معه تحت مسمى واحد، لافتًا إلى أن جميع قضايا الفساد التي تباشرها الهيئة خلال الأعوام القليلة الماضية وصلت 3700 قضية.
أنصار هذا الفريق يعززون رأيهم بنجاح المملكة في المضي قدمًا في هذا المسار بتقدمها في مؤشر الفساد العالمي خلال العام الماضي 2019، حيث قفزت من المرتبة 62 من بين 180 دولة حول العالم قبل 4 سنوات إلى المركز 51 هذا العام.
وكان ولي العهد في تصريحات له في 12 نوفمبر الماضي قال فيها إن “الفساد انتشر في المملكة خلال العقود الماضية مثل السرطان”، مضيفًا أنه “يستهلك 5% إلى 15% من ميزانية الدولة” لافتًا إلى أن “نتائج حملة مكافحة الفساد كانت واضحة للجميع، حيث بلغ مجموع متحصلات تسويات مكافحة الفساد 247 مليار ريال في الثلاث سنوات الماضية تمثل 20% من إجمالي الإيرادات غير النفطية”.
تقليص عجز المملكة
تواجه السعودية خلال السنوات الخمس الأخيرة عجزًا مستمرًا في ميزانيتها العامة، يتفاقم عامًا تلو الأخر، وفي تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني كشف أن خسائر المملكة منذ 2016 وحتى اليوم تجاوز الـ250 مليار دولار، الأمر الذي أفقد الاقتصاد السعودي بريقه العالمي.
التقرير أشار إلى أن المملكة كانت تمتلك عام 2016 احتياطي نقدي أجنبي يبلغ نحو 700 مليار دولار، غير أنه تراجع هذا العام ليصل إلى 448.6 مليار دولار، فيما فقد خلال الفترة من مارس/آذار وأبريل/نيسان نحو 48.6 مليار دولار، وهو التراجع الأكبر في تاريخ الاحتياطي الأجنبي السعودي.
تراجع أسعار النفط العالمية وانهيار سوق الطاقة بجانب تراجع العرض على المادة الخام في ظل تفشي وباء فيروس كورونا المستجد وتداعياته على الاقتصاديات العالمية بصفة عامة، عمقت من وقع الأزمة التي يحياها الاقتصاد السعودي، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على الحياة المعيشية للمواطنين وخطط المملكة التنموية.
المساومات التي أجرتها المملكة مع معتقلي الريتز السابقين وما يثار بشأن ضحايا الحملة الراهنة تشير – بحسب خبراء – إلى أن أحد أبرز الأهداف الأساسية من وراء تلك التوجهات هو الحصول على أكبر قدر من المال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظل ما تتكبده السعودية من خسائر
وعلى هذا الأساس توقعت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، ارتفاع عجز الميزانية السعودية من الناتج المحلي الإجمالي إلى 12%، بقيمة 80 مليار دولار، خلال العام الجاري، لافتة في تقرير لها أن هبوط أسعار النفط وتبعات تفشي كورونا سيقودون ارتفاع جديد في الموازنة قدره 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام مقارنة بالعام الماضي.
وبصرف النظر عن الأسباب السياسية وراء هذا العجز المتفاقم عامًا تلو الأخر في ظل شطحات بن سلمان والكلفة باهظة الثمن لبقاءه في منصبه، إلا أن الوضع يزداد سوءًا شيئًا فشيئًا، الأمر الذي دفع السلطات هناك إلى البحث عن وسائل لإنعاش الخزائن الفارغة، ولم يجد ولي العهد أفضل من جيوب رجال الأعمال وأثرياء بلاده لتعويض هذا العجز.
المساومات التي أجرتها المملكة مع معتقلي الريتز السابقين وما يثار بشأن ضحايا الحملة الراهنة تشير – بحسب خبراء – إلى أن أحد أبرز الأهداف الأساسية من وراء تلك التوجهات هو الحصول على أكبر قدر من المال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظل ما تتكبده السعودية من خسائر، في الداخل والخارج، ورغم خطورة هذا الاتجاه على مستقبل الاستثمار في السعودية إلا أن ذلك – طبقا للشواهد الحالية- لم يكن في حسبان القائمين على أمور الحكم.
تعزيز قبضة بن سلمان
أثارت الحملة مخاوف قطاع كبير من السعوديين ممن يرون أن كل ما يُتخذ من قرارات في هذا الشأن الهدف الرئيسي منها هو التخلص من أي تهديد محتمل قد يواجهه بن سلمان نحو طريقه للعرش، لاسيما بعد زيادة معدلات الاحتقان بسبب سياساته التي ألقت بظلالها القاتمة على الحياة المعيشية للمواطن السعودي.
البعض يربط بين حملة “ريتز كارلتون” 2017 و “ميني ريتز” 2020، فالأولى كان الهدف منها إقصاء كافة المعارضين لولي العهد ممن يحملوا تهديدًا حقيقيًا له، وعلى رأسهم الأمير متعب بن عبد الله وزير الحرس الوطني، نجل العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، والملياردير المعروف، الوليد بن طلال، والأمير فهد بن عبد الله بن محمد، نائب قائد القوات الجوية الأسبق، ثم بعد ذلك ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، الذي أرغم على الإقامة الجبرية فيما تحذر تقارير من مؤامرة على حياته.
أما الحملة الراهنة فتحاول ترسيخ ما أرسته الأولى من أنه لا أحد فوق الانتقام أو التنكيل حال فكر في التغريد خارج السرب، وأنه مهما زادت حدة الاحتقان فإن الاعتقال والتعذيب وربما إنهاء الحياة بالكلية هو مصير كل من يتعاطى مع الغضب الشعبي مهما كانت المبررات.
وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في مارس الماضي، أعربت عن قلقها من اعتقال السلطات السعودية لنحو 300 مسؤول حكومي بادعاءات تتعلق بالفساد المالي والإداري، داعية داعية إلى ضمان عدم تعرضهم “لإجراءات قانونية ظالمة”، مع الوضع في الاعتبار عشرات المعتقلين الأخرين من علماء دين وأكاديميين ومفكرين ونشطاء حقوق إنسان نسويات، القابعين في سجون المملكة بدون محاكمات عادلة، إضافة إلى استهداف المعارضين في الخارج وهي السياسة التي اعتمدها بن سلمان خلال السنوات الماضية.
وما بين موجة تطهير جديدة للتخلص مما تبقى من الأصوات المعارضة وغطاء لتعزيز خزائن المملكة من جانب ومكافحة الفساد المستشري في المجتمع السعودي من جانب آخر، تبقى حملة “ميني ريتز”مثار تساؤلات عدة لدى الشارع، ولغز جديد يضاف إلى السجل الجدلي لولي العهد.