يواصل تنظيم الدولة “داعش”، تنفيذ عمليات عسكرية متفرقة ضد قوات النظام وقوات روسية وميليشيات إيرانية في البادية السورية، منذ أكثر من عام، لكنها تصاعدت خلال الأسابيع القليلة الماضية، مما يشير إلى أن التنظيم استعاد نشاطه مجددًا في المنطقة التي فرَّ إليها معظم المقاتلين في صفوفه أثناء معارك ميليشيا “قسد” مدعومة من التحالف الدولي، في محافظات الرقة ودير الزور شمال وشرق سوريا.
ويبدو أن التنظيم بدأ في استعادة نفوذه لإحكام السيطرة مجددًا والتوسع لاحقًا، إذ ستشكل البادية بؤرة عودة خلافته، ولا سيما أنه وجد ملاذًا آمنًا ومهمًا يوفر له السلاح والذخائر، لامتلاك البادية طريقان مهمان أولهما يصل بين دمشق ودير الزور، والثاني يصل بين العاصمة دمشق والرقة مرورًا بمحافظتي حمص وحماة.
هجمات عسكرية.. متفرقة
كثف تنظيم “داعش” هجماته مؤخرًا في مناطق متفرقة من البلاد، وهي فعليًا تحيط بالمحافظات التي تتكون منها البادية السورية التي يتخذ منها التنظيم مركزًا رئيسيًا لقواته، حيث شملت العمليات بادية الميادين في دير الزور والرصافة في الرقة وأثرية في ريف حماة الشرقي، وكذلك الطريق الواصل بين دير الزور ودمشق مرورًا بتدمر وبلدة السخنة، التي تتعرض لهجمات متكررة من قبل التنظيم، كونها تحتوي على طريق حيوي لقوات النظام وميليشيا إيران.
في حين كرر التنظيم هجماته على منطقة الرصافة، باعتبارها عقدة الطرق الهامة التي تصل بين البادية وريف الرقة الجنوبي، وكذلك عقدة تقاطع أثرية التي تربط طرق البادية الفرعية بمنطقة السلمية شرقي حماة ومحافظة حلب شمالًا.
وتتواصل المعارك بين خلايا تنظيم “داعش” من جهة وقوات النظام السوري وميليشيات محلية موالية له، من جهة أخرى في مواقع متفرقة من البادية السورية، حيث قتل عنصران من ميليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام السوري، الإثنين 14 ديسمبر/كانون الأول، في كمين نفذه عناصر تنظيم “داعش”، في بادية المسرب بريف دير الزور الشمالي. كما وقع قتيلين آخرين، وأصيب العشرات من عناصر قوات النظام جراء اشتباكات مع خلايا تنظيم “داعش” في القرى الشمالية الشرقية لناحية السعن شرقي حمص، بينما قتل أكثر من 15 مقاتل من عناصر تنظيم “داعش” خلال اليومين الماضيين.
وعلى نحو مماثل شهدت منطقة جبل البشري الواقعة في المثلث الذي يضم أجزاءً من محافظات حلب وحماة والرقة، ويشكل جزءًا من البادية السورية، مواجهات مستمرة بين تنظيم “داعش” وقوات النظام، حيث تحاول الأخيرة الحد من نشاط تنظيم “داعش” في المنطقة بسبب تكرار هجماته خلال الأسابيع القليلة الماضية. من جانبها الطائرات الروسية نفذت غارات جوية في مناطق متفرقة من البادية السورية استهدفت فيها أوكار عناصر التنظيم.
قوات النظام السوري تتعرض من حين إلى آخر لهجمات دموية تشنها خلايا داعش
ويرى النقيب عبد السلام عبد الرزاق خلال حديثه لـ “نون بوست”: أن النظام غير قادر على مواجهة تنظيم “داعش” في البادية السورية، ولا سيما أن التنظيم انتقل منذ سنوات إلى البادية، وهو يتمتع بقدرة قتالية جيدة واستطاع تحضير نفسه عسكريًا بشكل جيد، ويعتمد على المباغتة. وقد تقف العديد من العوائق أمام تقدم النظام في القضاء على التنظيم، أبرزها اعتماد التنظيم على مجموعات صغيرة يستقلون دراجات نارية، بالإضافة إلى عدم معرفة عناصر النظام جغرافية المنطقة.
ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان حصيلة الخسائر البشرية لقوات النظام والميليشيات المساندة له في البادية السورية، من الفترة الممتدة من مارس ـ آذار 2019 حتى 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، كاشفًا عن مقتل 1068 عنصر من قوات النظام والمسلحين الموالين له، بينهم اثنين من القوات الروسية، و144 من الميليشيات الإيرانية، من جنسيات سورية وغير سورية، حيث قتلوا جميعًا خلال هجمات وتفجيرات وكمائن نفذها مقاتلو التنظيم في البادية. كما وثق المرصد مقتل 600 مقاتل من تنظيم “داعش” خلال الفترة ذاتها، نتيجة القصف الجوي والهجمات التي تنفذها قوات النظام، والميليشيات الموالية لها، في حين قتل أكثر 15 مدني من رعاة الأغنام، والعاملين في حقول الغاز.
أهمية البادية السورية
تعتبر البادية السورية من المناطق المهمة جدًا والسيطرة عليها هو بمثابة التحكم بالمحافظات المحيطة بها، لأنها تقع على عقدة طرق تربط المحافظات الشرقية من سوريا بالعاصمة دمشق، بالإضافة إلى كونها تتوزع إداريًا على عدة محافظات، من دير الزور والرقة شمالًا حتى السويداء جنوبًا، ومن الحدود العراقية شرقًا حتى حمص وحماة ودمشق غربًا، أي أنها تضم رقعة جغرافية تعادل نحو نصف مساحة سوريا. كما تعتبر البادية السورية من المناطق الغنية بالنفط والغاز والفوسفات، إلى جانب وجود مدينة تدمر الأثرية فيها.
لماذا يخشى النظام خسارة البادية السورية؟
شكلت تحركات تنظيم “داعش” في البادية السورية خطرًا متجددًا أمام قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، التي تتنقل بين العاصمة دمشق ودير الزور وكذلك دمشق وحماة والرقة، إذ خسرت قوات النظام عددًا ضخمًا من مقاتليها أثناء تنقلهم على طريق (دمشق – دير الزور) المار في بلدة السخنة بريف تدمر الشرقي، التي لطالما سعى التنظيم للسيطرة عليها إلا أن القصف الروسي والحشود العسكرية التي اتخذتها قوات النظام وقفت دون ذلك، مما دفع التنظيم إلى شن هجمات على الطريق في المناطق الخالية من التجمعات السكنية محاولًا قطعه أمام قوات النظام عدة مرات.
ويشكل هذا الطريق أهمية اقتصادية إلى جانب أهميته العسكرية للنظام من خلال نقل البضائع الإيرانية من العراق إلى سوريا ومن ثم إلى لبنان، وخاصةً مع الأزمة الاقتصادية التي تمر فيها سوريا، وإن سيطرة التنظيم على المنطقة سيخسر النظام مردودًا اقتصاديًا إلى جانب كونه صلة الوصل مع قواته المتواجدة جنوبي نهر الفرات.
النقيب عبد السلام عبد الرزاق في الجيش السوري الحر، قال لـ “نون بوست”: إن البادية السورية تتمتع بأهمية كبيرة لدى قوات النظام السوري، فمنها يمر الطريق الاستراتيجي الذي يزودها بالنفط والغاز القادم من مناطق سيطرة قسد عبر طرق التهريب أو باتفاق عبر ميليشيا القاطرجي، كما تتمتع البادية بوقوعها وسط طريق (طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت)، وهو عصب ما يُعرف بالهلال الشيعي، وخسارتها يهدد مشروع إيران في المنطقة”.
تكتيك حرب العصابات الذي اتبعه مقاتلو التنظيم في البادية، يسمح له في الاستمرار لفترة أطول
وتخشى قوات النظام السوري خسارتها لطريق (السلمية – الرصافة)، الواصل بين محافظتي حماة وحمص من جهة ومحافظة الرقة الواقعة تحت سيطرة “قسد”، والتي تصدر القمح والمحروقات عبر ميليشيا القاطرجي لحكومة النظام السوري، عبر هذا الطريق ذاته الذي يشكل لحكومة دمشق موردًا اقتصاديًا مهمًا مصدره ميليشيا “قسد”. وتعرض الطريق لهجمات عدة نفذها تنظيم “داعش”، واحتجز خلالها صهاريج من المحروقات والبضائع المحملة التي تُنقل إلى دمشق.
كما يشكل (طريق السلمية – الرصافة) أهمية مماثلة كونه الطريق الوحيد الذي يربط بين العاصمة دمشق والرقة أو بين مناطق سيطرة النظام و”قسد”، والذي يتم عبره تنقل المدنيين الذين يتعرضون لمخاطر عديدة أبرزها الخطف والآتاوات التي يقوم بها مسلحين موالين لقوات النظام.
البادية السورية.. بؤرة التنظيم لتكوين نفسه
ساهمت البادية السورية، في خلق ظروف جغرافية جيدة لتنظيم “داعش” لإعادة تكوين نفسه مجددًا، حيث يتخذ التنظيم من الكهوف والأودية شرق تدمر وخنيفيس ومناطق الشولة وجبل البشري إلى الحدود العراقية السورية، أوكارًا لعناصره، ولا سيما أن معرفة أفراد التنظيم لجغرافية المنطقة بُنيت على مدار سنوات.
الصحفي فراس علاوي، خلال حديثه لـ “نون بوست” قال: إن “جغرافية البادية وامتدادها الواسع، ووجود كهف ومغاور، ووديان، ساعد التنظيم على التحرك في البادية بسلاسة، كما أن ارتباط البادية بالحدود السورية العراقية، والسورية الأردنية، والذي يساهم في مد التنظيم بالمؤن والذخائر، وكذلك عدم مقدرة القوات الروسية والميليشيات الإيرانية وقوات النظام على التوغل داخل البادية تسبب في اتاحة الفرصة مجددًا لظهور تنظيم “داعش””.
تكتيك حرب العصابات الذي اتبعه مقاتلو التنظيم في البادية، يسمح له في الاستمرار لفترة أطول، لأن المجموعات الصغيرة لا يؤثر بها قصف الطيران، مع سرعة في التنقل
أكد فراس علاوي أن “تنظيم داعش، انتقل من حرب الجيوش إلى حرب العصابات في محاولة منه للاستمرار أطول فترة ممكنة”. حيث تقوم مجموعات من مقاتلي التنظيم يستقلون دراجات نارية، ويستخدمون الأسلحة الخفيفة، في تنفيذ كمائن، وغارات على أرتال لقوات النظام، ويقطعون الطرق التي تستخدمها قوات الأسد وحلفائه، ويقومون بنصب كمائن لها كزرع الألغام، مما يؤدي إلى خسارات بشرية كبيرة.
وأضاف أن “تكتيك حرب العصابات الذي اتبعه مقاتلو التنظيم في البادية، يسمح له في الاستمرار لفترة أطول، لأن المجموعات الصغيرة لا يؤثر بها قصف الطيران، مع سرعة في التنقل، كما أن قدرته على الانتقال بين الأراضي السورية والعراقية، بسهولة تساهم في توسع نفوذه، وإيجاد موطئ قدم له ويكون له دور فاعل بها، ويعتبِرُ التنظيم نفسه يمر في مرحلة جمود ولكن هذه المرحلة قد تنفجر في أي لحظة”.
وربما إذا حانت الفرصة للتنظيم للسيطرة والتوسع فإنه سيقوم بذلك، وهذا ما جرى في العراق حيث بقي التنظيم في البادية من 2003 حتى 2011 حيث بدأ نشاطه مجددًا ولاحقًا في 2013 بدأ في السيطرة. ولدى تنظيم “داعش” مستودعات ذخائر قام بتجهيزها عندما وجد نفسه غير قادر على الحفاظ على مواقع نفوذه في المدن بعد تشكيل التحالف الدولي، لذلك حاول الاستعانة بالبادية وحفر الخنادق والمغارات، والتي قد تكون بؤرة انبعاثه الجديد، لا قدر الله.