ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما تكون مدافعا سوريًا عن حقوق الإنسان فسوف تعتاد على خيبات الأمل، ولكن ما قرأته ذات صباح يوم بارد من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي كان مفزعًا بشكل لا يصدّق. فقد صادفت تحقيقا استثنائيا أجرته صحيفة “كوريير” النمساوية كشف أن الحكومة النمساوية، بمساعدة الموساد الإسرائيلي، قد أمنت حماية ضابط سوري مطلوب للعدالة من قبل السلطات الفرنسية بسبب اتهامات موجهة له بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
في إطار “عملية الحليب الأبيض“، وهي عملية نمساوية إسرائيلية مشتركة، لجأ خالد حلبي إلى النمسا التي منحته هوية جديدة واسما جديدا (ألكسندر). كان حلبي رئيس فرع أمن الدولة في محافظة الرقة فرع 335. وتعدّ إدارة المخابرات العامة بمثابة ركيزة من الركائز الأساسية الأربعة للنظام السوري القمعي الذي عذّب وخطف وقتل أكثر من مليون سوري منذ شهر آذار/ مارس 2011، بينهم نساء وأطفال. وهي الإدارة ذاتها التي عمل بها العقيد أنور رسلان.
يُذكر أن محاكمة رسلان تجري حاليا في كوبلنتس بألمانيا بتهمة تعذيب أربعة آلاف شخص فضلا عن ارتكاب جرائم قتل واعتداء جنسي. كان حلبي أعلى رتبة من رسلان وكان لديه معرفة شاملة بشبكة التعذيب التابعة لنظام الأسد كما كان متورطا فيها.
في الواقع، منحت المحاكمة التي أُجريت في كوبلنتس الكثير من السوريين قدرا من الأمل والتفاؤل – ولكن يبدو الآن أن السلطات النمساوية تحاول بنشاط التصدي لهذه الجهود الدولية وتسعى لتقويض الحرب العالمية ضد الإفلات من العقاب والفظائع الجماعية، إلى جانب حمايتها الغريبة والمثيرة للقلق لخالد الحلبي.
في سنة 2018، تحدثت مع ضحايا حلبي الذين وصفوا بدقة وألم تفاصيل اعتقالهم وتعذيبهم. وقد تواصلوا مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان لدعم شكوى قُدّمت في النمسا ضد 24 من كبار المسؤولين في نظام الأسد بمن فيهم الحلبي. قُدّمت الشكوى من قبل المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان والمحاميين السوريين أنور البني (المركز السوري للدراسات والبحوث القانونية) ومازن درويش (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير) فضلا عن مركز إنفاذ حقوق الإنسان الدولي في فيينا.
يُذكر أن الشكوى قُدّمت نيابة عن مجموعة من الناجين من التعذيب من بينهم مواطن نمساوي والعديد من الأشخاص الذين احتُجزوا وهم قُصّر، وعاشوا في النمسا وألمانيا لبعض الوقت.
تعتبر حماية الحلبي وهروبه من العدالة فضيحة بأتم معنى الكلمة، كما تسلط قضيته الضوء على انتهاك النمسا الصارخ لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية مناهضة التعذيب، التي وقّعت عليها. وتدرك السلطات النمساوية جيدا أن الدول الأعضاء مطالبة بمحاكمة أو تسليم مرتكبي جرائم التعذيب المزعومين عند العثور عليهم في أي إقليم خاضع لولايتها القضائية. كما تُلزم المادة 14 من الاتفاقية الدول الأعضاء بإنصاف جميع ضحايا التعذيب وسوء المعاملة وتقديم التعويض لهم.
علاوة على ذلك، تظهر هذه الفضيحة انتهاك النمسا لحق مواطنيها الدستوري في العدالة، نظرا لأن أحد المدعين في القضية المرفوعة ضد الحلبي ومسؤولين آخرين هو مواطن نمساوي.
إلى جانب المسؤوليات القانونية وانتهاكات القوانين، تثير “عملية الحليب الأبيض” الخوف وانعدام الثقة في صفوف اللاجئين السوريين في النمسا، ونشطاء حقوق الإنسان والمحامين السوريين الذين يعملون من أجل تحقيق العدالة والمساءلة في أوروبا.
مازن درويش: كنا نتوقع أن تكون النمسا شريكًا قانونيًا وأخلاقيًا في ملاحقة المجرمين، إلا أننا فوجئنا بأن الاعتبارات السياسية والأمنية تجعل النمسا حاميا لمجرمي الحرب
كان الانطباع العام لدى العديد من السوريين الذين تحدثت إليهم هو أن النمسا ترتكب انتهاكات ضد حقوق ضحايا التعذيب وتحمي مجرمي الحرب الذين عذبوهم وتسببوا في تركهم لبلادهم؛ حيث يرون أن النمسا تتجاهل بكل جرأة الشكوى المتعلقة بجرائم الحرب، بل ويبدو أنها أصبحت ملاذًا آمنًا لهؤلاء المجرمين. وقد صُعق المدافعون عن حقوق الإنسان السوريين الذين تحدثت إليهم والذين يعملون ليلا نهارا للمساعدة في تحقيق العدالة عقب سماع هذه الفضيحة النمساوية – الإسرائيلية الغامضة.
أصدر المركز السوري للعدالة والمساءلة بقيادة المحامي السوري لحقوق الإنسان محمد العبد الله بيانا انتقد فيه عملية “الحليب الأبيض”. ومن جهتها، قالت جمانة سيف، وهي محامية سورية في مجال حقوق الإنسان وزميلة باحثة في برنامج التقاضي والمساءلة الدولي في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، إن:
“مثل هذه الأخبار محزنة ومؤسفة. كنت أتساءل لماذا ترفض النمسا التعاون مع الشكوى. لا نعلم إلى ماذا توصلت التحقيقات ولم نر شيئًا. يجب أن تكون النمسا، كدولة بواجبات دولية، أكثر جدية وحرصًا على سمعتها العالمية والتزامها بالقيم الإنسانية التي تدعو إليها، إلا أنها تجرد السوريين الآن من الأداة الوحيدة المتاحة لديهم: العدالة الدولية”.
بالمثل، شاركني محامي حقوق الإنسان مازن درويش خيبة أمله من موقف النمسا وتقاعسها، قائلا: “كنا نتوقع أن تكون النمسا شريكًا قانونيًا وأخلاقيًا في ملاحقة المجرمين، إلا أننا فوجئنا بأن الاعتبارات السياسية والأمنية تجعل النمسا حاميا لمجرمي الحرب”.
السوريين الذين يكافحون ضد الإفلات من العقاب ويمهّدون الطريق إلى عملية عدالة شاملة للسوريين، غاضبون ومحبطون من تصدي النمسا لجهودهم
كما أعرب محامي حقوق الإنسان السوري البارز أنور البني عن خيبة أمله من تصرفات النمسا أيضا، حيث قال: “يبدو أن هناك تباطؤًا مشبوهًا ومتعمدًا تجاه الشكوى. تتقاعس النمسا عن الامتثال لقوانين حقوق الإنسان الدولية، وتلعب دورا متواطئا مع النظام السوري في التستر على جرائمه. نحن نلاحق خالد الحلبي منذ عامين، ولكن النمسا لم تمتثل لأوامر التحقيق الصادرة عن فرنسا ودولة أوروبية أخرى، مما أدى إلى هروبه من قبضتنا”.
عبّر رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني عن استيائه: “يجب على منظمات حقوق الإنسان والعدالة الدولية والأوروبية اتخاذ إجراءات للكشف عن ممارسات النمسا. من المفترض أن تكون دولة مثل النمسا مثالاً يحتذى به في الامتثال للقانون الدولي، وعدم امتثالها يشجع البلدان الأخرى المعروفة بانتهاكاتها على التمادي في التجاوزات”.
إن السوريين الذين يكافحون ضد الإفلات من العقاب ويمهّدون الطريق إلى عملية عدالة شاملة للسوريين، غاضبون ومحبطون من تصدي النمسا لجهودهم. ونحن نطالب من الدول اتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة النمسا، بما في ذلك تحدي امتثالها لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، من خلال الإبلاغ عن أفعالها إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، واستجوابها في المراجعات الدورية للأمم المتحدة. هناك الكثير من الأسئلة التي ينبغي أن تجيب النمسا عليها، ولن نتوقف عن طرحها حتى نحصل على إجابات مرْضية.
في الجزء الثاني، سأقوم باستعراض تفاصيل جرائم الجنرال خالد الحلبي، بما في ذلك جرائم ما قبل الانتفاضة السورية في آذار/ مارس 2011.
المصدر: منظمة العفو الدولية