تتجه العلاقات بين باكستان والسعودية إلى مزيد التوتر والتعقيد، في ظلّ إصرار الرياض على دفع إسلام أباد لتبني رؤى وأجندات تخالف إلتزامتها تجاه شعبها وقضايا الأمة الإسلامية. توتر ظهرت تجلياته في العديد من المناسبات.
ضغط سعودي
آخر فصول التوتر بين البلدين الإسلاميين الكبيرين رفض السعودية طلب باكستان تجديد المنحة النفطية، وإصرارها على استرداد أموالها في سابقة تاريخية. وكانت الرياض قد منحت سنة 2018 إسلام آباد، قرضا قيمته 3 مليارات دولار وتسهيلات ائتمانية للنفط بقيمة 3.2 مليارات لمساعدتها في تجاوز أزمة ميزان المدفوعات.
العام الأول من المنحة انتهى في مايو/أيار الماضي، وطلبت باكستان تجديد العامين القادمين، لكن المملكة العربية السعودية لم تقبل، رغم أنها تعلم صعوبة الوضع الاقتصادي الذي تمرّ به حليفتها الإستراتيجية في جنوب آسيا.
ترى إسلام أباد أن الرياض ليست الحليف الذي يعتمد عليه، خاصة في ملف كشمير، في الوقت الذي أبدت فيه دول إسلامية استعدادها لدعم باكستان
وكالة رويترز، نقلت عن مسؤولين في إسلام آباد أن باكستان ردت مليار دولار إلى السعودية، تعد الدفعة الثانية من قرض ميسر بـ3 مليارات دولار، وقال مسؤول بوزارة المالية “أرسلنا مليار دولار إلى السعودية”، وتابع أن مليار دولار أخرى ستُرد إلى الرياض الشهر القادم.
وكان من المقرر في الأصل سداد القرض السعودي لإسلام آباد عبر دفعات في وقت لاحق من هذا العام والعام المقبل 2021، في حين كان الهدف من التسهيلات الائتمانية النفطية المؤجلة هو دعم ميزان مدفوعات خارجية لباكستان، لكن الرياض استعجلت الموعد المحدد وألحت على استرجاع أموالها.
ومن شأن رد الأموال السعودية أن يلحق أضرارًا كثيرة بالاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي الباكستاني، وبالاقتصاد ككل ويسبّب له انتكاسة، خاصة في ظلّ عجز حكومة رئيس الوزراء عمران خان في تطبيق خطط الحكومة الاقتصادية، مع تواصل انتشار جائحة كورونا.
توجه سعودي نحو الهند
في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الباكستانية السعودية توترًا كبيرًا، وجّهت الرياض بوصلتها نحو نيودلهي لتوطيد علاقتها مع “العدو” الأول لباكستان وهي الهند، في إشارة واضحة لحكام إسلام آباد.
وتشهد العلاقات بين المملكة العربية السعودية والهند نموًا سريعًا، خاصة في ظل وجود 2.7 مليون هندي يعملون ويعيشون في السعودية وحجم التجارة الثنائية التي بلغ حجمها سنة 2018، 27.5 مليار دولار، حيث تعد السعودية رابع أكبر شريك تجاري للهند.
سبق أن زار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نيودلهي في فبراير/شباط 2019، وتعهد باستثمارات كبيرة في عدة قطاعات بالهند، كما تم الإعلان عن اتفاق نفطي بين البلدين قيمته 15 مليار دولار في أغسطس/آب الماضي، أي بعد أيام فقط من إعلان الهند إلغاءها استقلال كشمير.
وتعتبر السعودية مصدر رئيس للطاقة بالنسبة للهند، حيث تستورد الهند حوالي 18% من احتياجاتها من النفط الخام من المملكة، وقد زادت واردات النفط الهندية من السعودية بنسبة كبيرة منذ فرض العقوبات الأميركية على إيران، في الوقت الذي تراجع فيه اهتمام باكستان بالنفط لاعتمادها على الغاز المسال من قطر وحقول الفحم الحجري الداخلية.
وتهدّد السعودية باستجلاب آلاف العمال من الهند بموجب رؤية 2030، وفي المقابل ربما تأمر العمال الباكستانيين بمغادرة البلاد، وذلك ضمن وسائل الضغط الممارسة على إسلام أباد حتى تعدّل من مواقفها تجاه الرياض.
قضية كشمير
تنكّر السعودية لباكستان رغم صداقتهما التاريخية وتوجهها نحو الهند يعود إلى أسباب عدّة، أهمها غضب الرياض من مواقف باكستانية سابقة تتعلق بمنظمة التعاون الإسلامي، وكانت باكستان، قد هدّدت بالخروج من منظمة التعاون الإسلامي، وكشفت في تصريحات غير مسبوقة عن أن غيابها عن قمة كوالالمبور الإسلامية في ديسمبر/كانون الأول الماضي كان بضغوط سعودية.
كما انتقد وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قرشي، موقف الرياض ومنظمة التعاون الإسلامي من قضية كشمير، مطالبًا إياهما بموقف أكثر حدّة تجاه سلوك الهند في المنطقة المتنازع عليها، وعقد اجتماع رفيع المستوى لإلقاء الضوء على الانتهاكات هندية في الإقليم.
وتدفع إسلام آباد من أجل عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، منذ قرار نيودلهي في أغسطس/آب 2019 إلغاء الحكم الذاتي في جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة الوحيدة في البلاد، ومن ثم تقسيمها إلى منطقتين تديرهما الحكومة الفدرالية، إلا أن الرياض رفضت ذلك.
توتر العلاقات السعودية الباكستانية، يكشف مرة أخرى النوايا السيئة للرياض تجاه الدول الإسلامية، فهي تعمل بمبدأ إما أن تكون معي وتعمل بأوامري أو أن تكون ضدّي
يذكر أن منظمة التعاون الإسلامي -التي تقودها السعودية- لم تعقد سوى اجتماعات على مستويات منخفضة بشأن كشمير، رغم مطالب إسلام آباد المتكررة، ذلك أن السعودية لا تريد المخاطرة بمصالحها التجارية في الهند من أجل دعم باكستان في مسألة كشمير.
ويتمتع إقليم كشمير منذ سنة 1954 بوضع خاص بموجب الدستور الهندي، الذي سمح له بسن قوانينه الخاصة، إلى جانب حماية قانون الجنسية، الذي منع الغرباء من الاستقرار في الأراضي وامتلاكها. وفي إطار الصراع على كشمير، خاضت باكستان والهند حربين من حروبهما الثلاث أعوام 1948 و1965 و1971، مما أسفر عن مقتل نحو 70 ألف شخص من الطرفين.
الخشية من عزلة إقليمية
الموقف السعودي من باكستان، نابع أيضًا من تحوّل إسلام أباد إلى المحور “المعادي” للرياض، وهو المحور القطري التركي الماليزي الإيراني، الأمر الذي اعتبرته السعودية استهدافًا مباشرًا لها، في الوقت الذي تشهده فيه مكانتها تراجعًا كبيرًا في العالمين العربي والإسلامي.
رئيس الوزراء الباكستاني عمران أحمد خان استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في فبراير/ شباط الماضي، بحفاوة كبيرة في العاصمة إسلام أباد، في زيارة توّجت بتوقيع اتفاقيات تعاون إستراتيجي بين البلدين في قطاعات كثيرة.
قبل ذلك بأيام قليلة، زار خان كوالالمبور والتقى رئيس الوزراء الماليزي حينها مهاتير محمد، وخلال الزيارة، قال خان إنه “أصبح واضحًا الآن أن قمة كوالالمبور لم تكن تهدف إلى تقسيم الأمة، والنتائج التي توصلت إليها توحد الأمة وبالطبع كنت أتمنى الحضور”، مؤكّدا رغبته في تنفيذ الأجندة التي توصلت إليها القمة.
ترى إسلام أباد أن الرياض ليست الحليف الذي يعتمد عليه، خاصة في ملف كشمير، في الوقت الذي أبدت فيه دول إسلامية استعدادها لدعم باكستان، مثل تركيا وماليزيا وإيران وقطر، وهو ما زاد من “غضب” السعودية التي تخشى العزلة من أطراف إقليمية عدّة.
ماذا عن التطبيع مع دولة الاحتلال؟
هذا التوتر في العلاقات بين البلدين، ناتج أيضًا عن رفض باكستان تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، وفق رغبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وكان رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، قد شدد في أكثر من مرة على أن بلاده مستمرة في رفضها القاطع لأي تحركات نحو إقامة علاقات مع تل أبيب.
خان قال في مقابلة تلفزيونية، إن الولايات المتحدة ودولًا صديقة أخرى تضغط على إسلام أباد، من أجل الاعتراف بكيان الاحتلال الصهيوني، رافضًا الكشف عن أسماء هذه الدول، لأن علاقة بلاده معها جيدة، ولا ترغب بإزعاجهم، في إشارة إلى السعودية.
ويرغب بن سلمان في تطبيع باكستان – ثاني أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة من حيث عدد السكان- مع كيان الاحتلال، حتى يهيئ الرأي العام الداخلي والخارجي لتطبيع سعودي قادم مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما دفع الإمارات والبحرين والسعودية والمغرب والسودان لتطبيع علاقاتهم مع الإسرائيليين.
توتر العلاقات السعودية الباكستانية، يكشف مرة أخرى مبدأ للرياض في تعاملها مع الدول الإسلامية الوازنة، فهي تعمل بمبدأ إما أن تكون معي أو أن تكون ضدّي، وفي الحالة الأخيرة ستتحمّل الضغوطات وعمليات الابتزاز التي سأمارسها ضدّك.