لم أكن واعيًا لقول أبي “العقبى لبلادنا” عندما كان يتابع أخبار هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي منذ عشر سنوات، كنت حينها منشغلًا بالإعداد لامتحانات الثانوية العامة، وعلى الرغم من اهتمامي بمتابعة الأخبار السياسية في المنطقة، إلا أنني في تلك الأوقات لم أعِ ما يعني أن تسقط لبنة من لبنات الديكتاتورية في العالم العربي، قال أبي كلمته وهو يعلم صعوبة الموقف وهول الأحداث، ولذا؛ استدرك بالقول “الله يستر العباد من اللي جاي”.
الأحداث كانت عصية الفهم على كبار السياسيين فكيف بشباب كان آخر همه التفكير بالسياسة؟، الآن وقد مضى 10 سنوات على انطلاقة ربيعنا العربي حينما أحرق محمد البوعزيزي نفسه لتندلع ثورة أبناء تونس الخضراء، ما زالت تنقصنا الكثير من الأشياء، وما زالت تعصى على أفهامنا التحليلات والتقديرات السياسية وتحيط بنا مصاعب، ولكننا وهنا أقصد أبناء الربيع العربي، الذين نشأوا فيه ما زال الإيمان راسخًا بأن ما قمنا به سيزهر يومًا، وصدق من قال “تجرأنا على الحلم ولم نندم على الكرامة”.
قد يبدو كلامًا إنشائيًا، ولكن من خاض الثورات وعمل بها ولأجل أهدافها بالحرية والعدالة والمساواة، وفقد أصدقائه على طريق الحرية ورآهم يتساقطون من أجل أهداف الربيع الحقة، لا يمكن له إلا أن يكون مؤمنًا بما فعل وموقنًا به، إلا أن الجرأة في إجرام الطغاة كان أكبر من أحلامنا وحاولوا جعلنا نادمين على ما قمنا به، وبدأت أصوات الثورات المضادة بالترويج لفكرة أن البلاد كانت مستقرة وهؤلاء الشباب هم من خربوا أمنها باحتجاجاتهم، لا الأجهزة الأمنية الوحشية والجيوش الخائنة التي قصفت الناس وقتّلتهم.
أنا تمام أبو الخير، من مدينة داريا السورية في محافظة ريف دمشق، وفي هذه التدوينة أحب أن أحكي عن مشاعري منذ أن طرقت أولى هتافات الحرية مسامعي حين كنت شابًا يافعًا (19 عامًا في 2011).
اليوم ننجيك ببدنك
كانت ثورة تونس خاطفة وسريعة، لم يتشكل لدينا وعيٌ بما حصل، لكن الثورة المصرية وما حملته إلينا كان أعظم، فهذه مصر أم الدنيا والثورة فيها كانت المحطة الثانية والأهم من محطات القطار، أذكر جيدًا الأجواء الشتوية ونحن نجلس في منزلنا حول المدفأة نتابع قناة الجزيرة أولًا بأول لنعرف الأحداث، هنا فعليًا بدأت تتكون لدي حالة من الوعي بمعنى الثورة، بمعناها الفضفاض والعام، صرت أتابع انتفاضة أهل مصر باهتمام بالغ حتى أني نسيت دراستي.
كان منظر ميدان التحرير مبهجًا والهتافات الخارجة منه تطرب الأذن، كانت غريبة جدًا على مسامعنا فما اعتدنا أن نسمع كلمة “ارحل” تُقال لفرعون مصر محمد حسني مبارك، ومن كان يخطر على باله أن نسمع الهتاف الخالد “الشعب يريد إسقاط النظام”؟. طبعًا في تلك الأيام كان من يتابع ثورة مصر يتابعها متخفيًا، ففي سوريا لم نكُ نملك تلك الرفاهية في اختيار ما نريد أن نتابعه على التلفاز، حتى أن القنوات الرسمية لنظام بشار الأسد كانت تمر على أخبار مصر مرور الكرام، كنت أواجه صعوبةً باغة حينها بمتابعة القنوات التي كانت تنقل الأحداث المصرية فقد عمل نظام مبارك على التشويش عليها ومحاولة منع بثها.
صرت ألاحق الترددات البديلة التي تطرحها القنوات كل ساعة، وكأننا نسابق الزمن، أتذكر أن مقدار التشاؤم كان بمقدار التفاؤل عندي، وذلك أن المظاهرات التي خرجت في مصر قابلها إجرام كبير وقتل وترويع من قبل البلطجية وقوات الأمن، عندها صرت أقول إنه من الممكن أن تتراجع المظاهرات خوفًا من السطوة الأمنية القاتلة، ولكن في ذات الوقت كانت أعداد المتظاهرين تزداد والرقعة تتسع والهتافات تعلو “مش حنمشي هو يمشي”.. “ارحل يعني امشي الظاهر ما بتفهمش”، كانت هذه الهتافات تزيد اليقين في القلب أنهم مستمرون!.
“اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية” لم تسعنا الفرحة عندما خرج تقرير فوزي بشرى يزف فيها للأمة العربية نبأ سقوط مبارك، حينها كان أبي في الدكان جالسًا أمام مدفأته الصغيرة، خرجت إليه لأنظر رأيه، كان مذهولًا من هول الخبر قال لي “حسني مبارك راح” وردد للمرة الثانية “العقبى لنا” ولكن أردفها فورًا “الله يستر من اللي جاي، مرة أخرى قالها ولم أع ما يقول أيضًا، كنت ملتهيًا بفرحتي بسقوط حسني مبارك.
أمل
أيام قليلة بعد سقوط حسني مبارك تبدأ الثورتان اليمنية والليبية، خرج الشعبان ضد حكم طاغوتين رزحت البلاد لعقود تحت وطأة استبدادهما، معمر القذافي الذي منح نفسه أرفع الأوسمة وأعظم الألقاب وحكم شعبه بالحديد والنار، والجنون أيضًا، لم يكن ليجرأ أحدٌ على أن ينبس ببنت شفة ضده، وهو الذي طال إرهابه بعضًا من دول العالم، كانت سجونه مليئة وحاشيته تنكل بالشعب، فكانت الثورة الليبية شعاعٌ جديد لأمل بات يطوف في المنطقة.
وكذا فعل اليمنيون الذين خرجوا منادين بنظام عادل يؤمن لهم حياة كريمة ويجعل اليمن سعيدًا حقيقةً لا حبرًا على الورق فقط، بالفعل كانت المظاهرات في أرجاء اليمن محفزٌ كبير على الثورة لما كانت تحمله من جمال وبهاء، أعدادهم ضخمة وهتافاتهم جميلة، لكن علي عبد الله صالح لم يفعل إلا الذي فعله بن علي وحسني مبارك، إجرامٌ وقتل ومواجهة للمظاهرات بالنار، وكذا فعل القذافي الذي أطلق زبانيته للرد بكل وحشية على المنتفضين ضد حكمه.
بدأت أشعر أننا -في سوريا – لسنا بعيدين عن الدائرة، ولكن الوضع في سوريا أخطر مما يظن أي أحد، لم تنته الثورتان اليمنية والليبية كما انتهت ثورات الشعب المصري والتونسي، فما زالوا يكافحون ويناضلون ويطالبون بالحقوق، في تلك الأوقات بدأت بالمتابعة أكثر للتحليلات السياسية وازدادت فترات متابعتي للأخبار، أنشأتُ حسابًا على موقع فيسبوك، وبدأت أتابع التعليقات.
من حوران هلّت البشاير
كان فيسبوك محظورًا في سوريا بالإضافة إلى كثير من وسائل التواصل كيوتيوب مثلًا، لكن كنا نستطيع الدخول ومتابعة الأخبار من خلال استخدام أدوات كسر الحظر، حينها لم تعد القنوات الإخبارية تعطينا ما نبتغي كفاية، فبدأنا بتناقل أسماء الصفحات التي تتكلم باسم الثورة الليبية واليمنية ومعرفة الأخبار الفورية عن طريقهم، ومن خلال البحث وجدت صفحات تدعوا للثورة على بشار الأسد وأن الوقت قد حان.
لا أزعم أنني كنت متحمسًا أبدًا، كنت انتظر كما الكثيرين، أترقب ما الذي سيحصل، ولكن جلسة مع صديقي إياد أبو سيد الذي سيلقى حتفه في المعتقل لاحقًا جعلتني أتهيأ أن الثورة قادمة وأن أجهز نفسي، كان إياد متحمسًا بشكل يفوق الوصف، حتى أتانا الهتاف الأول وخرجت المظاهرة الأولى وكان آذارنا مزهرًا وحُملت شعلتنا.
كنت ممكن حضر مظاهرة سوق الحريقة في العاصمة دمشق بالصدفة، في مهمة تسوق، وإذ بناس يتظاهرون ويهنفون الشعب السوري ما بينذل، ليأتي الوزير ويكلم الناس المتجمعين ويقول “عيب هي اسمها مظاهرة”، ولربما أصبحت من الكلمات الخالدة لدى السوريين، رجعت إلى مدينتي داريا مسرعًا حاملًا الخبر لأبي، وعندما سمع مني خاف وقال لي “فرحان بحالك يعني!”.
كانت هتافنا الأول في مدينتي داريا “يا درعاوي لا تهتم دمي فداك يا ابن العم”، اجتاحت الثورة كل سوريا يومًا بعد يوم، تكبر الجموع وتزداد الساحات، نعرف القاشوش ونسمع الساروت، أصبحنا على مسار واحد بتحقيق أحلامنا مع الشعوب الثائرة، ما زالت ليبيا واليمن إلى جانبنا يكافحون، صرنا نسمي أيام الجمعة بأشياء تدل على نصرتنا لهم وهم فعلوا كذلك، صاروا يهتفون لنا ونهتف لهم، وكأن تلك الأيام هي بالفعل أيام الله.
صرنا أقسى
هذه الشهور الأولى جعلت منا أشخاصًا مختلفين، وأنا لاحظت هذا الأمر على نفسي وكذا أهلي، كنت مندفعًا مع أصدقائي للعمل، حتى أن أمي تقول لي أنني لم أرك منذ 2011، كنت دائمًا خارج المنزل، تغيرت بشكل غريب، أصبحت اهتماماتي مختلفة وكذا توجهاتي وهذا ما كان عليه بعض الأصدقاء، كنت أستغرب ممن يكمل حياته بشكل طبيعي، أو ممن لم يكن يحمل همّ الثورة أو القضية.
مرت أيام الثورة السورية وقد كان لنا أمل بالنصر بعد أن قتل ثوار ليبيا طاغيتهم، لكننا لم نحظَ بما وجدوا، كانت مهمتنا أصعب على ما يبدو، مع مرور الأيام كان الحمل يزداد والأعباء تتثاقل على كواهلنا وكأننا أبناء 50 عامًا، ونحنا ما زلنا في أوائل الـ 20، مع الأعباء والتعب والحرب التي نواجهها، كنا نزداد وعيًا وثقافةً وقدرةً على فهم ما يدور حولنا، لكن كل ذلك الوعي كان يذهب أمام جريح أو شهيد فنبكي وكأننا أطفال لا تتجاوز أعمارهم السنة أو السنتين.
مع مرور الأيام صرنا أقسى وتغيرت طباعنا، ففي مدينة داريا التي لاقت ما لاقت من المجازر والقتل والإرهاب الأسدي، عملت في المشفى الميداني، فصار مشهد الدماء والأشلاء مألوفًا، حتى أنني صرت أحاسب نفسي في بعض الأيام على هذه الجلافة والقساوة، أقول “أمامك دماء وهذا ليس بالشيء المستساغ فارجع إلى فطرتك”، لكن الأسد لم يعطنا الوقت للحزن أو لم يكن لدينا ترف الحزن.
كان القصف يلاحقنا أينما كنّا، فكانت المهام كبيرة والتحديات جسيمة، خلال رحلة الثورة السورية وحين كان عمري 21 عامًا ترأست وأدرت عددًا من المؤسسات الثورية!، لك أن تتخيل كمية التغيير التي رافقتني، أصبح صديقي قائدًا في الجيش الحر وصديق آخر مديرًا للمشفى الميداني كما أن أحد رفقائنا كان مديرًا ماليًا بأحد مؤسسات الثورة، وقبل الثورة كان أكبر همنا كيف نتخرج من الجامعة!، لنصبح أمام أعباء مدينة بأكملها.
شاهدنا كل المتغيرات على ساحتنا، من قتال النظام والحرب عليه والخلافات الداخلية التي وقعت بين أبناء الثورة، كما شهدنا نشوء داعش، والشتات الفكري الذي اعترانا عندها، فكان قرارًا مترددًا تجاههم في الفترة الأولى حيث كنا محاصرين، وكان إعلامهم قويًا، فأعجبنا لقوتهم في القتال، ولكن مع الأيام عرفنا أنهم أكبر خطر علينا وعلى ثورتنا، لتزداد الدروس المستفادة درسًا وراء درس وحكمة تلو أخرى.
مع تهجيرنا من مدينتنا خرجت إلى إدلب وشهدت قساوة الحياة وتغير المعيشة، كان درسًا آخر، رحلةٌ لم تنته لأصل إلى منفىً جديد كما كل ثوار الربيع العربي الذين تاهوا شرقًا وغربًا هاربين من بطش الحكام وجرائم قوات أمنهم وجيوشهم، عملت لأجل أن أعمل في مهنة أحبها، ومن خلالها أرفع صوتي وأتحدث عن وطني، وهذا ما أتيح لي من خلال موقع “نون بوست”.
“فلول الثورات”
بدأت الانتكاسات الثورية في مصر مبكرًا وكذا تونس وليبيا واليمن وسوريا، كانت الانقلابات العسكرية والثورات المضادة تعمل على أن لا يكون لنا صوت، فقد آلمهم صوتنا للمطالبة بالحرية، فسخروا إمكانياتهم لضربنا وقد فعلوا، أغدقوا من الأموال مقابل أن يوقفوا هذا المد البشري، حتى صاروا يعملون على تشويه ربيعنا وثوراتنا وبث الأفكار المسمومة بين الناس “الثورات هي من دمرت الشعوب”، وكأن الشعوب قبل الثورات كانت تعيش بنعيم مقيم.
يُحسب لأرباب الثورات المضادة في فترة من فترات هذا العقد الثوري أنهم استطاعوا إسكات بعض البلدان نتيجة لخبثهم، إلا أنهم تفاجؤوا وتفاجئنا بأن الربيع ما زال يسير عندما قامت الثورة الجزائرية وخلعت عبد العزيز بو تفليقة والثورة السودانية التي أسقطت حكم البشير، ورغم كل المعوقات والإجرام الذي فعله عبد الفتاح السيسي يطالعنا المصريون يومًا بعد يوم أنهم قادرون على التحرك ولو ببطئ، فالمعركة بحاجة لنفس طويل وربما يحتاج إلى سنوات، وإلى سوريا فما زال هناك أياد نظيفة تمسك على الزناد في وجه جيش النظام.
امتدادت الربيع وصلت للعراق الذي ثار أبناؤه على الطائفية المقيتة والأحزاب التي تسرق مقدرات الشعب، وفي لبنان الذي خرج أهله في تشرين 2019 بثورتهم التي كان شعارها “كلن يعني كلن”، كانوا يريدون إسقاط جميع من ساهم بالفساد وضرب استقرار البلاد، ومرة جديدة في العراق وفي لبنان لاقى ثوار البلدين عنقًا مضادًا وسقط الشهداء امتدادًا لشهداء الربيع العربي.
كانت هذه السنوات العشر مليئة بالفرح تارة والحزن تارة أخرى، بالقهر والأمل بالعجز والإرادة، جمعت كل المتناقضات وأفرزت تغييرًا عظيمًا، ربما لم يكن هذا التغيير على نحو ما نحب، لكنه أتاح لنا أن نقول كلمتنا وأن نزلزل عروش الحكام الذين خافوا من هذا الربيع فراحوا يتخبطون يمنةً ويسرة، لتصل بهم الحال أن يتحالفوا ويطبعوا مع العدو الصهيوني ليحفظوا كراسيهم خوفا من مد قادم عليهم لا محالة.
إن لم يكن هذا الربيع قد أزهر، فهو قد زرع بذرة ستنبت في يوم من الأيام وتزهر وتؤتي أكلها، وهنا اقتبس نصًا للكاتب السوري عبيدة عامر يقول فيه “أنا من فلول الثورات، أولئك الذين انطفأت قلوبهم ولم تنطفئ عيونهم، الزارعين في حمرة العواجل وركام الذكريات ومقابر القلوب وردًا أبيض للشهداء والرفاق، والحائرين الحافرين، بلا أمل، شق الجدار ونهاية النفق وثقب الضوء، أولئك اللامنتمين إلا للسراب، ولا مقدسين إلا للثأر، سماؤهم أسماؤهم، خطاهم خطاياهم، ملامحهم ملاحمهم، وسِـيـَرهم أسرارهم، بلا إنجازات تذكر إلا الخراب النبيل وإزعاج الطغاة”، وأظنني من فلول الثورات ولا بد من كرّة جديدة.