في آخر أيامها في البيض الأبيض، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب عقوبات جديدة ضد تركيا موجهة إلى مؤسستها الخاصة بصناعة الأسلحة. عقوبات قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إن الهدف منها هو منع روسيا من الحصول على النفوذ وليس تقويض قدرات أنقرة العسكرية، لكن يرى البعض أيضًا أن هدفها ضرب “استقلالية” أنقرة في التصنيع العسكري.
عقوبات أمريكية
المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية كيل براون، أعلن أن بومبيو شدد خلال محادثة مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو هذا الأسبوع “على أن الهدف من العقوبات هو منع روسيا من الحصول على قدر كبير من العوائد والوصول والتأثير” على أنظمة الدفاع التركية.
وأضاف في بيان أن العقوبات الأمريكية “لا تهدف إلى إضعاف القدرات العسكرية أو مستوى الاستعداد القتالي لتركيا أو لأي حليف أو شريك آخر للولايات المتحدة، وقال إن بومبيو أوضح لنظيره التركي أن “شراء تركيا هذه المنظومة يهدد أمن الأفراد والتكنولوجيا العسكرية الأميركية”.
عرفت الشركات العاملة في الصناعات الدفاعية منذ 2002 –سنة وصول العدالة والتنمية إلى الحكم- ارتفاعا كبيرا من 56 إلى 1500 شركة
وزير الخارجية الأمريكي دعا “تركيا إلى حل مشكلة إس-400 (S-400)، بما ينسجم مع عقود من التعاون الدفاعي بين بلدينا والعودة إلى التزاماتها بصفتها عضوا في حلف شمال الأطلسي لجهة شراء أسلحة تتوافق مع أسلحة حلف شمال الأطلسي”.
وبداية الأسبوع الحالي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية (SSB) ومسؤوليها، وهي مؤسسة استراتيجية مكلفة بتطوير الأسلحة التركية تشرف عليها الحكومة بشكل مباشر، وذلك بسبب شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400”. وشملت العقوبات أيضًا رئيس هذه الإدارة إسماعيل دمير ومسؤولين آخرين في الوكالة الحكومية التركية. وقالت وزارة الخزانة الأميركية إن العقوبات فرضت بموجب “قانون كاتسا”، وهو قانون مكافحة خصوم أميركا.
وزارة الخزانة الأميركية قالت في بيانها الذي تضمن العقوبات، إن الولايات المتحدة سبق أن وضّحت لتركيا على أعلى المستويات وفي مناسبات عديدة أن شرائها لنظام إس-400 من شأنه أن يعرض أمن التكنولوجيا والأفراد العسكريين الأمريكيين للخطر ويوفر أموالًا كبيرة لقطاع الدفاع الروسي، فضلاً عن وصول روسيا إلى القوات المسلحة التركية وصناعة الدفاع.
يذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان قد أعلن نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن بلاده اختبرت منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، قائلًا إن أنقرة لم تعبأ باعتراضات واشنطن على هذه الخطوة.
وأبرمت تركيا اتفاقًا مع روسيا لشراء منظومة إس-400 في 2017، وبدأ تسليم أول 4 بطاريات صواريخ -وقيمتها 2.5 مليار دولار- في يوليو/تموز من العام الماضي. وردًا على تسليم أول بطارية، علّقت الولايات المتحدة مشاركة تركيا في برنامج تصنيع طائرات حربية أميركية حديثة من طراز “إف-35” (F-35)، معتبرة أن منظومة إس-400 يمكن أن تتسبب في كشف أسرارها التكنولوجية.
صُممت منظومة الصواريخ “إس 400” المضادة للطائرات بالأساس من أجل حماية المرافق السياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية المهمة من الغارات الجوية. وتعد هذه الصواريخ من أحدث المنظومات في العالم للدفاع الجوي والدفاع المضاد للصواريخ، فهي قادرة على تدمير الطائرات والصواريخ المجنحة على مسافة 400 كيلومتر، كما أنها قادرة على اعتراض الصواريخ البالستية التي تصل سرعتها إلى 4800 متر في الثانية، على ارتفاع 30 كيلومترًا.
ضرب “استقلالية” أنقرة في التصنيع العسكري
يرى العديد من المتابعين أن هدف الإدارة الأمريكية من خلال هذه العقوبات الأخيرة ضرب “استقلالية” أنقرة في التصنيع العسكري، خاصة في ظلّ التطور الكبير الذي عرفته الصناعات العسكرية التركية في السنوات الأخيرة.
ولا يخفي المسؤولين الأمريكيين انزعاجهم من تطور الصناعات الدفاعية التركية بشكل أثبت فاعليته في عدد من دول المنطقة، حيث ظهر التفوّق التركي في الأسابيع القليلة الماضية في معارك إقليم ناغورني قره باغ وحسمت الأسلحة التركية المعارك لصالح أذربيجان ضد أرمينيا.
قبلها ظهر في ليبيا، حين نجحت الأسلحة التركية في ترجيح كفّة قوات حكومة الوفاق الوطني الليبية في غرب البلاد، على حساب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ومكّنتها من التصدّي لهجمات حفتر وقلب المعركة لصالحها، وظهر التفوق الدفاعي التركي أيضا في الساحة السورية ضد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري.
هذا التطور الكبير أزعج السلطات الأمريكية، ما جعلهم يسعون بجدية إلى وقفه والوقوف في وجه استقلالية تركيا في تطوير أسلحتها وأنظمتها الدفاعية
عرفت الشركات العاملة في الصناعات الدفاعية منذ 2002 – سنة وصول العدالة والتنمية إلى الحكم – ارتفاعًا كبيرًا من 56 إلى 1500 شركة، وقد حقّقت الصناعات الدفاعية عام 2019 صادرات قاربت 2.5 مليار دولار، مقابل نحو 250 مليون دولار فقط عام 2002.
هذا التطوّر لم يكن في عدد الشركات فقط بل في قوتها أيضًا، حيث ذكر تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام صدر مؤخرًا عن القوى الصاعدة في تجارة السلاح عالميًا، أن تركيا واحدة من 4 دول تمتلك شركات عسكرية هي الأسرع نموًا في إنتاج الأسلحة.
وفقًا للتقرير، فقد انتقلت تركيا من المرتبة 29 عالميًا في مجال تصدير الأسلحة في فترة 2000-2004، إلى المرتبة 19 في فترة 2010-2014، ثم أصبحت في المرتبة 13 عالميًا في فترة 2015-2019.
ويوحد في تركيا حاليًا، شركات تعمل على إنتاج صواريخ بالستية قصيرة ومتوسطة المدى (مثل صواريخ “يودرم” وصواريخ “سوم كروز” وصاروخ “سيريت” الموجة بالليزر)، بالإضافة إلى أنظمة إلكترونية للجيش، كجزء من إستراتيجية تركية لتوطين قواتها المسلحة وبناء قدراتها المتطورة محليًا.
كما تمكنت شركة توساش خلال السنوات الماضية من إنتاج أكثر من 15 منتجًا جويًا وفضائيًا بصناعة تركية خالصة، مثل طائرة “إم 400” التي تستخدم في الإغاثة الإنسانية وتزويد الطائرات الميدانية بالوقود في الجو، وطائرة هليكوبتر “أي دبليو 139” تستعمل في التدريبات العسكرية وكعربة إسعاف أولية جوية، وطائرة هليكوبتر من طراز “أتاك 129” للأغراض العسكرية، حيث تستخدم للاستكشاف والقصف، وغيرها.
نجد أيضًا، مركز الصناعات العسكرية الإلكترونية “أسيل سان“، الذي يهدف لتطوير الصناعات العسكرية التركية بأحدث التصاميم والتقنيات التكنولوجية، وكان من أهم ما أنتجته الشركة هي صاروخ الفضاء الاستكشافي “غوك ترك”، كما تمكّن من إنتاج أنظمة التواصل اللاسلكي وأجهزة التخابر الجوية والبحرية والفضائية وأنظمة المراقبة الإلكترونية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي وأنظمة الرصد والرادارات الإلكترونية.
هذا التطور الكبير أزعج السلطات الأمريكية، ما جعلهم يسعون بجدية إلى تحديه والوقوف في وجه استقلالية تركيا في تطوير أسلحتها وأنظمتها الدفاعية، لكي تكبح نفوذها المتسارع في منطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية.
رغم كلّ هذه الضغوطات تصرّ تركيا على المضي قدمًا في صفقة إس-400 مع روسيا، فضلًا عن تطوير صناعاتها العسكرية الدفاعية حتى تكون من بين الدول الأقوى في العالم، فلا قوة لدولة لا تمتلك صناعات عسكرية محلية.