تستخدم الممرضات في مستشفيات التوليد في روسيا والعالم على حد سواء العديد من العبارات للتهدئة من ورع المرأة الحامل التي تمر بالمخاض، على غرار “لا بأس، سيكون كل شيء على ما يرام”، “لا تفكري في الآلام سوف تلدين بسلام”، “لا تقلقي أعرف ماذا أفعل”. ولا يوجد اختلاف كبير في العبارات المستخدمة من قبل مقدمي الرعاية لمواساة الحامل سواء في البلدان المتقدمة أو النامية.
وإلى جانب سوء التعامل مع المرأة الحامل والتقليل من شأن الأوجاع التي تمر بها، ينضاف إلى تجربة المخاض ما يسمى بـ “عدوان التوليد”، حيث يكون التدخل الطبي ضروريا لولادة الطفل دون تعقيدات. وهذه المعاملة التي تتعرض لها تقريبا جميع النساء أثناء المخاض أدت منطقيا إلى ظهور “حركة الولادة الطبيعية”.
في أقصى أشكال الولادة الطبيعية تطرفا، يعتبر مرور المرأة بالمخاض دون تلقي مساعدة طبية مثل الولادة في مكان غير ملائم مثل الغابة أو الصحراء. وفي الحالات الأقل تطرفا، تكون الولادة مع تقديم أدنى حد من المساعدة الطبية طريقا للتهرب من المسؤولية في حال ساءت الأمور.
تدعو حركة الولادة الطبيعية إلى إعطاء المرأة الفرصة للتعبير عن آرائها واتخاذ القرار المناسب لها بشأن طريقة الولادة. ولكن المدافعين عن هذه النزعة يعيدون إلى الأذهان زمنا كان فيه طب التوليد غير متطور حيث كانت النساء “تلدن دون أي مساعدة”. ولكن الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك، ذلك أنه حتى قبل 200 عام لم تكن جميع النساء قادرات على فعل ما تمليه عليهن ردود أفعال أجسادهن أثناء الولادة.
لوحة من القرن الخامس عشر حول مراحل الولادة.
على الرغم من أن الولادة عملية طبيعية على الصعيد النظري، إلا أن أغلب النساء لم يلدن من دون الحصول على المساعدة الطبية التي تقدمها عادة النساء الأكثر خبرة اللاتي يطلق عليهن تسمية “القابلات”. وقد كانت النساء في القديم يتبادلن المعارف فيما بينهن بطريقة سلسة ولم تكن هناك حاجة لدراسة أساليب التوليد في المؤسسات الخاصة. وقد تنوعت طرق مساعدة المرأة أثناء الولادة من الدعم المعنوي البسيط إلى محاولة الضغط على البطن ليخرج الطفل أو سكب الزيت على البطن وصولا إلى توسيع عنق الرحم بالأصابع.
لوحة معرفة جديدة (1885) للرسام كيريل ليموخ
ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت تقاليد الولادة بين النبلاء والفقراء في روسيا مختلفة. فقد كانت النساء من الطبقة الفقيرة تلدن في الحمام من خلال المراوحة بين الوقوف والقرفصاء، بينما كانت النساء من الطبقة الأرستقراطية تلدن في الفراش وهن مستلقيات. هذا إلى جانب تلقي المساعدة من قبل القابلات وأحيانا الأطباء – بما في ذلك النساء اللاتي سبق أن مررن بتجربة الولادة. لكن خلال المخاض لا يمكن الحديث عن أي حرية وإرادة بالنسبة للمرأة. فقد كانت المرأة مطالبة بإنجاب الطفل (الذي من الأفضل أن يكون ذكرا) دون خرق التسلسل الهرمي لاتخاذ القرارات في العائلة، أي أن القرار الأخير بشأن طريقة الولادة يظل منوطا بعهدة الزوج.
لعل هذا ما تطرقت له المؤرخة آنا بيلوفا في مقال لها حول الولادة في صفوف النساء من طبقة النبلاء، من خلال اقتباس للأميرة ماريا فولكونسكايا: “طلب مني والدي أن أجلس على كرسي، لكن طلبت مني أمي باعتبارها خبيرة في هذه الأمور الاستلقاء على الفراش لتجنب نزلة البرد، ثم جد شجار بينهما في الوقت الذي كنت أعاني فيه من آلام المخاض. أخيرًا، كما هو الحال دائمًا سادت إرادة الرجل: حيث وُضعت على كرسي تعذبت عليه بشدة دون أي مساعدة طبية”.
منذ نهاية القرن الثامن عشر، بدأ تكوين أطباء التوليد الذكور في جميع أنحاء العالم، كما فتحت مستشفيات التوليد أبوابها أمام الجميع وخاصة النساء الفقيرات، وكان بإمكان القابلات والأطباء العمل معًا. وكان الطلاب يتلقون التدريب في هذه المنشآت أيضا. ولكن وجدت النساء في هذه المؤسسات أنفسهن من دون الدعم العائلي التقليدي وفي أمس الحاجة للمساعدة أيضًا.
الوصف: شهادة قابلة تعود لسنة 1915.
شهدت الدول الغربية تقدما ملحوظا في مجال طب التوليد، حيث كانت النساء من الطبقة الوسطى والغنية تمنحن إما خيار الولادة بمساعدة القابلة أو الطبيب، وقد أثارت هذه الخيارات جدلا حقيقيا بين أبناء الفئتين، لا يزال مستمرا حتى اليوم. كان يُعتقد أن القابلة تستطيع بمفردها تقديم الدعم والمساعدة اللازمة للحامل أثناء الولادة الطبيعية باستعمال بعض المهارات المدربة عليها. وبمرور الوقت، ظهرت وسائل أخرى مثل التخدير وملقط الولادة وأدوية مختلفة ساعدت الأطباء على تسهيل عملية الولادة وتقليص نسبة الوفيات في صفوف النساء. في هذه الحالة، إذا اختارت أن يولدها طبيب فإن إرادتها تقف هناك، حيث يقوم الطبيب باللازم بعد تخديرها لتنتهي الولادة دون أن تشعر بشيء أو تفهم ما حدث.
خلال القرن العشرين، أصبح طب الولادة يكتسي أهمية كبرى في جميع أنحاء العالم، إذ لم تعد الولادة مرحلة طبيعية لنهاية الحمل وإنما تحولت إلى حالة طبية طارئة. زادت هذه التطورات في مجال طب التوليد من نشاط القابلات وإقبالهن على تعلم المزيد من أساليب التوليد. لكن ذلك ساهم أيضا في احتدام المنافسة بين الأطباء والقابلات في مجال التعليم الطبي، حيث كان الأطباء يرون أن وجودهن يحرم طلبة الطب من التدرب نظرا لأن أغلب حالات الولادة كانت تشرف عليها القابلات.
والغريب في الأمر أن مشاركة الأطباء في بداية القرن العشرين في عمليات الولادة أدى إلى زيادة معدل الوفيات بين صفوف الأمهات، وذلك غالبا بسبب التدخل الطبي المفرط.
في الأثناء، كانت دول الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت متأخرة في مجال طب التوليد حيث لم تكن القابلات يتمتعن بتعليم رسمي أو مستشفيات توليد تمكنهن من تبادل الخبرات فيما بينهن. في بقية دول العالم، بدأ الوضع يتغير تدريجيا ببناء مستشفيات التوليد التي أقبلت عليها النساء وحيث تتوفر للأطباء وسائل التوليد. ومن أجل السلامة النسبية التي زادت مع تطور الأدوية، كانت النساء في الحقيقة يدفعن ثمن عدم أخذ رأيهن بعين الاعتبار. فعلى سبيل المثال، كانت مطالب مثل عدم تناول الأدوية أثناء المخاض إلا في الحالات الضرورية أو ترك الطفل بجانبها بعد الولادة ترفض دون احترام إرادتها.
تحتفظ الممرضات بالأطفال في جناح الولادة في مستشفى سانت بارثولوميو في لندن.
طوال القرن العشرين، كانت مهنة الطبيب تتطلب تلقي تدريب في مؤسسة خاصة. وفي نهاية القرن التاسع عشر، شهد العالم العديد من الاكتشافات في مجال الصيدلة والجراحة. وفي ظل هذه الظروف، تطورت سلطة المجتمع الأبوي لتشمل حتى قطاع الصحة والطب. ومن هذا المنطلق، كان من المفترض أن الطبيب يعرف مصلحة المريض أكثر منه، وأن المريض لا يحتاج إلى فهم ما يحدث على الإطلاق. ولعل هذا ما تطرقت له رواية “جناح السرطان” للكاتب ألكسندر سولجنتسين، حيث لا يكتشف المريض ماهية مرضه إلا من خلال الأعراض الظاهرة للمرض وذلك لأن الطبيب قرر أنه لا داعي لإزعاجه بذلك. وهذه النظرة التي فرضها المجتمع الأبوي مازالت النموذج الرئيسي في روسيا للتواصل مع المرضى.
بحلول منتصف القرن، بدأت غالبية النساء – بما في ذلك من كان خطر حدوث مضاعفات معهن منخفضا – تقصدن مستشفيات التوليد. فعلى سبيل المثال، في ثلاثينيات القرن الماضي، ولدت 90 بالمئة من النساء في المملكة المتحدة في المنزل، وانخفض هذا الرقم إلى الثلث في سنة 1955، وبحلول الثمانينيات كانت نسبة النساء اللواتي ولدن في المنزل في حدود 1 بالمئة تقريبًا. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كانت نسبة الولادات في المستشفيات 70 بالمئة خلال الثلاثينات. ومع تطور الطب، بدأت نسبة الوفيات في صفوف النساء وحديثي الولادة تشهد تراجعا ملحوظا، ولكن الذهاب إلى الأطباء لم يخلو من المخاطر. فقد يكون التخدير قويًا لدرجة أن النساء لا يشعرن بآلام المخاض.
من المعروف أن خطر إصابة المرأة باضطراب ما بعد الصدمة يرتفع إذا كانت واعية أثناء عملية الولادة. ولكن تبين أن نسبة النساء اللواتي يتعرض لهذا الأمر لا تتجاوز 1 بالمئة. اضطراب ما بعد الصدمة هو اضطراب عقلي يعاني فيه الشخص من صعوبات نفسية أو عاطفية تجعله يصاب بالقلق ويرى الكوابيس وتسيطر عليه الأفكار والذكريات الوسواسية، وهو ما يؤثر سلبا على جودة الحياة.
لنكون منصفين، من غير الواضح ما إذا كانت النساء الحوامل خلال القرن الماضيين قد أصبن باضطراب ما بعد الصدمة بسبب الولادة. ولكن المؤكد أن مخاطره تزداد إذا كانت المرأة واعية خلال عملية الولادة، ولم يقدم لها الدعم اللازم وخضعت على عكس توقعاتها إلى التدخلات الطبية (مثل عملية قيصرية أو استخدام ملقط الولادة).
أدت كل هذه الصعوبات التي واجهتها النساء بسبب التدخلات خلال الولادة إلى تزايد غضب النساء. بدأ بعض الأطباء والأمهات يتحدثون بشكل متزايد عن “الولادة الطبيعية” وأن الجسم يعرف ما يفعل، وأصبحت النساء يطالبن بصوت أعلى بحقوقهن. ففي المملكة المتحدة، تمخض عن هذا الجدل التقرير الحكومي الثوري بعنوان “تغير طرق الولادة” الصادر في سنة 1993، الذي نص على منح المرأة حق اتخاذ قرار الطريقة المناسبة لها للولادة. وقد كان هذا التقرير يتمحور أساسا حول مدى رضا المرأة عن هذه التجربة أكثر من طبيعة المخاض الذي تمر به.
في النصف الثاني من القرن العشرين، تأثر هذا الوضع كثيرًا بالتغيرات التي شهدتها الدول الغربية، حيث بدأت العلاقة بين الأطباء والمرضى تتحسن. فإذا حاول الطبيب الضغط مستغلا منصبه من خلال التأكيد على ضرورة خضوع المريض لعملية جراحية، دون أن يوضح له ماهية مرضه، كان الشخص في اليوم الموالي يتخلف عن موعده مع الطبيب ببساطة، وذلك لأنه يكون خائفا. أما إذا شرح للمريض ما يحدث، وقدمت له خيارات، وأخبرته عن جميع الاحتمالات، من المتوقع حينها أن يتعاون مع المريض.
على هذا النحو، أدرك الأطباء تدريجيا أنه من الخطأ الاعتقاد أنهم يعرفون ما هو أفضل بالنسبة للمريض. فعلى سبيل المثال، تختلف وجهة نظر المرأة التي تريد أن تنجب خمسة أطفال وهي تدرك خطر فقدان رحمها بسبب نوع من التدخل الطبي، عن وجهة نظر المرأة التي لم تعد تنوي الإنجاب.
يعتقد الأخصائيون أنه يصعب على المرأة أن تتخذ القرار بشأن التدخل الطبي اللازم والدقيق أثناء الولادة. ولكن هذا ليس سببًا مقنعا بالنسبة للطبيب حتى يمتنع عن مناقشة أنواع التدخلات الطبية التي تبدو ضرورية للطبيب أو القابلة مع المريضة. ويمكن للطبيب في هذه الحالة إخبار المرأة بالسيناريوهات الواردة قبل الولادة أو التواصل مع ممثلها القانوني إذا كانت في وضع لا يسمح لها بالتحدث إلى الطبيب.
على غرار كندا، عملت المملكة المتحدة على ترسيخ قواعد مهمة في كيفية تعامل الطاقم الطبي ومقدمي الرعاية مع المرأة أثناء الولادة، بشكل يضمن احترامها والاستماع لها.
في القرن العشرين، كانت النساء في المراكز النائية التي تفتقر إلى أطباء توليد تخضعن للحد الأدنى من الأدوية، ولم تكن سوى النساء اللواتي تنخفض لديهن مخاطر مواجهة مضاعفات أثناء المخاض قادرات على تحمل الولادة الطبيعية. وفي حالات الطوارئ، كان يتم تقديم الإسعافات الأولية للمرأة لتنقل إلى المستشفى. ومن المزايا المهمة لهذه الأماكن، أن العلاقة بين المرأة في المخاض ومقدمي الرعاية كانت وطيدة لأنها كانت تتلقى الاهتمام والدعم الذي تحتاجه. وفي الوقت نفسه، تبين أن هذه المؤسسات كانت آمنة تماما مثل مستشفيات الولادة التقليدية، والفرق الوحيد هو انخفاض التدخلات.
حسب معايير طب التوليد التي وضعتها منظمة الصحة العالمية: “تتمتع جميع النساء بفرصة اتخاذ القرارات المناسبة بشأن الخدمات الصحية المتاحة لها، ويتم شرح أسباب استخدام تدابير معينة مع الإعلام بعواقبها الصحية”. تنطبق معايير منظمة الصحة العالمية على روسيا أيضًا. ولكن كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، يجب على جميع المؤسسات أن تعمل على تغيير طريقة معاملتها للنساء أثناء الولادة.
المصدر: غود هاوس الروسي