لبنان: مكافحة الفساد كلغة رسمية في تصفية الحسابات
في لبنان الآن لا مجال إلا لتصفية الحسابات بين رموز الحياة السياسية، الجميع ضد الجميع، كل الأطراف تتسابق في تحميل غيرها الفاتورة كاملة، تخرج دفاترها وتخضع غيرها بسلاح الفساد، قبل أن تتسبب الاحتجاجات الشعبية في سيناريو مشابه لما حدث في الثورات العربية المجاورة وتذهب بهم إلى مصير مجهول، لا سيما أن الشارع حسم موقفه، الخروج للكل، أو بصيغة لبنانية أشمل: “كلن يعني كلن”.
ما الذي يحدث؟
تحقيقات الفساد الجارية بموجب قانون الإثراء غير المشروع فتحت قلب البلاد وأخرجت كل ما تحمل من خطايا على مدار عقود مضت، الاتهامات تضرب الجميع وتفصح معها عن ماهية العلاقات بين النخب السياسية التي تمارس سياسة انتقائية حتى في توجيه التهم ضد بعضها.
اتهم قائد الجيش السابق جان قهوجي، لكن دون عرض نتائج تذكر، وإن كان التحقيق في حد ذاته يحمل نفحات إيجابية للمواطن اللبناني الذي طالب مرارًا بمحاسبة الجميع، وأذعن القضاء اللبناني بإصدار أحكام بحق ضباط كبار وعسكريين، تتراوح بين السجن 3 أشهر و15 عامًا، بتهمة اختلاس أموال.
لكن الكيدية أصبحت الشعار الأكثر واقعية لما يحدث، يقول ذلك الحزب التقدمي الاشتراكي الذي شن هجومًا كاسحًا على الرئيس ميشال عون، ولفت إلى ضغوط تجري من الرئاسة ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، الذي يضرب يمينًا ويسارًا في معارضيه ويصفي سمعتهم وخاصة طواقم “الاشتراكي” في الحكومة.
يستشهد الحزب بالانتقائية وتخليص الحسابات في توجيه تهمة الإهمال إلى رئيس الوزراء المؤقت حسان دياب ووزير المالية السابق علي حسن خليل ووزيرين سابقين آخرين هما غازي زيتر ويوسف فنيانوس، واتهام العديد من قادة الجيش بالفساد بينما هناك من تحصنوا في مراكزهم وبتحالفاتهم السياسية والطائفية ولا يستطيع أحد الاقتراب منهم.
الحرب الدائرة بين الفرقاء السياسيين أصبحت تخلط كروت اللعب للقوى العالمية التي دخلت الملعب اللبناني ووثقت نفوذها خلال الآونة الآخيرة لا سيما فرنسا، ما دعا وزير خارجيتها جان إيف لو دريان، للتعبير عن إحباطه قبل الزيارة المرتقبة خلال أسبوع للرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت، مما أسماه الانهيار السياسي والاقتصادي في لبنان، الذي شبهه بغرق السفينة تايتانيك.
معارك عون وبري
ما يقوله الحزب الاشتراكي عن تسييس القضايا، توثقه بعض التفاصيل عن التجاذبات السياسية بين أكبر رؤوس السلطة في البلاد، رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، بعد أن تصاعد الصراع بينهما ليكشف الكثير مما يجري في الغرف المغلقة، وكيف أصبحت العلاقة تتأزم وتتراجع بشدة.
تجاوز الخلاف مربعات الحرب الباردة وذهب إلى فضاء جديد “الإعلام“، الفضائيات المحسوبة على بري تشن هجومًا شرسًا على عون وتتهمه بتعطيل عمل القضاء والتدخل السافر في عمل الحكومة، في المقابل دفع عون بأنصاره وخاصة الشخصيات المعروفة بقبضتها الحديدية على لبنان مثل صهره جبران باسيل الذي أمطر معارضيه بتهم تتعلق بالفساد، قد يستطيع توثيقها عليهم بما يملك من علاقات واسعة بالأجهزة الأمنية والقضاء، بحسب ما يثار من شبهات عن تسيس اتهاماته بدوافع انتقامية.
يطوع عون حرب الفساد الضارية بين الكتل المختلفة، وخاصة مع نبيه بري لكسب معركة سياسية ستنسب له بلا شك في الجزء الأخير من ولايته وخاصة إذا نجحت في ضرب عنق معارضيه عن طريق التحقيقات الجنائية التي تستهدف ثرواتهم، وهو ما يفهمه جيدًا بري الذي يملك خبرة كبيرة في السياسة اللبنانية وآلاعيبها، ولهذا سارع هو الآخر لتطويع البرلمان في تنفيذ رغبات الرئاسة في التدقيق الجنائي، لكن ضد الجميع بما فيهم الرئيس نفسه وحاشيته وكل أنصاره.
انعكس الصراع الدائر بين الرئيسين واستعراض كل منهما لقوته وأدواته القتالية على تأليف حكومة سعد الحريري التي تحاول بناء برنامجها في أجواء عنيفة يعترف فيها الجميع باستخدام ملف الفساد ذريعة لتصفية الحسابات وتعطيل عمل القضاء الحر وتلوينه طائفيًا ومذهبيًا.
الحريري وحزب الله
دخل حزب الله هو الآخر صراعات الفساد مبكرًا ورفع دعوى استباقية ضد بهاء الحريري، شقيق رئيس الوزراء الذي يزايد حتى على شقيقه سعد الحريري، ويطالب بحظر الذراع الإيراني في لبنان حتى يكسب دعمًا أوروبيًا ـ مسيحيًا لتصعيده على الملعب السياسي بعد إعادة تشكيله على أسس خيارات الشارع اللبناني، التي طالبت الجميع بالرحيل.
لا تخلو اتهامات بهاء من استهداف سعد باعتباره من الطبقة الحاكمة، حيث يحاول إثبات قوته في وجه الجميع، وأنه قادم لإعادة البوصلة السياسية إلى طريقتها الصحيح، ولو كان الثمن رصيد عائلته وشقيقه في العمل السياسي.
في المقابل لعب حزب الله على ما هو أبعد وأخطر من الفساد في تصفية حساباته مع بهاء، حيث جرى تحميله مسؤولية تفجير صراع ديني بالبلاد في ظل إصراره على توجيه اتهام بلا أدلة كافية للحزب في قضية تفجير ميناء بيروت، وهو ما حدث بالفعل، إذ اندلعت مواجهات دينية في الشوارع حتى بين الخلفيات الشيعية مثل حزب الله وحركة أمل.
يعرف الحزب جيدًا، أن الحريري الأكبر لن يتخلى عن شيطنته وهو ما لا يخفيه بهاء، إذ يصر على مطالبه بتنفيذ حكم المحكمة الدولية بالسجن المؤبد خمس مرات، بحق القيادي بالحزب سليم عياش، الذي أدين باغتيال رئيس الوزراء الأسبق ووالده رفيق الحريري، في الوقت الذي لا يعترف حسن نصر الله زعيم الحزب التاريخي بالمحكمة، ويصر على تسييسها للقضية.
يضغط الحريري على دولة حزب الله ويكشف انفصالها عن الاقتصاد اللبناني والعمل الدائم على تضخيم اقتصاد موازٍ يشمل مؤسسات كبرى من بنوك وشبكات صيدليات وأسواق سلع مخفضة مستوردة من إيران وسوريا، فضلًا عن الاتجار في العملة الصعبة وتهريبها إلى دمشق وطهران.
يصر الشقيق الأكبر لعائلة الحريري الذي يحلم بالجلوس على تركة والده في العمل السياسي، بعد أن تسيد مؤسساته الاقتصادية على كشف الوجه الآخر لحزب لله، فيضرب في كل اتجاه ويقدم خدمات ليست مجانية بالطبع للمتربصين من القوى الدولية التي تتهم الحزب بالعمل على مصالح إيران في المنطقة.
يعري تشابكاته مع الأجنحة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد ويضغط على الجميع، إما يبرؤن أنفسهم وإما ينزلقون معه إلى متاهة العقوبات الدولية وما يصاحبها من تجريس وتتبع للأرصدة المالية والصفقات السياسية السرية بالداخل والخارج، وبالتالي يصبح هو الخيار الوحيد.
الصراع القاتل في لبنان إن استمر على هذا الحال سيذهب بأغلب الساسة إلى السجون في تهم تتعلق بسوء الإدارة والفساد
يضرب بهاء ألف عصفور بحجر واحد، يضغط على جراح القوى السياسية الداخلية، وفي الوقت نفسه يؤيد العقوبات الأمريكية ضد رموزها، يتجاهل تلويح واشنطن بالعقوبات ضد أغلب رموز البلاد وعلى رأسهم شقيقه بسبب تعامله مع حزب الله، ويعتبر ما تفعله أمريكا أوراق مصالح وحسابات تتعلق بالأمن القومي وهي أمور ليست من شأنه ولا يحب أن يتدخل فيها، بحسب نص حديثه.
يضبط بهاء بوصلته على ما يحدث في المنطقة من صراعات، خاصة بعد اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده وقبله بأيامٍ قليلةٍ تنفيذ سلسلة اعتداءات إسرائيلية على سوريا، فيدرك ماذا يعني استقدام واشنطن قاذفات بـ52 الإستراتجية العملاقة إلى الشرق الأوسط، وتحريك حاملة الطائرات يو إس إس نيميتز إلى منطقة الخليج مع سفن حربية أخرى.
ويعرف أنها توفر الدعم القتالي والغطاء الجوي لأي تحركات عسكرية على الأرض، ولهذا يقاتل لإدانة حزب الله قبل ضربة مجنونة من ترامب يمكن أن تحدث في أي لحظة قبل مغادرته السلطة، فتقضي على الحزب وتترك أموره للإدارة الأمريكية اللاحقة، ويصبح هو اللاعب الأهم لقيادة ما بعد التطهير!
كل هذه المعطيات تؤكد أن الصراع القاتل في لبنان إن استمر على هذا الحال سيذهب بأغلب الساسة إلى السجون في تهم تتعلق بسوء الإدارة والفساد، ويثبت أن الأكثر خبرة بما يحدث هو الشعب اللبناني الذي كان يدرك أن أي محاكمات ذات دوافع سياسية لن تكون أكثر من محاولات انتقامية لن تأتي له بالتغيير المنشور، ولهذا دعا ولا يزال إلى تغيير ثوري شامل يعيد بناء البلاد على أسس أكثر احترامًا لإرادته ومستقبله.