ترجمة وتحرير: نون بوست
هذا الحوار أجرته صحيفة لاكروا مع رجل القانون التونسي المحامي عياض بن عاشور الذي ترأس بعد الثورة أشغال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وهو يرى أن النظرة السوداوية بشأن حصيلة الثورة إلى حد الآن بعد مرور عشر سنوات على الثورات التي هزت العالم العربي والإسلامي، قد تقود إلى استنتاجات خاطئة. ورغم قتامة الوضع الحالي، سينتهي المطاف بهذه البلدان إلى قبول التحول الديمقراطي.
في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده مطلقا شرارة الثورة التونسية، وقد امتدت هذه الانتفاضات إلى البلدان المجاورة، فيما يسمى بـ “الربيع العربي”. فمن أين أتت هذه التسمية؟
عياض بن عاشور: هذا المجاز الفصلي يعتبر كلاسيكيا، إلا أنه في نظري فخ لغوي خطير وبدعة إعلامية أرفضها بشكل قاطع. إن “الربيع العربي” تماما مثل ثورة “الياسمين”، عبارات تحيل على هدوء وجمال الطقس. ولكن الثورات لا تتم أبدا في مناخ هادئ: إذ أن التحول الدستوري دائما ما يترافق مع العنف والصدمات التي ترهق المجتمعات. وهذه الثورات لم تعد سلمية عندما سقط قتلى. وهو أمر متواصل لحد الآن، فمن أين جاء السلام؟
لقد عشنا في تونس ما بين 2010 و2011 كأننا في ساحة حرب متواصلة، مع سقوط القتلى والشهداء والجرحى وانتشار القناصة وتنفيذ عمليات الاغتيال حتى سنة 2013، إلى جانب المحاكمات التي لا نهاية لها. وفي المجمل، أسفرت الثورة عن 350 قتيل وآلاف الضحايا، ولم يُغلق ملف شهداء الثورة بعد، فأين هو الياسمين من كل هذا؟
البعض لا يوافقون على اعتبار ما حدث في تونس ثورةً؟
عياض بن عاشور: إن الثورة مزعجة، ولها الكثير من الأعداء الذين لا يريدونها أن تكون أكثر من حادث طريق مؤسف وعابر. والحدث في حد ذاته لم يدم أكثر من 29 يوما، إلى أن فرّ زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/ يناير 2011. وبما أن تونس بلد صغير، فإنها حتى عندما تهتز فإنها لا تهز العالم، وذلك رغم ما حدث من ارتدادات على دول الجوار.
مع ذلك، ما حدث في تونس يستجيب لشروط الثورة الأربعة: أولا، مثلت حركة احتجاج اجتماعي ضخم؛ وثانيا، تضمنت رسالة واضحة وهي رسالة الديمقراطية والكرامة والحرية والعدالة لكل التونسيين؛ وثالثا، أدت إلى سقوط النظام بكل مؤسساته ورموزه؛ وأخيرا أدت لصعود سلطة جديدة، سواء اعتبرناها ثورية أو لا، تعترف بالثورة.
بعد عشر سنوات تبدو حصيلة الثورة قاتمة
عياض بن عاشور: تعاني الدولة من أزمة مالية وحالة ضعف، وباتت عاجزة عن تغطية نفقاتها. كما أن الخدمات الاجتماعية تدهورت بشكل كبير، ونظام التعليم في حالة تراجع، والتحركات الاجتماعية اليومية لم تعد مجرد نيران صغيرة توقد هنا وهناك، إذ لم يعد خطر انفجار اجتماعي يؤدي إلى الفوضى الشاملة أمرا مستبعدا.
انتقلنا من تطرف إلى تطرف آخر، أي من الدولة الموحدة تحت حكم الرجل الواحد، إلى دولة مفتتة تعاني من تعددية مبالغ فيها
لكن الثورة ليست المسؤولة بشكل مباشر عن هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي والمالي، بل يتحمل جزءًا كبيرا من المسؤولية النظام السياسي الذي انبثق عن المجلس التأسيسي، والإدارة السيئة للأوضاع من قبل الإسلاميين. فقد كان هؤلاء أثناء وجودهم في السلطة في الفترة الانتقالية الأولى ما بين 2011 و2014، مهووسين بالرغبة في فرض أيديولوجيتهم. إنهم يفتقرون لمفهوم الدولة، وقد سعوا لتوظيف الناس بأعداد كبيرة ووزعوا المنح المالية بشكل أثقل كاهل الدولة.
على الصعيد السياسي، انتقلنا من تطرف إلى تطرف آخر، أي من الدولة الموحدة تحت حكم الرجل الواحد، إلى دولة مفتتة تعاني من تعددية مبالغ فيها وخلافات دائمة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة. هذه الأزمة رغم تعقيدها ليست أزمة ديمقراطية. رغم المطبات الحالية، يمكننا أن نفخر بمكتسبات حرية التعبير وتأسيس مجتمع مدني قوي ووضع لبنات الديمقراطية: وهي دولة القانون والمؤسسات والانتخابات ومراقبة السلطة.
لماذا فشلت الثورات العربية في الدول الأخرى؟
عياض بن عاشور: في سوريا بدأت الثورة بشكل جيد جدا. وفي ليبيا كانت تجربة المؤتمر الوطني العام واعدة. وفي اليمن كان مؤتمر الحوار الوطني على وشك النجاح في تحدي الانتقال الديمقراطي. كل دولة من هذه لها تاريخها الخاص بها، والمؤكد أن الثورات الديمقراطية كانت تزعج الكثيرين. ومن كان سيقبل بها في العالم العربي والإسلامي؟ السعودية؟ أم إيران؟ هذا أمر غير وارد البتة، لأن هذه الثورات تتعارض مع طبيعة هذه الدول أصلا.
حتى قبل تدخل القوى الأجنبية الكبرى، كانت القوى الإقليمية قد أقحمت نفسها، مصممة على الدفاع عن مصالحها وإفشال هذه الثورات، وذلك بمباركة في بعض الأحيان من الدول المعنية نفسها. فما كان مصير بشار الأسد لولا الدعم الروسي؟ إذن هذه الثورات تاهت في غياهب التاريخ، وفسحت المجال إلى حروب نصف الطريق، التي لا هي بالحروب الأهلية ولا الدولية.
لماذا نجت تونس من هذا التدخل الخارجي؟
عياض بن عاشور: عامل المفاجئة هو بلا شك ما ساهم في حماية تونس، إذ أن ثورتها أخذت العالم بأكمله على حين غرة. وباراك أوباما أشار إلى هذا في مذكراته. والمؤامرة المزعومة التي حاكتها الولايات المتحدة للتخلص من بن علي هي فكرة أجدها مضحكة، رغم أن واشنطن بعد ذلك امتنعت عن مساعدته على استعادة حكمه. إن تونس منذ القرن التاسع عشر كانت تتميز بتقاليد إصلاحية.
بعد عقود أصبح العالم العربي والإسلامي في حالة غليان.
هذه الثقافة الليبرالية المترسخة فينا سمحت لنا على سبيل المثال بالتصدي لصياغة دستور إسلامي في 2012 و2013، عندما كان الإسلاميون يسيطرون على المجلس التأسيسي. كما أن الجيش بقي على هامش السلطة في تونس رغم كل ما حدث.
على عكس مصر؟
عياض بن عاشور: مصر لم تعرف في تاريخها إلا الثورات العسكرية. فالناصرية بدأت بثورة عسكرية، وسقوط مبارك في 2011 أعقبه تشكيل مجلس عسكري أمسك بمصير الثورة. وعودة الاحتجاجات ضد الإسلاميين في 2013 كان يقف وراءها العسكر الذين دعموا انقلاب الجنرال السيسي، بمساعدة من الأمريكيين. ولعل هذا ما أكده عالم الاجتماع أنور عبد المالك عندما كتب في 1962: “إن مصر مجتمع عسكري”. هذا يبقى صحيحا، إذ أن الجيش ليس واحدا من مؤسسات الدولة، بل هو الدولة.
هل لعب الصراع بين السنة والشيعة دورا في هذا الفشل، كما حدث في اليمن؟
عياض بن عاشور: حتى ألدّ الأعداء يمكن أن يتعايشوا. فاليوغوسلاف – على سبيل المثال – كانوا إخوة تحت حكم تيتو لعدة عقود من الزمن. ولكن ما إن يأتي شخص ويحرك وتر القومية حتى يحدث الإنفجار. بعد رحيل الرئيس علي عبد الله صالح، اتفق اليمنيون بمختلف مذاهبهم على مبادئ وحريات معينة، إلى أن تدخلت إيران وبرز الحوثيون الشيعة، وجاء التدخل العسكري السعودي الذي حول اليمن إلى ساحة حرب مأساوية.
بعد كل هذه الثورات المحطمة، هل بقي شيء من الأمل رغم كل شيء؟
عياض بن عاشور: للأسف لم تكن الأنظمة الدكتاتورية لتجد حليفا لها أفضل من فيروس كورونا. بذور الثورات زرعت، وسوف تزهر عاجلا أم آجلا. هذه البلدان المحطمة اليوم سوف ينتهي بها المطاف للاعتراف بالانتقال الديمقراطي، من أجل تحقيق الحرية ودولة القانون. والخطأ هو الغرق في تفاصيل الحاضر التي تعطي انطباعات خاطئة وتقود إلى استنتاجات مغلوطة، وتوهمنا بأبدية الدكتاتورية في سوريا والحرب في اليمن ونظام السيسي في مصر والفوضى في ليبيا، كأن هذه الأحداث ستستمر حتى نهاية التاريخ.
ليس هناك أي تناقض بين الإسلام كديانة والديمقراطية. إن تفسيرات الإسلام هي التي تعاني من انقسام شديد
في الواقع، لم يتم إسدال الستار بعد، ويجب التفكير على المدى البعيد. بعد عقود أصبح العالم العربي والإسلامي في حالة غليان. حدث الحراك في الجزائر والاحتجاجات في لبنان والعراق والسودان في 2019، وكل هذه الأحداث هي في ارتباط مباشر مع ثورات 2011. إن السودان بلد يتميز بديناميكية غير إسلامية. ومصير الحراك في الجزائر لم ينته بعد، ونفس الشيء ينطبق على موجة التصدي للفكر الطائفي في لبنان.
هل تثبت هذه الثورات أن هناك تناقضا بين الإسلام والديمقراطية؟
عياض بن عاشور: ليس هناك أي تناقض بين الإسلام كديانة والديمقراطية. إن تفسيرات الإسلام هي التي تعاني من انقسام شديد. وبعض المناهج الإسلامية لا تتناسق أبدا مع الفكرة الديمقراطية. ولسوء الحظ، فإن المتطرفين يمتلكون أسبقية كبيرة عن غيرهم، حيث أنهم يحتكرون الإعلام والرأي العام ويستفيدون من دعاية مستمرة من خلال عملياتهم الإرهابية وأعمال العنف.
هذا يعطي فكرة خاطئة حول موازين القوى، ويشحذ الرأي العام ضد الإسلام، سواء في شكل كراهية معلنة أو بشكل مبطن، وهذا ما يمنع من رؤية العوامل العميقة التي تحرك المجتمعات. لا يتم النظر إلا إلى تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة في المغرب العربي وبوكو حرام وحركة الشباب الصومالية. وهكذا لا نرى إلا المتطرفين والأصوليين والمسلحين والسلفيين، رغم أنهم يمثلون أقلية في مواجهة إسلام الأنوار والإسلام الليبرالي، وهو الإسلام الموجود في العمق والذي يمثل الأغلبية رغم أنه ليس بارزا في الواجهة.
المصدر: لاكروا