في عام 1227، في منطقةٍ هادئةٍ وسرية، وعلى فراش موت، تنفس جنكيز خان (مؤسس الإمبراطورية المغولية) أنفاسه الأخيرة، وألقى لأبناءه كلمته الأخيرة: “الحياة قصيرة، لم أستطع أن أغزو العالم بأكمله، عليكم أن تفعلوا ذلك”.
هكذا كانت وصية جنكيز خان لأبنائه الأربع، ومن ثم بعدها قسم الإمبراطورية المغولية إلى أربعة أقسام لكل من أبنائه قطعة من الإرث والأرض. من بين هؤلاء الأبناء كان تولوي الذي تسلم ملف القيادة العسكرية لتوسيع الإمبراطورية نحو الشرق باتجاه الدولة العباسية، لكنه لم يستطع أن يعيش طويلًا ليقوم بتلك الحملات الدموية، فأعطى الملف لابنه الأكبر مونكو خان.
أصبح مونكو خان إمبراطورًا للمغوليين عام 1251، وكلف أخاه الأصغر بتكملة إرادة أبيه بالقضاء على الدول الإسلامية، هذا الأخ الصغير أثبت للأصدقاء والأعداء أنه قائد فعال للغاية، مثل جده، فهو لم يخسر أي معركة من قبل، إنه هولاكو، مؤسس الدولة الإيلخانية في الشرق الأوسط، والمُتهم بإنهاء الخلافة العباسية وتدمير العصر الذهبي للإسلام.
البدايات
دولة الخلافة العباسية كانت بالفعل عظيمة وقوية بفضل العلم والإسلام، لكن حينها كانت في مراحلها الأخيرة منهكة ومنهارة، حيث انقسمت إلى عدة سلالات وانشقت عنها العديد من المناطق، وتم احتلال الدولة مرارًا وتكرارًا على مدى سنين من البويهيين والسلجوقيين والفاطميين وغيرهم.
جيش الدولة كان متكونًا من مزيج من العبيد والمماليك والمرتزقة، وكان عرقهم تركيًا وفارسيًا وجورجيًا، وهذا الجيش لم يكن متحضرًا ومدربًا ولم يمتلك أسلحة وعتادًا ذات تقنية عالية.
فقد خسر العباسيون أجزاءً من أراضي باكستان وأفغانستان وإيران للسلاجقة ومن ثم للخوارزمية، وخسروا أيضًا مصر للفاطميين ومن ثم للأيوبيين، وبالتالي انقطعوا عن قارة إفريقيا بالكامل.
كان المغول قد عبّروا بالفعل عن نيتهم باحتلال بغداد قبل عام 1258 حين جرت عادة المغول بقيادة الجنرال كورماكان وبأوامر من أوغوداي (الابن الأول لجنكيز خان ووريث عرشه) على شن حملات غزوية في أربيل شمال العراق التي كانت تحت سيطرة العباسيين، بل حتى تحول اتجاه هذه الحملات نحو بغداد، ما دفع الخليفة المستنصر بالله إلى دفع جزية سنوية لهم، وهذه الخطوة من الخليفة كانت حكيمة جدًا وأدت إلى صمود الخلافة لمدة 16 سنة أخرى.
المغول لم يكونوا فوضويين ولا همجيين، بل كانوا في غاية الدهاء والمرونة، وكل غزواتهم كانت مخططة ومدروسة بإحكام
لكن مونكو خان (حاكم المغول) لم يكتف بالجزية فقط، بل أراد إخضاع الخليفة له خضوعًا تامًا، الشيء الذي رفضه الخليفة المستعصم بالله ابن المستنصر بالله، ما أعطى المغول حجةً لتقديم ضربة قاضية للخلافة الإسلامية.
مفاهيم شائعة خاطئة من التاريخ عن وزير الخليفة والمغول
لنعد إلى العام 1257 الذي وصلت فيه رسالة إلى آخر الخلفاء العباسيين عبد الله بن المستعصم بالله من هولاكو يأمره بالخضوع التام لسلطة المغول، استشار الخليفة وزيره (ابن العلقمي) قبل أن يرد على الرسالة، وهناك العديد من الغموض بخصوص نية هذا الوزير وتورطه في اندلاع الحرب بين الخليفة والمغول، فلكون الوزير شيعيًا، يتهم البعض من خلاله الطائفة الشيعية في العراق بقضائها على الخلافة العباسية.
لكننا سوف نتجاهل هذه المؤامرات لأنها بلا طائل، فحتى لو كان وزيره قد دبر مكيدة له، فاحتلال بغداد جاء بأوامر من إمبراطور المغول ولم يسببه الوزير، والخليفة رفض بنفسه الخضوع للمغول، ولم يقنعه الوزير بذلك رغم تأثيره على القرار، فهزيمة المسلمين في المعركة وسقوط بغداد لا علاقة لها بخيانة الوزير للخليفة.
لم يكن يدرك الخليفة أو بالأحرى كان متغافلًا عن القوة التي يواجهها، فالمغول لم يكونوا فوضويين ولا همجيين، بل كانوا في غاية الدهاء والمرونة، وكل غزواتهم كانت مخططة ومدروسة بإحكام، ولم يخوضوا حربًا إلا بسبب الاضطرار، فنرى مثلًا بأن هولاكو استعان بالمسيحيين الموجودين داخل مدينة بغداد للاستقصاء وجلب المعلومات عن عدد الجنود والعتاد وعن أسوار المدينة وحالها وما حولها.
هذه شائعة خاطئة في التاريخ عن المغوليين، فهم لم يكونوا وحشيين بربريين بمعنى الكلمة، بل استخدموا تقنيات وحشية وبربرية لترهيب الأعداء لا غير، وبالطبع ارتكبوا بعض الأفعال المشينة والقذرة التي لجأوا إليها لتخويف الناس، فهذا مما لا يمكن إنكاره، لكنها لا تختلف كثيرًا عن جرائم الحروب التي كانت ترتكب آنذاك من جميع الأطراف.
ويمكن ذكر بعض السلوكيات التي تدل على نضوج المغول وتحضرهم، فمثلًا كانت هناك قوانين داخل الدولة المغولية ضد الاعتداء على الحيوانات! كقانون عدم قتل أو تجريح الخيول، وكذلك قانون عدم صيد صغار الطيور، وقوانين أخرى مثل منع الأشخاص من التبوّل في الأنهار الجارية لكي لا تتلوث، وبصق الطعام على الأرض كان إهانة عظيمة عندهم، فهذه النصوص تثبت أن المغول كانوا منظمين ومتحضرين.
ما كان على الخليفة أن يعلمه
ما كان على الخليفة أن يعلمه ويستعد له هو فكرة تقليد واقتناء تقنيات وإستراتيجيات مماثلة للمغول، لأنك لو عدت للوراء من التاريخ قليلًا، فسوف ترى بأنه كانت هناك قبيلة مشابهة للمغول بقدراتهم العسكرية وطموحاتهم الإقليمية، قبيلة (شيونغنو) السيئة الصيت، ومثل المغول تمامًا أسسوا إمبراطورية عظيمة في آسيا الوسطى وكانت تمتلك تفوقًا عسكريًا وتقنيًا على جميع أعدائها، لكنهم اصطدموا بحاجز منعهم من احتلال الصين بأكملها بعد أن بدأ الصينيون من سلالة (هان) بتقليدهم واقتناء أسلحة مشابهة لأسلحتهم وحتى لبسوا نفس ملابسهم وخاضوا معارك ذات إستراتيجيات مشابهة لهم، ما أدى إلى هزيمة هذه القبيلة المشابهة للمغول وتوقفها عند حدها.
كان الخليفة متغاضيًا عن الاحتلال، فلم يظهر أي مقاومة لتحركات حملة هولاكو إلى أن باتوا قريبين جدًا من بغداد
كان يجب على الخليفة ووزرائه دراسة طريقة المغول في خوض الحروب وكيف ينتصرون فيها، ومن ثم كان عليهم أن يأتوا بتقنيات متماثلة، تقنيات مثل تدريب الجيوش على إماطة الخيول كالمغوليين وتحويل المشاة إلى الفرسان ذوي الضربات السريعة، واقتناء القوس المركب الذي كان سلاحًا فتاكًا متقدمًا على كل أنواع الأقواس الأخرى، وتكتيكات عسكرية ناجحة وفعالة استخدمها المغول لحصار المدن والقرى.
ما لم يعرفه الخليفة أيضًا أن المغول قبل 30 عامًا من احتلال بغداد استطاعوا الإطاحة بأكبر مدينة في تاريخ الإسلام آنذاك، وهي مدينة بخارى في أوزباكستان، وسنرى الإستراتيجية عينها تُنفذ لاحتلال بغداد بدءًا بحصار مماثل ثم الاختراق ثم القتل والنهب والاغتصاب، فقد كانوا بعد تمكنهم من السيطرة على المدن وخطف السلطة، يعينون شخصًا غريبًا ليحكُم المدينة، وذلك من أجل تقليل احتماليات الخيانة والمقاومة والانقلاب.
أما ما فعله الخليفة في الحقيقة استعدادًا للمعركة هو لا شيء، فلم يستدع جنوده بالكامل في العراق، ولم يستطع أن يقنع الآخرين المنشقين المستقلين في مصر (الفاطميين) والأمراء في سوريا بأنهم اللاحقون بعد سقوط بغداد، ولم يفعل أي شيء لحماية حدود المدينة، وكان متغاضيًا عن الاحتلال إلى درجة أنه لم يظهر أي مقاومة لتحركات حملة هولاكو إلى أن باتوا قريبين جدًا من بغداد وبعد أن استقروا على ضفاف نهر الدجلة.
طريقة المغول في صيد بغداد
أرسل الخليفة 20000 جندي لمقاومتهم، لكنهم لقوا مصرعهم جميعًا بكيد مغولي عبقري، ثم استدعى 50.000 جندي آخر لحماية المدينة من السقوط. هؤلاء الجنود أدركوا قبل الخليفة ووزيره أن بغداد أمرها منتهي لا محالة، فقد استدعى هولاكو أكبر جيش مغولي حتى ذلك الحين، مكون من 150.000 جندي متدرب ومنضبط، بالإضافة إلى الجنود المسيحيين من أرمينيا وجورجيا الذين أرادوا الانتقام من الخليفة لغزواته الدموية ضدهم، وربما كان الشيء الأكثر أهميةً داخل هذا الجيش الكبير هو وجود 1000 خبير مدفعي من الصين، كانوا يستخدمون مجانيق وأسلحة حصار جديدة فعالة للغاية لهدم جدران المدن أو تخطيها، وهو سلاح فتاك اخترعه وطوره الصينيون من سلالة (جين).
في 29 من يناير/كانون الثاني 1258، بدأ المغول بالتقدم نحو بغداد، واستخدموا تقنية مبتكرة لحصار المدينة، وقد تعلموها من صيد الحيوانات، المُسماة بتقنية نيرج (Nerge) التي استعملت لمحاصرة الحيوانات، وهي تبدأ بخط عريض جدًا من الجنود ثم تنحني من نهايته نحو الداخل حتى تكون دائرة، وبعدها تبدأ الدائرة بالتقلص للتقرب من الحيوان أو العدو أو المدينة، وبهذه التقنية، تمكن هولاكو من محاصرة بغداد من جميع الجهات، ومنع أهلها من الهروب بأي وسيلة ممكنة، ويمكننا القول بثقة إن جميع مهارات المغول المميزة في القتال جاءت من صيد الحيوانات، فقد عاملوا الأعداء مثل الحيوانات المُصيدة بالضبط.
تَلتْ بغداد مدينة دمشق، ثم وَجهَ هولاكو انتباهه نحو مصر التي كان يحكمها المماليك
بعد 5 أيام من الحصار، استسلم الخليفة وسقطت بغداد في الـ10 من فبراير/شباط عام 1258م، فدخل الجنود المدينة ودمروا وقتلوا ونهبوا لمدة أسبوع كامل، أصبحت المدينة نتنة بسبب الجثث والحروق إلى درجة اضطر هولاكو نفسه أن ينتقل إلى منطقة لا تهب الرياح تجاهها من المدينة، وقتل جنود المغول كبار العلماء والفلاسفة والأئمة آنذاك، وهدموا عشرات المساجد والقصور والمستشفيات، وأحرقوا العديد من الكتب العظيمة الموجودة في بيت الحكمة والمكتبات الأخرى، وبعضهم خلع أغلفة الكتب الجلدية وحولها إلى صنادل.
ما يقارب 100.000 بغدادي لقوا حتفهم داخل المدينة، من رجال ونساء وأطفال، من المسلمين والمسيحيين واليهود، من العرب والفرس والترك، ثم جاء قضية الخليفة، فلفوهُ في سجادة ودهسوه بخيولهم، لأنهم اعتقدوا أن إراقة دماء الملوك وذوات الشأن سوف تجلب البلاء لهم، لذلك تم قتله من دون وقوع قطرة دم من جسده.
تَلتْ بغداد مدينة دمشق، ثم وَجهَ هولاكو انتباهه نحو مصر التي كان يحكمها المماليك، لكنه اضطر أن يترك الحملة بسبب موت إمبراطور المغول مونكو خان عام 1259، ما جعله يسحب جنوده ويرجع إلى منغوليا من أجل الاجتماع.
سيطر المغول على العراق لمدة مئة عام تقريبًا، حتى أصاب إمبراطوريتهم الانقسام الداخلي وماتت موتة طبيعية، ويُقال إن أوروبا كانت أيضًا لتحتل بالكامل منهم لولا الصراعات الداخلية التي حصلت داخل الإمبراطورية المغولية.
سر نجاح المغول هو التبني والتقليد
إذًا، كيف استطاع مجموعة من الرعاة الذين خرجوا من سهول آسيوية السيطرة على نصف العالم؟ وكيف تمكنوا من إضعاف المسلمين إلى درجة اللاعودة؟ الجواب هو: بقدرتهم على تبني تقنيات عسكرية لم يتأملها أي أحد غيرهم.
كان المغول أكثر قدرةً ومهارةً على إماطة الحصان من المسلمين إلى حد كبير جدًا، فهذه أعطتهم فرصة لشن حملات سريعة وخاطفة، وكان أكثر جنودهم فرسانًا بدلًا من المُشاة، ما جعل المعركة سهلة جدًا بالنسبة لهم، كما طور المغول أيضًا قوسًا متينًا وفتاكًا يسمى “القوس المركب” الذي كان أقوى من أقواس المسلمين ومن كل أقواس العساكر الموجودة في ذاك الوقت، وبهاتين الخاصيتين، تمكن المغول طبيعيًا من تطوير موهبة رمي السهام من ظهر الخيول، فهذه الموهبة أعطتهم ما أعطت تقنية “بليتزكريغ” الألمان في الحرب العالمية الثانية، الطاقة الكامنة والسرعة والمرونة.
آمن جنكيز خان وأبناؤه وأحفاده اللاحقون بأن الإمبراطورية إن لم تتغذ على لحوم الآخرين، فإنها بلا شك سوف تتغذى على لحوم نفسها
وهناك سبب آخر لتغلب المغول على المسلمين، وهو نظام جيشهم المُقيد والقوانين المتشددة فيه، حيث كان يجب على كل جندي مغولي الاستعداد فورًا للحرب والغزو مع الزمن الحقيقي لصدور الأوامر، فالخيول كانت مُعدة والسيوف دائمًا مُصقلة والمعنويات عالية رغم الظروف، وأي بُطء في حركة الجندي، كان يكلفه ضرائب نقدية، وإذا تقاتل المغول في معركة عظيمة وسقط غالبية جنودهم، فإن الاقلية الناجية العائدة قد يُحكم عليهم بالخيانة والموت، وكانوا يدفعون أطفالهم إلى التدرب بالصيد قبل أن ينضموا للجيش.
فمثل هكذا قوانين صارمة وتدريبات عسكرية مُبكرة أخرجت من المغول جنودًا منضبطين وشرّسين مثلما أخرج النظام العسكري في أسبرطة قوى عسكرية مهيمنة في الأغريق.
نهاية الإمبراطوريات
آمن جنكيز خان وأبناؤه وأحفاده اللاحقون بأن الإمبراطورية إن لم تتغذ على لحوم الآخرين، فإنها بلا شك سوف تتغذى على لحوم نفسها، فيجب عليها أن تجد مصدرًا للطاقة لها من الخارج قبل أن تصبح هناك فوضى وصراع على المصادر المحدودة من داخل الإمبراطورية، لذلك أبقى جنوده وجنرالاته مشغولين بالحملات العسكرية التي أتت بثمارها من الغنائم والعتاد والنساء.
الحروب كانت الوسيلة الوحيدة لحماية الإمبراطورية المغولية من الانهيار تحت وزن عظمتها ومساحتها الشاسعة، التي تعد اليوم أكبر إمبراطورية وجدت على سطح الأرض من حيث المساحة، لكنها في الأخير، ماتت تمامًا بسبب وزنها الكبير، كما حدث لجميع الإمبراطوريات الكبيرة والعظيمة، وكما حصل للخلافة العباسية المُتسعة قبلهم بقرن.