هل فكرت يومًا في سبب الامتداد الرأسي العمراني في مدننا المعاصرة؟ إذ كثير من دولنا تحتوي على الكثير من المساحات التي قد تُستغل لخلق بيئة أفقية قريبة من الإنسان، لكن يظل الخيار الرأسي هو الأقرب للاختيار والتنفيذ، فما سبب ذلك؟ وكيف نشأت فكرة النمو الرأسي في العمارة، وما الذي شجعها على الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها؟
فى القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأ الأوروبيون في البحث عن نظام اجتماعي جديد كنوع من أنواع الرفض للماضي البرجوازي، وللتعبير بشكل أدق وأصح عن العصر والتغيرات الحادثة به، والتمسك باحتياجات العصر الجديدة، بالإضافة إلى التخلص من الفوضى والظروف غير الصحية للمدن آنذاك، ووجد المفكرون أن العمارة والمُدن كصورة للحضارة هي أولى خطوات التغيير، فركز المصممون على ابتكار تصميمات جديدة لمدينة قد تكون بمثابة نموذج للمجتمع بما يتماشى مع أيدلوجياتهم المعاصرة.
وأدى ذلك لنقاشات وخلافات عدة من الأفكار والأفكار المضادة، فعلى سبيل المثال، اقترح المعماري الشهير لو كوربوزيه خلق الشوارع والطرق العديدة التي تدعم مرورًا سلسًا وبيئةً صحيةً، فيما عارض كاميلو سيته ذلك قائلًا إن تلك الطرق العريضة تخلق رهاب الخلاء!
في مقالنا اليوم سوف نناقش بعضًا من تلك المباحثات، بالإضافة إلى الحديث عن التأثيرات الإيجابية والسلبية، الاجتماعية والمكانية للإسكان الرأسي والأفقي.
جاردن سيتي
اشتهر إبنزر هوارد مؤلف كتاب “مدن الحدائق للغد” بخطته العمرانية لإنشاء بنية اجتماعية قائمة على التضامن والتعاون وتقليل آثار الرأسمالية من خلال الجمع بين المناطق الحضرية والصناعية والريفية، وبهذا دعم هوارد النمو الأفقي من خلال تصميم مدن الحدائق التي ترتبط بطرق واسعة وتتكون عادة من مساكن منخفضة الارتفاع، وبدعمه للنمو الأفقي وانفصال مدن الحدائق عن بعضها البعض، فقد دعم هوارد اللامركزية بصورتها المعادية للسلطوية المركزية.
المدينة العريضة
يرى فرانك لويد رايت وهو رائد من رواد العمارة الحديثة، أن أمريكا هي أرض “للأفراد”، تميزها الفردية عن غيرها من المجتمعات، وبناءً على ذلك فقد دعا إلى أن تصميم المدن يجب أن يكون فريدًا للأفراد حيث ستختلف احتياجات وأذواق ومشاكل كل فرد.
لذا فقد رأى أن تلك البيئة غير مناسبة لأي تحكم مركزي وأن أي نظام مركزي سيبوء بالفشل، وبذلك فإن اللامركزية تتيح أن يعيش الجميع على أرضهم بنمط الحياة الذي يختارونه، وكان رايت من معارضي ناطحات السحاب الأمريكية والنمو الرأسي في المدن، لأنه يرى أن وضع الناس في نفس “الحاوية” خطأ كبير. يقول رايت بعد الكساد العظيم: “أصبحت ناطحات السحاب جميعًا متشابهة في كل شيء، إن بنية ناطحة السحاب هي مجرد مسألة تقليد مشوه”.
عالم صناعي ميكانيكي
وضحنا في المقال السابق كيف دافع لو كوربوزيه عن أفكاره بتطبيق فكرة النمو الرأسي في التصاميم الحضرية مثل المدينة الإشعاعية. لو كوربوزييه الذي قال إنه إذا قمنا بتصنيع أساليب البناء فلن نتمكن من بناء هياكل فردية واختيارية ومختلفة، في محاولة لحل المشكلات الحاليّة وفقًا للعصر الصناعي والإنتاج الضخم وتصميم الوحدة الأساسية.
وجد لو كوربوزييه أن النمو الرأسي مفيد لأنه يوفر الأرض ويزيد عدد الأشخاص لكل متر مربع بطريقة صحية، ويسمح بالمساحات الخضراء ويقلل من ضياع الوقت بين العمل والمنزل، وأيد ظهور الرأسية العمرانية، أفكار فريدريك وينسلو تايلور عن الكفاءة والميكنة.
عارض الكثير من الناشطين تلك الأفكار لأنها غير إنسانية على الإطلاق، بالإضافة إلى أن المعماريين الحداثيين لم يأخذوا في الاعتبار احتياجات المستخدمين والأفراد، فلم يكن المعماريون يحاولون إجابة سؤال “كيف يريد الناس حقًا أن يعيشوا؟”، بل إن هدف الكثير منهم كان فقط اللحاق بركب المجتمع الميكانيكي مما أدى إلى نسيان الفرد.
وفقًا لكاثرين باور، الناشطة المعمارية، فإنه على الرغم من أن الشغل الشاغل للعمارة الحديثة كان التنمية الاجتماعية والحضرية، فإن المباني الشاهقة مرتفعة التكلفة ومنخفضة الخصوصية ولا تتمتع بالإضاءة الجيدة، وهذا ينسف فكرة توجيه تلك المباني كتوفير سكني للمشردين والفقراء الذين بوجه كبير لن يتحملوا التكلفة الاقتصادية للسكن في تلك المباني.
وقد اعترض على تلك الأفكار بعض المفكرين الحداثيين الذين ادعوا أن استيعاب عدد كبير من الفقراء والطبقة العاملة مع الوصول إلى الضوء والهواء النقي والمرافق الحضرية الأساسية كان سؤالًا اهتم به رواد الحركة الحديثة وسوء الأوضاع لم يكن اختيارًا، بل تضحية من أجل أهداف أسمى.
واعترضت باورعلى ذلك معتبرة السكن الجماعي الحديث ليس فقط مكانًا للسكن، لكن كمكان يؤسس شبكة اتصال مع من حوله مثل الحي والمدرسة وأماكن الترفيه وأماكن النقل والمكاتب، قائلة: “…نحن نُجبر على أن نكون جزءًا من آلة طوال اليوم، هم يريدوننا أن نكون روبوتًا مثاليًا يعيش في بيئة غير شخصية، نحن نعترض على محاولة ميكنة المجتمع كله”.
المباني الرأسية تقلل من الخصوصية وهي باهظة الثمن بوجه عام، ولا تتناسب مع المقياس البشري ولا تركز على الاحتياجات الإنسانية
لذا فقد دعت باور إلى أن فكرة التطوير السكني الحديث يجب أن ينمو أفقيًا لأنها تعتقد أن المباني الشاهقة تخلق مساحات عالية الكثافة وتدمر الخصوصية في المساحات الخارجية، إلى جانب تحويل الساكنين إلى فكرة “الأشخاص الميكانيكيين”، فالمسكن المثالى يجب أن يحتوى على حديقة خاصة ومساحة كافية للاحتياجات الفردية، ويجب أن يكون وفقًا للتقاليد الثقافية والقيم التاريخية، ويجب أن يكون كذلك في متناول الفقراء.
وتوضح باور أيضًا أن تكاليف الإسكان الرأسي ليست بالضرورة أرخص من الإسكان الأفقى، فالتكلفة الإضافية للجدران الخارجية وزيادة استخدام الأراضي بسبب الظلال الطويلة والواجهات الميتة والبنية التحتية الإضافية ونفقات التدفئة والتبريد وغيرها، كل ذلك يزيد من تكلفة البناء على المدى الطويل.
وإذا قارننا المزايا والعيوب، يمكننا أن نرى أن المباني الرأسية مركزية، موفرة بذلك وحركة مرور مريحة، وتوفر الوقت حيث يمكنك السكن بجانب عملك أو المناطق التي تتردد عليها كثيرًا، وتوفر أيضًا المزيد من المساحات المفتوحة، وتجربة الارتفاع عن الأرض والاستمتاع بمنظر مُطل على المدينة، وتوفر التعايش بين المنازل والخدمات ذات الإنتاج الضخم، لكنها على الجانب الآخر لا تبهج الساكنين كالإسكان الأفقى وتقلل من الخصوصية، وهي باهظة الثمن بوجه عام، ولا تتناسب مع المقياس البشري ولا تركز على الاحتياجات الإنسانية.
ويمكن القول إن المنازل التي تنمو أفقيًا لها خصائص فردية وموجهة نحو الاحتياجات الإنسانية وبأسعار معقولة وخفيفة وجيدة التهوية وتحافظ على الثقافة ولا تضع الناس مُقدمًا في قوالب، ولأن أذواق وميول البشر تختلف من مكان لمكان، ومن عصر لعصر، فقد نرى البعض يُفضل أن يسكن مسكنًا خاصًا، والبعض قد يهوى سُكنى ناطحات السحاب.