سيطر مفهوم اليوتوبيا على الفن والعمارة، حيث ساهم الفنانون والمعماريون والمصممون والمؤرخون والفلاسفة في صياغة الخطابات الطوباوية بطرق مختلفة.
تستمر الخطابات الطوباوية في التطور اليوم، مع وجهات نظر جديدة في ضوء المفكرين السابقين، لكن يمكن القول إن الميزة الأكثر أهمية التي تجعل استخدام مفهوم اليوتوبيا في العمارة جذابًا هي قدرته على انتقاد الحضارة المعاصرة – أيًا كانت تلك الحضارة والثقافة -، فهذا المفهوم يتم تطويعه لخدمة الفكرة المطروحة، فاليوتوبيا أداة مفيدة لخلق الحجج حول المجتمع الحديث، لنقل المجتمع إلى ما بعد حالته الحاليّة أو لكي تصبح الجماهير على وعي بوضعهم من وجهة نظر الطارح وعلى وعي بالوضع الذي ينبغي أن يكونوا أيضًا عليه!
ومن المعلوم أن الكثير من المنظرين المعماريين والمؤرخين طوروا نقدًا ناضجًا للحداثة، لكن هل كانت الأطروحات المعمارية الحداثية أيضًا تقدم طرحًا طوبويًا هي الأخرى؟
من أسباب التخطيط الفوقي والتوحيد المدني هو التجانس ولا شك، حيث يمكن إنشاء تجمعات يمكن حصرها، وإجبارها على التجانس والتحكم بها فيما بعد.
لفهم تلك الأطروحات الحداثية علينا أن نفهم السياق العام الذي وُلدت فيه، حيث ظهرت الإشكالية الأشهر وهي العلاقة بين الإنسان والميكنة، ومحاولة إضفاء الطابع الإنساني على حضارتنا الآلية، بالإضافة إلى تسليع العمارة وتحويلها إلى منتج يدور في فلك الرأسمالية العامة وثقافة المجتمع الاستهلاكي.
فجاءت من طرف محاولات لإظهار أن تلك الأفكار من التخطيط الفوقي والتمدن الوحدوي وغيرها، ليأتي ضدها تيار يمثل رد فعل على النفعية في التمدن وتوحيد البيئة العمرانية بما فيها من تشابه وتكرار للمساحات ووفرة القيود المختلفة التي تم إنشاؤها بواسطة التصاميم التي تفرضها السلطات.
التجانس
من أسباب التخطيط الفوقي والتوحيد المدني هو التجانس ولا شك، حيث يمكن إنشاء تجمعات يمكن حصرها، وإجبارها على التجانس والتحكم بها فيما بعد.
يؤرخ الكاتب الشهير جيمس سكوت لخصيصة تُعتبر واحدةً من أساسات الدولة الحديثة، وهي مشاريع الهندسة الاجتماعية والتخطيط التنموي والإدارة اليومية والتفصيلية للمجتمع، فيقول سكوت إن الإمبراطوريات القديمة لم تكن مهتمة كدول عصرنا الحاليّ بتوحيد الطريقة التي يعيش بها الناس، وهذه السياسة لم تكن أمرًا مصيريًا يتحدد عن طريقه مستقبل الدولة.
ويعرض سكوت في مستهل حديثه أن الدولة تسعى سعيًا حثيثًا لجعل المجتمع “مقروء” على حد قوله، وفي طريق ذلك فهي تمارس نوعًا متميزًا من القمع الاجتماعي والعمراني، ونحن قد نرى هنا أيضًا سببًا آخر أو إجابة مُكملة لسؤال: لماذا تقاطعت أحلام الدولة ومعماريي الحداثة؟
في المقارنة بين لينين والمعماري السويسري الشهير لو كوربوزييه الذي أشرف على تصميم مدن كاملة من الصفر في آسيا كمدينة تشاندريجاه بالهند، وتأثر به العديد من معماريي ومُخططي العالم ونُقلت تجاربه إلى كل الأنحاء في أوروبا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وتسبب بكوارث عدة كما يصفها الكاتب، ويجد جيمس سكوت أن بينهما نوعًا من التشابه الذي لا يمكن إنكاره، فكلاهما مؤمن بالوضوح الإنساني السلس والمدمر. “صحيح أن الدولة الديكتاتورية المستعدة لتطبيق التصاميم من أعلى، هي شرط من شروط التخطيط الكارثي، لكن العكس جائز وضروري أيضًا، فقد ساعد التخطيط الحديث على اعتبار هذه الديكتاتورية حاجة ماسة، ولقد قدم الإنتاج الحديث قاعدة (لتأسيس) الديكتاتورية الضرورية تقنيًا”.
ويوضح الباحث عز الدين التميمي أن نظريات التنمية الحداثية تتجاهل عمدًا، مثلها مثل سياسات التخطيط في الدول الإمبريالية، قيم ورغبات وفاعلية رعاياها، وهناك أربعة عناصر مشتركة بين جميع مشاريع التخطيط التي أفضت إلى كوارث حسب جيمس سكوت: العنصر الأول هو الترتيب الإداري للطبيعة والمجتمع، والعنصر الثاني هو وجود أيديولوجيا مفرطة الحداثة تثق في قدرة العلم على تحسين كل جانب من جوانب الحياة البشرية، أما العنصر الثالث فهو دولة استبدادية مستعدة وقادرة على استخدام قوتها القسرية لتطبيق هذه التصاميم الحداثية على أرض الواقع، وهناك عنصر رابع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالثالث، حسب المؤلف، وهو مجتمع مدني ضعيف يفتقر إلى القدرة على مقاومة هذه الخطط.
فلنطلع الآن على أحد أمثلة التخطيط الفوقي ثم نعود لمناقشة هذه النقطة بعد اتضاح الصورة نوعًا ما.
يوتوبيا 1
مثلت “المدينة المُشعة” للمعماري لو كوربوزييه تصوراته لمدينته الطوباوية، تلك المدينة التي صممها لو كوربوزييه في عشرينيات القرن الماضي، كان من المفترض أن تكون مدينة مُلقية بإشعاعاتها ليس فقط لإنشاء مدن حضرية أكثر عقلانية بل أيضًا لإصلاح اجتماعي جذري من وجهة نظر المعماري.
كان تصميم تلك المدينة مستوحى بشكل تجريدي من ترتيب ووظائف الجسم البشري الذي يتألف من أجزاء مُنظمة تعمل معًا ككُل، فكانت الإستراتيجية الأساسية وراء هذه المخططات المختلفة هي إنشاء بنية عمودية وترك الكثير من المساحات المفتوحة المشتركة بين الناس لاستخدامها والاستمتاع بها، وستكون المناطق الأفقية الناتجة بمثابة ممرات مرورية ومناظر طبيعية عامة ذات مساحات خضراء مورقة.
تم تخصيص طرق مخصصة للمشاة وراكبي الدراجات والسائقين ومستخدمي وسائل النقل العام للإقامة على ارتفاعات مختلفة، وكل شيء في المدينة سيكون متماثلًا وموحدًا، في المركز، سيتم ربط المنطقة التجارية بمناطق سكنية وتجارية منفصلة عبر أنفاق مُخصصة تحت الأرض، وستكون أبراج الإسكان الجاهزة بمثابة قرى رأسية بها مغاسل خاصة بها بالإضافة إلى رياض أطفال وملاعب على السطح، وستتمتع الشقق بإطلالات على الأماكن العامة المشتركة، كما سيتمتع السكان بالسلام والهدوء بمعزل عن المناطق الصناعية.
تبدو تلك الكلمات والدعايات الرنانة مدغدغة لمشاعر العُمال والطبقة المتوسطة التي عانت الأمرين في البيئات العمرانية الأوروبية التي افتقدت الكثير منها للنظافة والراحة الإنسانية، فهل نُفذت تلك الدعاية وأدت النتائج المرجوة لها؟
يوتوبيا 2
“مساحات خضراء شاسعة، فضاءات عامة، فصل للمشاة عن السيارات وتوفير مناطق خاصة بالسكنات وفصلها عن الأماكن التجارية والصناعية لتوفير حياة هادئة مطمئنة، بيوت تتمتع بضوء الشمس بشكل مستمر طوال العام، مع بلكونات واسعة جدًا للاستمتاع بالمناظر الطبيعية وضوء الشمس!.. مرحبا بكم في مجمع بلمر!”.. هذه كانت ميزات هذا المجمع السكني الذي شُيد في هولندا في أواخر السبعينيات من القرن الماضى، هذا المجمع الذي بُنى وفقًا لمبادئ العمارة والتخطيط العمراني الحداثية، أي المنتمية لأفكار الحداثة والحداثة هنا تعبر عن أفكار وطرز معماري لا عن زمان بعينه، فكيف بدأت القصة؟
اجتمع مجموعة من أبرز معماريي هذا العصر في اليونان في مؤتمر “سيام”، وأثاروا قضية ازدحام المدن وتلوثها وفوضويتها واقترحوا أن يتم فصل وظائف المدينة إلى مناطق متنوعة للسكن والعمل والترفيه وحركة المرور.
وخطط المعماريون وأبرزهم المعماري السويسري الفرنسي الشهير لو كوربوزيير – من رواد العمارة الحداثية – أن مساحات المعيشة عليها أن تكون في شقق شاهقة الارتفاع بحيث يكون مستوى الأرض مفتوحًا للترفيه والمساحات الجماعية، أي أن الفكرة كانت أن تعيش في السماء، وتلعب على الأرض! وحتى السيارات فكروا أن يجعلوها تنفصل عن طرق المشاة بوضع الطرق على ارتفاعات مختلفة وأوضح المعماريون أولئك أنه حيث كانت المدن الأوروبية القديمة متعرجة ومليئة بالتلوث، ستكون هذه المدينة الجديدة خطية ومفتوحة ونظيفة، مع وجود كل شيء في مكانه الصحيح.
وعند قراءتك لتلك الأطروحة ستجد أن النية المُعلنة طيبة وقد تكون أيضًا منطقية نوعًا ما للوهلة الأولى! وبالفعل أعجبت الحكومات بتلك المخططات لأن تلك البناءات الشاهقة ستأخذ مساحة أقل من البيوت منخفضة الارتفاع وكذلك ستوفر الكثير من الأموال، فالبناء بالخرسانة أرخص بكثير من طرق البناء السابقة لذلك العهد.
تحمست هولندا لتلك الخطط وتم التخطيط لبناء بلمر خارج أمستردام، وبعد الانتهاء من الكثير من الوحدات بدأت المشاكل، فخط المترو الذي كان مخططًا له الربط بين بلمر وأمستردام تأخر افتتاحه، وكان وسيلة الربط الوحيدة بين ثنائيتهم طريق ترابي يؤدي إلى ذلك المجمع المتماثل الذي لم يكن يحتوى على مركز أو ميدان، ما يثير الحيرة وانعدام التوجه الحدسي وصعوبة إيجاد طريقك بسبب تماثله الشديد، فمن الصعوبة أن تجد أي شخص لتسأله، فأنت حرفيًا فى منتصف اللاشيء.
المشكلة الأخرى أن المصممين خططوا لمنطقة تسوقية، لكن لم يفتتح أي أحد أي محلات، فلم يكن هناك إذًا أي مكان لشراء المنتجات بالقرب من ذاك المكان، وبسبب هذا الانعزال، بدأ تراجع العملاء عن التقدم لطلب شراء الوحدات ببلمر ومع ذلك تم الاستمرار فى بناء الوحدات، 31 بناءً ارتفعوا يضمون 13 ألف وحدة سكنية ومعظمهم خالٍ تمامًا! فلنتخيل المشهد معًا، 13 ألف وحدة سكنية ومئات المصاعد الكهربائية وكوريدورات طويلة ومواقف سيارات فارغة، كل ذلك تسكنه الأشباح، مشهد يثير الرعب. فما الحل إذن؟
لحسن حظ الحكومة أن في تلك الفترة تم استقطاب العديد من المهاجرين، من سورينامي وغيرها، عشرات الآلاف من المواطنين الهولنديين الجدد أتوا لهولندا وبالطبع كانت فرصة ذهبية للحكومة لإسكان كل المهاجرين في تلك الوحدات الفارغة، لكن مع ذلك الزحف الرهيب نفر الهولنديون الأصليون من تلك الوحدات وأصبح مجمع بلمر حرفيًا ملجأ لمن لا ملجأ له، ومحتمى لكل من يتعرض للعنصرية أو الطبقية أو الازدراء من المجتمع، فالمهاجرون المسلمون، العرب، الأتراك، السوريناميون، وبعيدًا عن العرق فحتى الشواذ المنبوذين من المجتمع آنذاك شغلوا تلك الوحدات! ومجتمع كهذا من السهل أن تتولد فيه الجريمة والاتجار بالمخدرات، فأصبح بلمر مكانًا ينفر منه الهولنديون حتى تمت تسميته “مجاري هولندا”!
“لم نضع لأنفسنا شيئًا أقل من اكتشاف السبب الذي يجعل البشرية ، بدلاً من الدخول في حالة إنسانية حقيقية، تغرق في نوع جديد من الهمجية”.. هيلد هينين.
وبالفعل فقد ارتفع معدل الجرائم فى تلك المنطقة بنسبة تماثل عشرة أضعاف النسبة الموجودة بهولندا، ومن ثم قررت هولندا أنها يجب عليها هدم الكثير من تلك المباني لتحويل المنطقة إلى منطقة معتدلة مجددًا، وفي أثناء التفكير في كيفية الهدم وحيثياته حدث حدثًا شنيعًا، حيث ارتطمت إحدى الطائرات التي فقدت إحداثياتها بأحد المباني مخلفًا أكثر من 40 ضحية!
فكانت تلك نقطة البداية للهدم شبه الكلي للكثير من الوحدات السكنية واستبدالها ببنايات من دور إلى خمسة أدوار مع إرجاع دمج المناطق السكنية والتجارية وإنزال طرق السيارات مجددًا إلى مستوى المشاة.
وبلمر ليست المثال الوحيد، فهنالك أمثلة أكثر شهرة مثل بروت إيجو وغيرها من تلك الأفكار التي بدأت الدول الأوروبية تتراجع عنها الآن، ومع ذلك ما زالت بعض الدول النامية متمسكة، بل وتبدأ بالتوسع في استخدام هذا الطرح المتأخر عن العالم بعقود عدة!