خيمت سحب الأمل على أجواء العالم هذه الأيام في أعقاب اكتشاف العديد من اللقاحات الخاصة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) الذي عاود موجته الثانية التي يبدو أنها ستكون أشد فتكًا من الأولى، لا سيما بعدما اقترب عدد المصابين الجدد يوميًا من 750 ألف شخص فيما تجاوز عدد الوفيات 15 ألف.
ومع إعلان بدء دخول اللقاحات مرحلة التجربة الفعلية خلال الأيام الماضية استبشر الجميع خيرًا بقرب انقشاع تلك الغمة التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد العالمي فأصابته بالشلل في كثير من مجالات الحياة اليومية، بعد أن وصل عدد الإصابات الإجمالية منذ ظهور الفيروس 76.8 مليون شخص، توفي منهم 1.9 مليون حتى اليوم.
دفع هذا البصيص من الأمل البعض إلى ترجيح حدوث تعافٍ سريع لمنظومة الاقتصاد العالمي الذي تأثر كثيرًا بسبب تلك الجائحة التي لم ينج منها أحد، لكن يبدو أن الإفراط في هذا الأمل وتلك الطمأنينة رهان في غير محله، إذ إن الأجواء لا تزال محاطة بالشكوك والسيناريوهات المفتوحة على الاحتمالات كافة.
توهم البعض أن بظهور تلك اللقاحات فإن الأزمة انتهت، وأن إسدال الستار على تلك الصفحة السوداء بات مسألة وقت ليس بالطويل، غير أن هناك العديد من المؤشرات تحمل بين طياتها الكثير من الإجابات عن بعض التساؤلات التي تفرض نفسها بشأن مستقبل كورونا والجدول الزمني للتعافي منها التي تذهب جميعها إلى أن مأزق مرحلة ما بعد اكتشاف اللقاح لا تقل ضراوة عن المرحلة التي سبقتها.
أعياد الميلاد واحتفالات رأس السنة
التحدي الأول الذي يواجه مسار التعافي من الوباء يتمثل في المخاوف المترتبة على تجاوز الإجراءات الاحترازية فيما يتعلق باحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة المقرر لها بعد أيام، وهو الأمر الذي يرجح معه زيادة كبيرة في أعداد الإصابات بمختلف دول العالم.
ورغم محاولة العديد من الحكومات والبلدان تقييد هذا التحدي من خلال فرض قيود مشددة على تلك الاحتفالات ومنع إقامتها في بعض الدول، فإن هذا الأمر ليس مضمونًا بالكلية، خاصة أن الكثير لم يرتق بمستوى وعيه إلى الحد الذي يجعله يرى في مثل تلك التجمعات خطرًا يهدد حياته.
مشاهد التظاهرات والتجمعات العارمة في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة بين أنصار المرشحين الديمقراطي والجمهوري، والإقبال على الانتخابات البرلمانية في بعض البلدان كالكويت والأردن، بجانب التظاهرات الاحتجاجية في العديد من العواصم الأوروبية كباريس، تشير إلى أن القادم ليس بالهدوء الذي يتصوره البعض.
ففي مصر على سبيل المثال رغم منع إقامة احتفالات رأس السنة الميلادية رسميًا، فإن الكثير من الحفلات الخاصة سيقيمها بعض رجال الأعمال، هذا بينما تتواصل الدعاية لبعض تلك الحفلات في المراكب العائمة والملاهي الليلية الشهيرة في القاهرة.
وعليه فإن الإصرار على المضي قدمًا في إقامة تلك المناسبات بما تتضمنه من نمط سلوك اجتماعي معين يتعارض كلية وتفصيلًا مع الإجراءات الاحترازية المفروضة، ينقل مسألة قدرة اللقاحات المنتجة على القضاء على الوباء من وضعية التفاؤل إلى الحذر والترقب.
بوريس جونسون: هذا التطور يجعل الوباء “أكثر قابلية للانتقال” بنسبة تصل إلى 70%
تحور الفيروس
في الوقت الذي نجحت فيه بعض الدول في إنتاج لقاحات ذات قدرة كبيرة في التعامل مع “كوفيد 19” وفق ما يتضمنه من خصائص جينية ووراثية وعضوية، أعلنت الحكومة البريطانية اكتشافها تحورًا جديدًا داخل الفيروس ما تسبب في سلالات أخرى باتت تحقق انتشارًا نسبيًا، وهو ما يعد تحديًا كبيرًا أمام اللقاحات التي تم إقرارها مؤخرًا.
وزارة الصحة البريطانية أشارت إلى أن اكتشافها للتحور الجديد في الفيروس الذي أطلقت عليه اسم “VUI – 202012/01” جاء بعد زيادة أعداد الإصابات به في العاصمة ومقاطعة كنت (جنوب شرق) هذا بجانب ترجيح زيادات أخرى في حالات الإصابة.
التطور الأخير الذي شهده “كوفيد 19” تضمن 17 طفرة جديدة على الأقل، أثرت في شكل الفيروس الخارجي، فيما قال رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، إن هذا التطور يجعل الوباء “أكثر قابلية للانتقال” بنسبة تصل إلى 70%.
العديد من المواقع العلمية نقلت أن هذا التطور لم يكن الأخير الذي تعرض له الفيروس خلال الفترة الماضية، فقد طرأت عليه طفرة جديدة تحت مسمى “614G” في بروتين النتوءات خلال الشهرين الأخيرين، كان قد سبقها طفرة أخرى “614D” في أبريل/نيسان الماضي.
يذكر أن عدد الإصابات بتلك السلالة الجديدة ارتفعت إلى 1108 حالات منذ 13 ديسمبر/كانون الأول وحتى اليوم، الأمر الذي دفع العديد من الدول لغلق مجالها الجوي مع بريطانيا خشية انتقال الوباء بتطوراته الجديدة وهو ما حدث مع إيطاليا التي شهدت أول إصابة من هذا النوع، فيما تشير بعض التقارير إلى تعرض دول أخرى دون ذكر إحصاء رسمي بأعداد تلك الإصابات.
شكوك بشأن نتائج اللقاحات
لم يتم اختبار نتائج تلك اللقاحات بالصورة الكافية للحكم عليها وعلى مدى تأثيرها وقدراتها في القضاء على الفيروس، إذ إن معظمها لا يزال في طور التجربة، فيما ذهبت بعض الشركات المنتجة لأحد تلك الأنواع بأن الأمر يحتاج إلى عام كامل من التجربة للوصول إلى التقييم النهائي للقاح.
وفي المقابل وفي ظل المنافسة الشرسة بين الشركات المنتجة أثيرت مسألة التشكيك في قدرة اللقاحات والآثار الجانبية التي يمكن أن يتعرض لها الشخص الذي يتلقى الجرعة، وتبادل أنصار الشركات المنتجة السجال فيما بينها بشأن جودة وكفاءة اللقاحات ومدى الأمان في تعاطيها.
يذكر أن هناك أكثر من خمس لقاحات تتنافس فيما بينها للحصول على نصيب الأسد من المبيعات، تتوزع على دول أمريكا وبريطانيا وروسيا والصين، يأتي في مقدمتها لقاح “فايزر – بيونتيك” و”موديرنا” الأمريكيين ولقاح “أكسفورد – أسترا زينيكا” الأمريكي البريطاني.
علاوة على ذلك هناك اللقاح الروسي “سبوتنيك 5” وهو المرشح الأول في روسيا للقضاء على “كوفيد 19” بجانب اللقاح الصيني “كانسينو” وفروعه المختلفة التي من المرجح أن تنتشر بصورة أكبر في الدول الفقيرة نظرًا لأسعاره الرخيصة نسبيًا مقارنة باللقاحات الأخرى.
القصور الذي شاب خريطة توزيع اللقاحات على المستوى العالمي يحمل الكثير من المخاطر والتهديدات المتعلقة ببقاء الفيروس داخل الملايين من الأجساد الحاضنة له من غير القادرين على الحصول على اللقاح
التسييس وسوء التوزيع
وفق بروتوكولات منظمة الصحة العالمية فإن الأكثر تضررًا والأعلى احتياجًا وإصابة هو الأوفر حظًا في الحصول على اللقاح والعلاج، لكن خريطة توزيع اللقاحات – محدودة الكميات قياسًا بأعداد الإصابات – تشير إلى عكس ذلك تمامًا، فالأكثر قدرة على الدفع هو الأوفر نصيبًا في الحصول على الدواء.
القصور الذي شاب خريطة توزيع اللقاحات على المستوى العالمي يحمل الكثير من المخاطر والتهديدات المتعلقة ببقاء الفيروس داخل الملايين من الأجساد الحاضنة له من غير القادرين على الحصول على اللقاح، وهو ما يمثل كابوسًا من الممكن أن يفجع العالم كله، بمن فيهم من حصلوا على اللقاح.
العديد من المبادرات أشار إليها الخبير الاقتصادي المصري إبراهيم نوار من أجل ضرورة أن تصل اللقاحات “إلى الأكثر احتياجًا أولًا، وليس الأكثر قدرةً على دفع المقابل” التي ترعاها بعض المؤسسات الإقليمية والدولية مثل البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي.
إلا أنه ألمح في مقاله المنشور في “القدس العربي” إلى أن لعنة التسييس ربما تصيب جدوى هذه اللقاحات، لافتًا إلى أن نطاق التغطية المقترح أن تشمله تلك المبادرات لا يتناسب مطلقًا مع الاحتياجات المطلوبة لتمويل توزيع العلاج على الدول المحتاجة بالفعل في مختلف أنحاء العالم، محذرًا أن ذلك يقلل من احتمالات التعافي من هذا الوباء، صحيًا واقتصاديًا.
وفي المحصلة فإن التفاؤل المفرط فيه بشأن دخول لقاحات “كورونا المستجد” بشتى أنواعها، دائرة العمل والتجربة في بعض الدول، والتسابق اللافت للحصول عليها بأي ثمن، لا بد أن يكون حذرًا في انتظار كيفية التعاطي مع التحديات الأربع السابقة التي ستحدد بنسبة كبيرة مستقبل الوباء الذي بات من الواضح أنه لن يقف عند حاجز “كوفيد 19” فقط، وهو تحد آخر يحتاج إلى دراسة أكثر استفاضة.