مضت أربعة أعوام على سيطرة النظام السوري والمليشيات الروسية والإيرانية على كامل مدينة حلب، أحد أبرز مناطق سيطرة المعارضة، التي تحتل مرتبةً معنويةً ليست قليلة لدى معظم السوريين الذين ثاروا ضد النظام السوري، نظرًا لمكانتها الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في انهيار النظام السوري تدريجيًا، حيث خسرت المعارضة السورية مدينة حلب في 22 من ديسمبر/كانون الأول 2016 بعد معارك وقصف روسي دام شهرين على أحياء المدينة الشرقية التي كانت تخضع لسيطرة المعارضة السورية آنذاك، ويعتبر سلاح الجو الروسي أحد أبرز الأسباب التي ساهمت في انهيار دفاعات المعارضة لحساب النظام والمليشيات الإيرانية.
انتهت العمليات العسكرية التي تقودها روسيا من الجو ومليشيا إيران والنظام من الأرض باتفاق أجري بين تركيا وروسيا يضمن خروج مقاتلي المعارضة وعائلاتهم من الأحياء الشرقية المتبقية تحت سيطرتهم إلى مناطق غربي حلب، في حين يسيطر النظام على كامل المدينة.
وتوزعت السيطرة بين المليشيات المحلية المدعومة من النظام، كمجموعات الشبيحة التي أطلق عليها لاحقًا “القوات الرديفة” وكذلك قوات الجيش المتبقية ومليشيات سورية وغير سورية مدعومة من إيران، كانت تحظى بنشاط واسع في مدينة حلب ومن بينها درع الأقصى، ومليشيا أخرى محلية جندتها روسيا تعمل لحسابها في المدينة تحت مسمى “درع الوطن”.
إيران في حلب: نهب واستملاك للعقارات والعقول!
فور انتهاء عمليات التمشيط والسيطرة على الأحياء الشرقية من مدينة حلب، اتجهت المليشيات الموالية لإيران لتنفيذ عمليات النهب والسرقة لممتلكات المدنيين التي لم يستطيعوا إخراجها معهم، لأنهم خرجوا بثيابهم، وهم من أحياء الأصيلة والمعادي والمرجة والكلاسة والزبدية وبستان القصر وغيرها من الأحياء التي بقيت تحت سيطرة المعارضة حتى عقد الاتفاق مع روسيا.
مليشيا إيرانية تفتتح محلًا تجاريًا في حلب
وبدأت المليشيات استملاك العقارات التي هجرها سكانها، من بيوت ومحال تجارية وأبنية كاملة نقلت إلى أسماء شخصيات سورية وغير سورية مجنسة تعمل لحساب إيران في المنطقة، إذ وجدت المليشيات أحياءً بأكملها فارغة من سكانها أصبحت غنيمة حرب لها، بعد أن سيطر كل قائد في المليشيات على حي من الأحياء وبدأ في استملاكه وتوزيع منازله الصالحة للسكن لمقاتلين يعملون لحسابه.
مصدر محلي من داخل أحياء حلب الشرقية أكد لـ”نون بوست” قائلًا: “لجأت المليشيات إلى نقل ملكية العقارات التي تهجر سكانها إلى أسماء العناصر المقاتلة في صفوف المليشيات، بتيسير تام عبر شخصيات في السجل العقاري “المساحة” خلال الفترة الأولى من السيطرة التامة على المدينة”.
وأضاف المصدر: “مليشيا إيران انتقلت إلى مرحلة ثانية بعد عودة بعض أهالي الأحياء إلى منازلهم، وهي شراء المنازل والعقارات في السنوات الماضية، عبر جمعيات إيرانية تتعاون مع سماسرة ومكاتب عقارية في الأحياء الشرقية لشراء المنازل بثمن زهيد جدًا مقارنةً بالأسعار المتداولة، وتدفع قيمة المنازل بالليرة السورية”، ومن أبرز أسباب بيعها بهذه الأسعار الأوضاع المعيشية المتردية وهجرة آخرين خارج البلاد.
وتعد جمعية المهدي من أبرز الجمعيات الإيرانية التي تعمل على استملاك المنازل والعقارات في مدينة حلب، حيث تعمل هذه الجمعية بالتعاون مع سماسرة في المدينة لشراء أكبر عدد من المنازل وتمنح هذه المنازل لعائلات المقاتلين والقتلى من المليشيات التي تعمل لحساب إيران من جنسيات غير سورية.
وانتقلت إيران إلى الحفاظ على وجودها خشية اتفاق الدول العاملة في الشأن السوري على إخراجها من سوريا، إذ تستطيع في هذه العملية الكسب قدر الإمكان من عملية إعادة الإعمار، كما تساهم في عملية التغيير الديموغرافي للمدينة التي ستدفع لاحقًا بوجود إيراني طويل الأمد في سوريا.
ولم يقتصر التغلغل الإيراني في مدينة حلب السورية على استملاك المنازل، بل على استملاك العقول ونشر التشيع في المدينة بأيادٍ ناعمة تقف خلفها مليشيات ضخمة أبرزها الحرس الثوري الإيراني الذي شكل لواء المدافعين عن حلب بينه عسكريون اتخذوا مقرات وحواجز عسكرية بمناطق عدة داخل المدينة ومدنيون ينفذون نشاطات متنوعة، ويضم نحو 1000 عنصر من مختلف أحياء مدينة حلب وريفها، بقيادة شخصيات عسكرية إيرانية بارزة.
ويقوم عناصر لواء المدافعين عن حلب بنشاطات وفعاليات خدمية وتعليمية وتوعوية في مختلف أحياء المدينة وفق برنامج خاص أعدته إيران مسبقًا تستطيع من خلاله الوصول إلى مبتغاها في نشر التشيع واستقطاب أكبر عدد ممكن من الأهالي عبر أذرعها الناعمة، كما نشطت جمعيات ومعاهد تعليمية تهتم بتعليم الأطفال اللغة الفارسية والتوجه الشيعي.
روسيا في حلب: نشر شرطة روسية ودعم مليشيات
تسبب التدخل الروسي في قلب موازين القوى على الأراضي السورية بعد انهيار متتالي لنظام الأسد ومليشيا إيران في الفترة الأولى من الثورة حتى عام 2015 عندما دخلت فعليًا القوات الروسية والطيران الجوي، المعارك ضد المعارضة السورية، هنا بدأت تنهار المعارضة، وبعد السيطرة على المدينة نشرت روسيا شرطة عسكرية في عدة أحياء، إلى جانب وجود فعال للقوات الروسية في المدينة.
وعلى الرغم من رفض روسيا للمليشيات الإيرانية وفوضى المليشيات بشكل عام في سوريا، فإنها باتت أمام خيار جديد للحد من التغلغل الإيراني، وهو تشكيل مليشيا تابعة لها، ففي مدينة حلب شكلت روسيا مليشيا محلية مكونة من “آل بري” وهي عائلة موالية للنظام السوري يعمل غالبيتها عناصر شبيحة لدى النظام منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، وعرفت العائلة بصيت سيئ، وكانت هذه العائلة ضمن مليشيا الدفاع الوطني التابع لإيران، إلا أن روسيا دعمتها لتشكيل فصيل عسكري يطلق عليه “درع الوطن”، وهو يقاتل إلى جانب النظام السوري باعتباره من القوات الرديفة.
وحدثت اشتباكات عديدة داخل مدينة حلب خلال هذا العام بين مليشيات روسية وإيرانية تريد موسكو من خلالها طرد إيران من مدينة حلب وبقائها منفردةً بها للسيطرة على النقاط العسكرية كمطار النيرب العسكري ومطار حلب الدولي.
روسيا بين قصف في الطيران هناك وخير هنا!
كما عملت على إنشاء جمعيات تهتم بالدعم الإغاثي كما تدعي عبر منصاتها الإعلامية، فقد نفذت عدة فعاليات ونشاطات إغاثية تدعم الخبز، ومن أبرزها جمعية “أحمد قاديروف” الروسية التي تحمل اسم الرئيس الشيشاني السابق، كما قامت الجمعية بتوزيع مواد غذائية على بعض العائلات السورية داخل المدينة.
وانطلقت فعالية إنسانية لمجلس الأعمال الروسي السوري في مدينة حلب السورية، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تستهدف إعانة ألف عائلة، حيث سيتم توزع طرود مواد غذائية وتحمل عنوان “لمدينة حلب مع خالص الحب من روسيا”.
وعززت روسيا من نشاطها الناعم كمحاولة لفرض وجودها مع اتساع رقعة استثماراتها في سوريا لا سيما أنها بدأت تجني ما دفعته سابقًا في حربها إلى جانب النظام ضد الشعب السوري، تبدو هذه الأعمال للوصول إلى رضاء شعبي بوجودها العسكري والاقتصادي صاحب الأمد الطويل كما تراه، لا سيما أنها تسعى لأن تكون إحدى الدول المنفذة لإعادة الإعمار، في سوريا عبر شركاتها التي أنشأتها مؤخرًا.
النظام في حلب: فوضى المليشيات تتفشى.. وتسيطر على مؤسسات الدولة
سخر النظام السوري كامل قواته المتبقية بمساعدة إيرانية وروسية للسيطرة على المدينة وقلب موازين القوى، لكن هذه السيطرة تحتاج إلى إعادة إعمار وتقديم للخدمات إلا أنها إلى الآن مهمشة كليًا، فسكان الأحياء الشرقية غير قادرين على التخلص من المافيا المليشياوية التي أنتجها النظام، فهم يتعرضون لمختلف طرق الاستغلال نظرًا لسوء أوضاعهم المادية.
وعلى الرغم من عودة أجهزة الدولة كالشرطة والمؤسسات التعليمية والمؤسسات الخدمية وغيرها إلى عملها السابق في حلب، فإن هؤلاء بالذات بينهم عناصر وشخصيات يتبعون للمليشيات التي تسيطر على المدينة ومنهم من يعملون لحسابهم، فهم يساهمون على حد سواء في تضييق الخناق على المواطنين، ولا تستطيع حكومة النظام السيطرة عليهم.
وقد لا تظهر حكومة النظام عبر مؤسساتها الخدمية أنها غير قادرة على كبح المليشيات وتبدو المليشيات أساس المؤسسات وهي تتغلغل بها دون رقيب، فكيف سيكون للنظام دور فيها طالما أن المدينة تحكمها المليشيات.
مصدر محلي رفض الكشف عن نفسه يعمل في إحدى المؤسسات الخدمية في مدينة حلب، قال لـ”نون بوست”: “النظام قائم على مجموعة من المليشيات متنوعة الأجندات تدير المدينة وكذلك المدن المتبقية، فهي تعيش في فوضى عارمة تحكمها المليشيات، ويبقى دور الشخصيات الإدارية كمجلس البلدية ومديري باقي المؤسسات إرضاءً لتلك المليشيات التي لا يستطيعون الخروج عنها”.
ومنذ بداية الثورة السورية اعتمد النظام على الشبيحة في قمع الاحتجاجات السلمية، ومعظم هؤلاء كانوا ممّن لديهم سوابق جرمية، وشيئًا فشيئًا نُظمت هذه القوى وأصبحت مليشيات بعد أن تسلحت جيدًا، ومنها المدعوم إيرانيًا كمليشيا الدفاع الوطني، ومنها المدعوم روسيًا كمليشيا درع الوطن، بعدها تحولت إلى مافيات تمارس أعمال النهب والسطو والقتل، وتوغلت على حساب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية وحتى الخدمية، ما يواجه استياءً عامًا من الأهالي.
السوريون في حلب: جوع وفقر.. غياب خدمي
يعاني السوريون في مدينة حلب مثل باقي المدن السورية الواقعة تحت سيطرة النظام، من تحديات وظروف معيشية صعبة، أبرزها ندرة فرص العمل وضعف قيمة المرتبات الشهرية التي يتقاضها العاملون في القطاع العام أما الدولار الأمريكي، إذ لا يتجاوز متوسط راتب الموظف الحكومي لدى النظام 50 ألف ليرة سورية شهريًا وهي ما تعادل 20 دولارًا أمريكيًا بحسب سعر الصرف في السوق السوداء.
طوابير الخبز لا نهاية لها في حلب!
نتج عن هذا الأمر أوضاعًا مأساوية، أبرزها تسلط الفقر والجوع مع عدم وجود حلول تنهي الحال الذي وصولوا إليه، إذ تبدو رحلة الحصول على ربطة من الخبز أمرًا في غاية الصعوبة إذا استطاع رب الأسرة تأمين المبلغ ناهيك بالطابور الذي سيصطف عليه طوال ساعات النهار لتأمين خبز أبنائه، وذلك إذا لم يتعرض ذلك الرجل لإهانات من مندوبي الخبز الذين يعملون لحساب المليشيات المحلية، من هنا فقس كيف تبدو حياة السوريين في حلب.
بينما ساهم الفقر في انتشار عمليات السطو والنهب والسرقة التي يعاني منها المدنيون لا سيما أن العديد من كبار السن فضلوا البقاء في المدينة دون وجود شاب من أبنائهم يستطيع تدبر أمورهم، لذلك فهم معرضون لشتى أنواع عمليات السطو.
وعلى الرغم من مرور أربعة أعوام على سيطرة النظام على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، لا تزال تلك الأحياء مغيبة عن الخدمات، حيث تعاني الأسر المقيمة هناك من انقطاع شبه تام للتيار الكهربائي، وكذلك انقطاع في الماء ناهيك بمشاكل الصرف الصحي الذي يسببها القصف وإغلاق الشوارع نتيجة دمار الأبنية وعدم قدرة حكومة النظام على تغطية نفقة النهوض بالأحياء الشرقية على الإطلاق.
ولا يبدو السوريون في مدينة حلب يعيشون بشكل جيد لأنهم بقوا في منازلهم، فهم يعانون شتى أنواع العذاب والتحديات أمام عتبة المليشيات التي تحكم المدينة، فمدينة حلب مغيبةٌ عن الخدمات والحريات، ولا يمكن لهذه الأسر تحديد مصيرهم، في ظل عصبة من المليشيات الروسية والإيرانية التي تحكم المدينة. هكذا تبدو مدينة حلب بعد مرور أربعة أعوام.