في الوقت الذي يعاد فيه تشكيل التوازن الإقليمي في جنوب القوقاز، ينبغي على القوى الدولية متابعة العلاقات بين تركيا وإيران عن كثب في هذه البيئة الجغرافية، ففي حين اتسمت العلاقة بين طهران وأنقرة تاريخيًا بالاضطراب وعدم الاستقرار، فإن التقاطعات الحاليّة أفرزت نوعًا جديدًا من العلاقات بين البلدين، وهي تنويع مجالات المواجهة، ففي الوقت الذي زاحمت فيه إيران تركيا في شمال العراق وشمال سوريا، ودخلت في مسار العلاقات التركية القطرية، فإن تركيا من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي ووثقت علاقاتها بباكستان، في إطار احتواء من الشمال والجنوب، وعززت علاقاتها مع روسيا، ودخلت بقوة في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وفي المقابل، فإنه بالوقت الذي قاطع فيه العالم إيران بعد اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، استمرت تركيا في علاقاتها الطيبة مع طهران، وذلك على الرغم من أن العلاقة بين البلدين اتسمت في بعض الأحيان بالصعود والهبوط، وهو ما يعكس التاريخ الطويل والمعقد لكلا البلدين، ومع ذلك، أصبح اتجاه العلاقات بين البلدين مؤخرًا يميل أكثر نحو التعاون الحذر، حيث تجلى ذلك في الجهود الكبيرة التي بذلتها تركيا لحل التوترات المتعلقة ببرنامج طهران النووي منذ عام 2006.
كما دعمت تركيا الحكومة الإيرانية رسميًا خلال الاحتجاجات التي هزت إيران في ديسمبر/كانون الأول 2019، فضلًا عن ذلك وقفت تركيا أيضًا إلى جانب إيران في مواجهة العقوبات الدولية ضدها، على الرغم من توتر العلاقات بينها، وبين دول حلف الشمال الأطلسي، وتحديدًا الولايات المتحدة، على خلفية شرائها منظومة صواريخ 400 S من روسيا، وهو ما اتضح بالعقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على الصناعات الدفاعية التركية مؤخرًا.
جنوب القوقاز بوابة جديدة لاحتواء إيران
رغم المحالاوت الإستراتيجية المستمرة التي بذلتها تركيا في احتواء النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في العراق وسوريا، فإن هذه المحاولات لم تنجح، وذلك بسبب عوامل إستراتيجية عديدة، أهمها تأخر تركيا في الدخول إلى مجال المنافسة، وكثرة الحلفاء والوكلاء المرتبطين بالإستراتيجية الإيرانية، وهو ما جعل تركيا تواجه عدة أطراف إقليمية، دول وغير دول، وليس إيران وحدها، وهو ما رجح الكفة الإيرانية على الكفة التركية في كثير من الساحات، لتتحول السياسات التركية وتحديدًا في العراق وسوريا، لسياسات دفاعية هدفها الأساس الحفاظ على الأمن القومي والوحدة الوطنية التركية.
أما في جنوب القوقاز، فيبدو أن الصورة مغايرة اليوم، حيث تبدو الكفة التركية مرجحة جدًا، وتحديدًا في مرحلة ما بعد الصراع في ناغورني قره باغ، حيث أفرزت الدروس المستخلصة من هذا الصراع، مدى الخشية الإيرانية من النجاحات الإستراتيجية التي حققتها تركيا، خصوصًا بعد أن حسم الصراع لصالح حليفتها أذربيجان، حيث ستحتفظ تركيا بقوات في أذربيجان، وتتمتع الآن بوصول مباشر إلى بحر قزوين عبر ممر ناختشيفان – أذربيجان المقترح، ويمكنها الآن أيضًا أن تُمارِس تأثيرًا مباشرًا على آسيا الوسطى، وهو واحد من أكثر طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان، وتعمل أنقرة منذ فترة طويلة على استخدام ممر ناختشيفان لأغراض جيوسياسية، من خلال سرعة إعلان أنقرة عن خططها لبناء خط سكة حديد إلى ناختشيفان بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 10 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
طريق تركيا التجاري مع أذربيجان ودول وسط آسيا الأخرى، سيكون أيسر وأقصر، بعد أن انتهت الحاجة لمرور النقل التجاري التركي نحو باكو والشرق الآسيوي، عبر الأراضي الإيرانية
تاريخيًا، لم تستطع طهران منافسة أنقرة المدعومة أمريكيًا في القوقاز، وانشغلت في الدفاع عن حصتها في مياه بحر قزوين الغنية بالغاز والنفط، وشكلت إطارًا للعمل المشترك مع روسيا الضعيفة حينها، كما وجدت في أرمينيا الفقيرة موطئ قدم دائم، وقاعدة متقدمة لها فيما وراء القوقاز، ودعمت أرمينيا بوجه أذربيجان، ومن خلفها تركيا، التي استخدمها في تمددها على الكتلة التركية، بمكونيها السني والشيعي وكل فروعها العرقية.
من النجاحات الإستراتيجية الأخرى التي أفرزتها دروس الصراع الأخير في جنوب القوقاز، هو صعود الهوية القومية على الهوية المذهبية لدى الأذريين، وتحديدًا في إيران، وهو ما منح تركيا نفوذًا متصاعدًا في هذه المنطقة، حيث بدأت تتمتع اليوم بحزام أمني اقتصادي سياسي، يبدأ من أذربيجان وتركمانستان وباكستان وقطر، كما أن الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لأنقرة، والتباحث بشأن ملفات عديدة أهمها مسألة الربط السككي بين إسطنبول والبصرة، قد يمثل توجهًا تركيًا لقطع التواصل الجغرافي بين إيران وسوريا، واحتواءها داخل حدودها عبر شراكات اقتصادية، قد ينضم لها الأردن لاحقًا.
يشير الوجود التركي في جنوب القوقاز اليوم، إلى بداية حقبة جديدة في علاقات تركيا مع إيران، حيث يشكل الثقل التركي مع جمهوريات آسيا الوسطى، ميزان قوى جيوسياسي جديد، وقد يمتد إلى ما هو أبعد من القوقاز، هذا الفضاء الجيوسياسي بين خطوط الطاقة ومبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ ستأخذ إيران في الاعتبار مكانة تركيا المتنامية في المنطقة، وسيؤثر هذا التطور في جوانب أخرى من العلاقات الثنائية أيضًا.
ختامًا، خرجت تركيا رابحة من الصراع في إقليم ناغورني قره باغ، ليس فقط لأن تحالفها مع أذربيجان ومراهنتها عليها، جاءت بنتائج فعالة وملموسة، لكن أيضًا لأن الانتصار الأذري أسس لوجود عسكري تركي في أذربيجان للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى، كما أن طريق تركيا التجاري مع أذربيجان ودول وسط آسيا الأخرى، سيكون أيسر وأقصر، بعد أن انتهت الحاجة لمرور النقل التجاري التركي نحو باكو والشرق الآسيوي، عبر الأراضي الإيرانية.
أما إيران فتنظر للصعود التركي على أنه تحد إستراتيجي جديد في جنوب القوقاز، حيث ستضطر لمواجهة تركيا هناك، بعد سوريا والعراق.