لوقت طويل، اعتبرت فرنسا ثاني إمبراطورية استعمارية في العالم بعد بريطانيا العظمى، ولئن انتهى هذا الماضي ورقيًا، ما زالت هناك آثار مهمة منه، آثار منتشرة في جميع أنحاء العالم، إذ ما زالت فرنسا الاستعمارية تستحوذ على العديد من الأراضي خارج أوروبا، إدارات وأقاليم، سبق أن استولت عليها بقوة السلاح.
أراضٍ شاسعة تعد نتاج الاستعمار الفرنسي الجشع والعنصري، فقد تم احتلالها وإحكام السيطرة على سكانها الأصليين بالقوة، وهم أصحاب تلك المناطق الذين أجبروا على تبني لغة موليير وحكومة باريس وهياكلها الاقتصادية رغم محاولات المقاومة المتعددة.
ربع المساحة الإجمالية لفرنسا
حصلت العديد من المستعمرات الفرنسية على استقلالها، لكن بقي جزء منها ينتمي إلى فرنسا وفق أوضاع مختلفة، ما جعل فرنسا توجد في جميع القارات، حيث تنقسم هذه الأراضي الخارجية إلى أراضٍ تسمى الأقاليم الفرنسية ما وراء البحار، وهي تختلف عن بعضها بحسب نظام الإدارة المحلية.
تتبع هذه الأراضي إلى الجمهورية الفرنسية الرابعة والاتحاد الأوربي أيضًا بموجب دستور سنة 1946 الذي يمنح نفس حقوق أقاليم الجمهورية الفرنسية الأم لتلك الأقاليم، ولكل جزء ممثلون في مجلس الشيوخ الفرنسي والجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، وعضو يمثلها في البرلمان الأوروبي.
وبناءً على القانون، تتعامل هذه الأراضي باليورو، ويحق للأهالي هناك التصويت في الانتخابات الوطنية الفرنسية وانتخابات الاتحاد الأوروبي، وتمنَح لسكانها الجنسية الفرنسية ما عدا المناطق التي لا يوجد بها سكان دائمون.
وصلت يد الفرنسيين إلى المحيط الهادي، حيث بسطوا سيطرتهم على جزر بولينيزيا الفرنسية التي يبلغ عددها نحو 130 جزيرةً
تتوزع هذه الأراضي في قارة أمريكا الجنوبية ما يجعل لفرنسا حدود برية مع البرازيل وسورينام، ومع جميع محيطات العالم باستثناء المحيط المتجمد الشمالي (المحيط الأطلسي والمحيط الهادي والهندي وفي القطب الجنوبي)، وهي السطوة الجغرافية التي سُميت فرنسا على أساسها بأكبر دول الاتحاد الأوروبي والثانية في القارة العجوز.
إذ تبلغ مساحة هذه الأقاليم والإدارات نحو 552.528 كيلومترًا مربعًا، فيما يبلغ عدد سكانها أكثر من 2.8 مليون نسمة في عام 2019، وتمثل الأقاليم الخارجية 17.9% من المساحة الإجمالية لفرنسا و4% من عدد سكانها.
استحواذ على كل المحيطات
استولت فرنسا على المستعمرات بشكل أساسي خلال القرن التاسع عشر، وقد وصلت ذروة الاستحواذ في ظل الجمهورية الثالثة، لذلك يمكن القول إن هذه الأراضي هي نتاج الإمبراطوريات الاستعمارية الفرنسية السابقة.
وتبدأ حكاية الجشع الفرنسي بالتحديد في بداية القرن السابع عشر، أي قبل عصر “الإمبريالية الجديدة”، عندما طالبت فرنسا بالفعل بإمبراطورية ما وراء البحار تمتد من الأمريكتين إلى إفريقيا والمحيط الهندي، ولم تكن حينها تستحوذ سوى على عدد قليل من الجزر في المحيط الأطلسي، ثم سيطرت على جزر سان بيير وميغيلون الواقعة قبالة ساحل جزيرة نيوفندلاند في أمريكا الشمالية، أيضًا “جزر غوادلوب”، التي توجد ضمن مجموعة جزر الأنتيل الصغرى التي تمتد على شكل قوس من المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي.
ضمن المناطق التي سيطرت عليها أيضًا في المحيط الأطلسي نجد “جزيرة مارتينيك” و”جزيرة غويانا” التي يبلغ تعداد سكانها 250.109 نسمة وتقدر مساحتها بـ835.34 كيلومترًا مربعًا، وجزيرة “سانت مارتن” التي تقع في شمال شرق البحر الكاريبي، بين فرنسا ومملكة هولندا، وهي واحدة من أصغر جزر البحر المقسمة بين دولتين، ويرجع تاريخ تقسيمها إلى 1648.
واستكمالًا لممتلكاتها في المحيط الأطلسي، فقد استولت على “سانت بارتيليمي” و”جزر سان بيار وميكلون” بالقرب من الساحل الشرقي لكندا، جنوبي نيوفندلاند في المحيط الأطلسي الشمالي.
كما وصلت يد الفرنسيين إلى المحيط الهادي، حيث بسطوا سيطرتهم على جزر بولينيزيا الفرنسية، التي يبلغ عددها نحو 130 جزيرةً، وتنتشر هذه الجزر بشكلٍ متناثر على مسطح مائي كبير تشكل ست مجموعات، وأكبرها مساحةً وسكانًا جزيرة تاهيتي، كما تضم جزيرة بورا بورا البركانية.
ضمن نفس المحيط، استحوذت فرنسا بالقوة على “كاليدونيا الجديدة”، التي يبلغ تعداد سكانها الآن 268.767 نسمة وتقدر مساحتها بـ185.76 كيلومترًا مربعًا وجزر “واليس وفوتونا” الاستوائية وجزيرة كليبرتون (أرض صغيرة) هي جزيرة غير مأهولة وتبلغ مساحتها 6 كيلومترات مربعة فقط.
أما في المحيط الهندي فقد سيطرت على “ريونيون” إلى الشرق من مدغشقر وجزيرة مايوت، التي تعد أقدم الجزر الأربعة الرئيسية في أرخبيل جزر القمر، وقد رفض أغلبية سكانها، وهم من المسلمين، الاستقلال في استفتاء شعبي، فباتت المقاطعة الفرنسية رقم 101 في أبريل/نيسان 2011.
استعمار استيطاني
يصف المسؤولون الفرنسيين هذه الأقاليم والإدارات أنها نتيجة اختيار ديمقراطي على مسار أصلي لإنهاء الاستعمار، لكن في الحقيقة هي عكس ذلك، فقد انتهجت فرنسا سياسة استعمارية بشعة في هذه الأراضي حتى لا تستطيع الاستقلال أو حتى مجرد طلبه.
إذ لم يكن الفرنسيون يومًا ينوون التخلي عن مستعمراتهم، لذلك عملوا على أن يكون استعمارهم استيطاني من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل التي تتراوح بين التهجير العنيف للسكان السابقين ووسائل قانونية أكثر دقة مثل استيعاب الهوية الأصلية أو الاعتراف بها في إطار استعماري.
وفي البداية دفع الفرنسيون إلى مستوطناتهم الجديدة إمدادات كثيرة ونشروا شبكة كاملة من التحالفات مع قبائل السكان الأصليين الأكثر نفوذًا، لاحتواء البريطانيين واللغة الإنجليزية التي كانت منتشرة بكثرة في أغلب أماكن العالم، إضافة إلى تفكيك المجتمعات الأصلية، حتى تضمن أيضًا بقاء فرنسا الجديدة قليلة السكان في مناطق بعيدة عنها جغرافيًا ويصعب الدفاع عن حدودها عسكريًا.
زرع الفرنسيون في السكان الأصليين الخوف وعقدة الدونية واليأس والعمالة
بعد ذلك، بدأ المستوطنون الفرنسيون يتوافدون إلى هذه المستعمرات بدعم من حكوماتهم، وجلبوا معهم العبيد الأفارقة إلى هناك لخدمتهم وخدمة الأرض التي سيطروا عليها، فنمت تجارة السكر، وأصبحت هذه المستعمرات تزود فرنسا الأم بالمواد الخام والعديد من المنتجات الزراعية، وأصبحت أيضًا أسواقًا وقواعد إستراتيجية و”نقاط دعم” للجيش الفرنسي والأساطيل التجارية في جميع أنحاء العالم.
في الوقت ذاته، عملت فرنسا على تهجير السكان الأصليين من أجل تغيير ديمغرافية المكان عن طريق استبدال السكان الأصليين للأراضي المستعمرة بمجتمع جديد من المستوطنين الفرنسيين.
ولم تتردد أيضًا في قتل عددًا كبيرًا منهم، بل واختطفت الأطفال وروجت للتبشير ودعمت اعتناق المسيحية هناك، وأعادت توطين البعض في مؤسسات كلية مثل البعثات أو المدارس الداخلية حتى تضمن بقائها هناك.
وعلى الرغم من نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية ومنح فرنسا هذه الأقاليم بعض حقوقها كما تدعي سلطات باريس، بقي السكان المستوطنون في هذه الأراضي، وبهذه الطريقة استمر الاستعمار الاستيطاني إلى أجل غير مسمى.
استيعاب ثقافي
بعد احتلال فرنسا لتلك المناطق وإحكام سيطرتها عليها بالقوة، ومن ثم تهدئتها وقمع الثورات وحركات المقاومة داخل حدودها، بدأت لحظة استيعاب السكان الأصليين، فقد اتخذ قرار سياسي ببسط سيادة فرنسا ودينها وحضارتها، نتيجة ذلك أجبر السكان الأصليين على تبني لغة موليير وقيم المستعمِر تدريجيًا، حتى أصبحوا تدريجيًا تحت طوعهم رغم أن فرنسا تقول إنهم أصبحوا مواطنين فرنسيين تابعين لفرنسا الكبرى.
في هذه الأقاليم والإدارات الفرنسية ما وراء البحار، كانت إحدى النتائج الأخلاقية والاجتماعية النفسية الرئيسية للسيطرة الاستعمارية الفرنسية هي نزع شخصية البشر من خلال ترسيخ اللاواقعية الثقافية للشعوب التي قهرتها آلة الاستعمار بالعنف، وتجميد ثقافاتهم وحرمان الإنسان المستعمر من كل هوية، فقد أصبح كائنًا غير مرئي، كائنًا غير مسمى.
زرع الفرنسيون أيضًا في السكان الأصليين الخوف وعقدة الدونية والارتعاش والركوع واليأس والعمالة، وعمومًا روجوا لفكرة أن المستوطنين متفوقون عرقيًا على السكان الأصليين، فهم لا يريدون إلا خدم صالحين ومزارعين جيدين وعمال بارعين وجنود تحتاجهم المستعمرات.
تعيب فرنسا في الفترة الأخيرة على تركيا التحرك نحو شرق المتوسط لحماية مصالحها وحقوقها، متناسية استحواذها على جزر عديدة دون وجه حق
في المقابل، ارتكز المفهوم الفرنسي للاستيعاب على فكرة توسيع الثقافة الفرنسية لتشمل المستعمرات خارج فرنسا الأم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث روجوا لثقافتهم داخل المدارس والمؤسسات التي أُنشئت في تلك الأراضي.
لكن الغريب أن الرسالة التربوية الموجهة إلى التلاميذ كانت متناقضة، فهي تطرح قيم الجمهورية – الحرية والمساواة والأخوة والمساواة أمام القانون – لكن في الآن ذاته يبررون الوضع غير المتكافئ للسكان الأصليين وانعدام المساواة بينهم وبين المستوطنين الفرنسيين والأوروبيين الجدد.
لم يعد للغة الأم أي شرعية، كما هو الحال مع تاريخ وثقافة ومعتقدات الدولة المستعمرة، فقد حلت محلها بالقوة اللغة الفرنسية والهوية الفرنسية، فالمستعمر الفرنسي لم يجعل الساكن الأصلي غريبًا عن نفسه فحسب، بل جعله أيضًا معاديًا لنفسه ويخجل منها، فبعد أن سرق اسمه وماضيه وذاكرته، سرق أيضًا سلامته النفسية.
استوعبتهم قديمًا وحاضرًا
فضلًا عن الاستيعاب الثقافي، تم استيعاب السكان الأصليين لهذه المناطق اقتصاديًا، فعملتهم نفس عملة فرنسا، حتى تبقى روابط بلاد فولتير مع أقاليمها فيما وراء البحار مستمرة، خاصة مع حاجة فرنسا لأسواق جديدة تروج فيها بضائعها ومنتجاتها.
ليس هذا فقط، بل كانت تستقبل أيضًا بضائع تلك المستعمرات، لتشجيع الفرنسيين على التحول إليها واستيطانها، فقد رأت فرنسا أن الارتباط أفضل طريقة لزيادة حجم اقتصادها الناشئ في بداية القرن الثامن عشر إبان الثورة الصناعية.
هذا الاستيعاب لم يكن قديمًا فقط بل حاضرًا أيضًا، فإلى اليوم عملة تلك الأراضي فيما وراء البحار هي اليورو وتتبع فرنسا اقتصاديًا، فرغم امتلاك أراضيهم ثروات هائل، فإن سكان تلك المناطق لا يتمتعون بها وإنما تتمتع بها باريس.
تعيب فرنسا في الفترة الأخيرة على تركيا التحرك نحو شرق المتوسط لحماية مصالحها وحقوقها في البحر، متناسية استحواذها على جزر بعيدة في مناطق عدة من العالم دون وجه حق، وإنما بإجبار السكان الأصليين لتلك المناطق على الانصهار في الثقافة الفرنسية والاندماج الكامل فيها وإلا سيكون الموت أو التهجير مصيرهم.