“ألحقني مش قادر آخد نفسي وفاقد لتوازني..” جملة قالها “أحمد. ج” قبل أن يغلق سماعة الهاتف دون تحذير مسبق، كانت عقارب الساعة تشير آنذاك إلى العاشرة، مساء الجمعة 18 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، 5 دقائق تقريبًا قضيتها محاولًا أن ألملم أعصابي المتناثرة على أشلاء تماسكي، لعلي أهدأ لأفكر كيف أتصرف في هذا الموقف.
وماهي إلا ساعة واحدة قطعت فيها ما يزيد على 100 كيلومتر حتى وصلت إلى منزله القابع على أطراف حدود القاهرة ناحية الشمال، طرقت الباب مرات ومرات لكن دون استجابة، فأعدت الطرق حتى أحمرت يداي، وبعد أن كاد يدب اليأس في أوصالي فيما تتلاعب وساوس الشيطان بخيالي وعقلي، إذ بالباب يفتح ببطء ممل، لأجد المهندس ابن الثلاثين عامًا والعرق يتصبب جبينه مبللًا كمامته التي تغطي معظم أنحاء وجهه، والرعشة تحكم قبضتها على يديه، فيما تتسابق أنفاسه أيها يسبق الآخر في الخروج.
“مالك يا أحمد في إيه؟”، كان هذا سؤالي الأول له قبل أن يبادر هو بالجواب: “إيجابي كورونا”، حاولت الهدوء حتى لا يظهر عليّ ملامح أي قلق فيتصدر له، خاصة أنا أعلم يقينًا حجم وطبيعة ما يعاني منه من نقص المناعة وضعف بنيته الجسدية، وهو الأمر الذي يجعل من الإصابة بهذا الفيروس أمرًا خطيرًا، رغم أنني شخصيًا أصبت به قبل ذلك دون أي مضاعفات.
“يلا بينا على المستشفى حالًا”، هكذا طلبت منه بعدما رأيت حالته رأى العين، لكنه أخبرني بأنه للتو عاد من أحد المستشفيات الحكومية التي أجرى بها اختبار الفيروس (PCR) وأجرى أشعة على الصدر، ليكتشف إصابته بالوباء وأن الأمر تطور إلى إصابته بالتهاب رئوي حاد، وهو مؤشر خطير كان يستوجب معه البقاء في المستشفى على أجهزة التنفس الصناعي.
ما يزيد على نصف ساعة كاملة، قضيناها معًا – مع مراعاة المسافة المناسبة بيننا – لإقناعه بالذهاب للمستشفى، لكنه أبى وأصر على استكمال العلاج في البيت، وحين داهمته بالسؤال عن السبب أكد أن احتمالية الوفاة في المستشفى ربما تفوق عشرة أضعاف احتماليتها في المنزل، وبصوت تعلوه نبره الانكسار قال: “هناك الناس بتموت ومش لاقيه أي علاج وفي نقص واضح في كل الإمكانيات”.
لم تكن حالة أحمد الوحيدة التي فضلت البقاء في المنزل على تلقي العلاج في المستشفيات، لا سيما الحكومية، فهناك مئات النماذج التي رفضت الإقامة داخل المؤسسات الصحية الرسمية، قد يقول البعض إن تفضيل العلاج في المنزل ظاهرة عالمية موجودة في معظم المجتمعات لما لذلك من توفير بيئة نفسية وصحية آمنة.
إلا أن الأمر هنا لا يتعلق برفاهية الاختيار المزاجي، بل بنسبة كبيرة بفقدان الثقة في الخدمات المقدمة داخل تلك المؤسسات والخوف على الحياة حال البقاء بداخلها مقارنة بما عليه خارجها، وهي المسألة التي تدفع للتساؤل عن أسباب هذا الجفاء الكبير بين المرضى والمستشفيات في مصر، هذا البون الذي ربما يكلف المريض حياته لكنه يأبى أن يُلقى به فوق أسرة تلك المصحات.
كورونا بين الإحصاء الرسمي والواقع
لا تتناسب الأرقام المعلنة رسميًا عن طريق وزارة الصحة بشأن أعداد الإصابات بالفيروس بين المصريين مع حجم الإصابات الفعلية، وهو ما توثقه الشهادات اليومية لمواطنين أصيبوا بالوباء دون معرفة الجهات الحكومية بإصابتهم، الأمر الذي يجعل من الخطورة بمكان الارتكان لتلك الأرقام في بناء التقديرات الحكومية.
“سمير. ج” محامٍ مقيم في مدينة المحلة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية يقول إنه شعر قبل أسبوع بألم في جسده أفقده معه حاسة التذوق، ما دفعه للشك في الإصابة بكورونا، وعلى الفور توجه إلى المستشفى العام هناك، ليجد طابورًا هائلًا من المواطنين يجرون فحوصات الفيروس.
المحامي في شهادته لـ”نون بوست” أشار إلى أنه في هذا اليوم فقط أثبتت النتائج إيجابية ما يزيد على 95 حالة خلال ساعتين ونصف فقط، وحين توجه إلى مدير المستشفى لسؤاله عن تلك الأرقام، أكد له أن هذا أمر عادي يحدث بصورة يومية خلال الأيام الأخيرة، وأن الأعداد في تزايد كبير.
حصد هذا الوباء منذ إعلان اكتشافه في مصر حياة قرابة 244 طبيبًا، آخرهم الدكتور محمد عرقوب
إذا كان هذا حال مستشفى واحد فقط به هذا العدد من الإصابات، فكيف تكون أعداد الحالات المصابة فعليًا في مصر يوميًا؟ توجهنا بهذا السؤال إلى أحد الأطباء الاستشاريين المتخصصين في أمراض الرئة والجهاز التنفسي بجامعة القاهرة، الذي أشار إلى أن الإجابة تحمل سيناريوهين.
الأول: أن المرضى حال شكهم في الإصابة يتوجهون لإجراء الفحوصات في المراكز والمعامل الخاصة بعيدًا عن مستشفيات الحكومة، وعليه حين تظهر النتيجة لو كانت إيجابية فيلتزم بيته، وقد لا يعرف عنه أحد أنه مصاب إلا أهل بيته من الدرجة الأولى فقط، وهذا السيناريو منتشر بقوة، لافتًا إلى أن المعامل تسجل يوميًا آلاف الحالات الإيجابية التي لم تدرج في إحصاءات وزارة الصحة.
الثاني: أن كثير من المرضى ممن يكتشفون إصابتهم بالفيروس بعد إجراء الأشعة والتحاليل اللازمة في المستشفيات الحكومية يفضلون العودة للبيت مع التعهد الشفهي مع إدارة المستشفى بالالتزام بالإجراءات الوقائية والاحترازية، وفي هذه الحالة هناك كثير من الحالات لا تسجل بياناتها في تلك المستشفيات ومن ثم لا تدخل ضمن الإحصاء اليومي للوزارة.
وبعيدًا عن هذين السيناريوهين كان “نون بوست” قد استعرض في تقرير سابق له تحت عنوان “مصر وكورونا.. لماذا يشكك البعض في بيانات الحكومة الرسمية؟” أسباب فقدان ثقة المصريين في إحصاءات وزارة الصحة الرسمية التي لا تعبر مطلقًا عن الواقع الفعلي.
التقرير تناول العديد من التفسيرات لهذا البون الشاسع بين المعلن والحقيقي، أولها تعامل السلطات المصرية مع الأزمة بواقعية في ضوء تدني مواردها الصحية التي لو وسعت دائرة من يشملهم المسح لجاءت النتائج كارثية بما لا تتحملها المستشفيات الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار المنظومة الصحية في أيام قليلة، وعليه يتم إجراء عدد مسحات محددة يوميًا للخروج بنتائج تتناسب وتلك الإمكانات.
التفسير الثاني يحمل بعدًا سياسيًا واقتصاديًا، فالإعلان عن معدلات إصابة أكبر يمثل هاجسًا لدى الحكومة بشأن التداعيات السلبية لتلك الخطوة على قطاع السياحة والاستثمار ويصيب العديد من الموارد الاقتصادية بالشلل، وهو الخوف الذي يتحكم اليوم في قرار السلطات بالإغلاق الجزئي للمرة الثانية.
لماذا يفضل المصريون العزل المنزلي؟
من خلال شهادات متفرقة أدلى بها عدد من المصابين بكورونا تبين أن هناك توجهًا عامًا نحو الميل للاستشفاء داخل المنزل بعيدًا عن المستشفيات الحكومية، وهي النقطة التي أثارت الكثير من التساؤلات بشأن مخاطر ذلك لا سيما أن كثيرًا من الحالات تكون بحاجة إلى متابعة طبية دورية قلما توجد خلال العزل في البيت.
سامح.. أربعيني العمر ويعمل محاسب بإحدى الشركات الخاصة، يقول إنه رفض تلقي العلاج داخل أحد المستشفيات الواقعة في منطقة الجيزة رغم تأخر حالته الصحية بعد التأكد من إيجابية الإصابة بالوباء، لافتًا إلى أنه خلال عمل المسحة تعرض للعديد من المشاهد التي أثارت مخاوفه حال بقائه في المستشفى.
الشاب المصري أضاف في حديثه إلى أن نجل عمه توفي في ذلك المستشفى بسبب سوء الخدمات وقلة الإمكانات، مشيرًا إلى أنه على مدار اليوم لا يمر عليه إلا ممرضة فقط، وتتعامل معه من مسافات بعيدة بصورة غير إنسانية، الأمر الذي أصابه بحالة نفسية سيئة أثرت بشكل كبير على مناعته التي ضعفت وكانت سببًا رئيسيًا في وفاته.
وتابع: “كثيرًا ما كان يسألهم عن حاجته للعلاج أو جهاز تنفس دائم بسبب التهاب الرئة الذي يعاني منه، لكنهم كانوا يتجاهلون استغاثاته فيما أكد له أكثر من طبيب أن إمكانات المشفى متواضعة جدًا، وليس بها إلا 3 أجهزة فقط للتنفس الصناعي، في ظل وجود أعداد تفوق قدرات المكان، وهو ما يعني إما التضحية بالبعض لأجل إنقاذ الآخر أو التناوب فيما بينهم وتبقى الكلمة الفصل لمن يتمتع بدرجة مناعة أكبر.
ستيني آخر في محافظة الدقهلية (شرق) أوضح أنه حين توجه إلى أحد مستشفيات المنصورة لم يجد مكانًا، وحين سأل الطبيب أخبره أن أمامه سيناريوهين لا ثالث لهما، الأول أن يبقى في منزله وهو الأفضل له حتى لا يتعرض لانتكاسة أو تفاقم عدوى خاصة أن حالته ليست خطيرةً، على حد قوله.
أما السيناريو الثاني فالتوجه إلى أي مستشفى خاص، ما يعني عشرات آلاف الجنيهات للبقاء مدة لا تتجاوز الأسبوع، وهو ما يفوق قدرات المسن المصري الذي قال: “اضطريت إني أعزل نفسي في البيت وأمشي على العلاج اللي كتبه طبيب الوحدة، بارسيتامول ومشروبات ساخنة، واللي عاوزه ربنا هيكون”.
في تحقيق استقصائي أجرته الصحفية المصرية عزة مسعود لصالح مؤسسة “أريج” الإعلامية تتبعت مسار إصابة ثلاثة حالات من الأطقم الطبية داخل المستشفيات المصرية الحكومية، ابتداءً من التقاطهم العدوى وصولًا إلى تماثلهم الشفاء، توصلت إلى أن البروتوكول المعتمد من وزارة الصحة كان المسؤول الأبرز في تفشي معدلات الإصابة.
تغولت الحكومة المصرية على المستشفيات الحكومية بشكل لافت للنظر، حيث أغلقت ما يقرب من 476 مستشفى حكوميًا
التحقيق كشف – بحسب شهادات بعض المصابين ومديري المستشفيات وأقسام الأوبئة والأمراض التنفسية – أن الإجراءات المتبعة داخل تلك المستشفيات هي المسؤولة عن تفشي العدوى بين الطواقم الطبية أولًا، ثم الانتقال إلى المخالطين سواء من العاملين أم المرضى.
تتطابق نتائج هذا التحقيق مع قيام بعض الأطباء بتقديم استقالتهم من العمل (كما حدث في مستشفى المنيرة بالقاهرة) بسبب اعتراضهم على “تدني الإمكانات وسوء الإجراءات الطبية” التي أدت إلى وفاة زملائهم بكورونا، هذا في الوقت الذي تتجاهل فيه الوزارة تلك الأحداث، ما دفع عدد من الأطباء للتهديد بالانسحاب من العمل، تعاطفًا مع زملائهم، ضحايا الإهمال، أو حماية لأنفسهم من ملاقاة ذات المصير، وهو ما أجبر رئاسة الوزراء على فتح تحقيق لبحث أسباب الاستقالة ومحاولة طمأنتهم قدر الإمكان.
وحصد هذا الوباء منذ إعلان اكتشافه في مصر حياة قرابة 247 طبيبًا، آخرهم الدكتور توفيق أبو عيطة، استشاري الصدر بمستشفى طنطا بالغربية، الذي نعته نقابة الأطباء، فيما تجاوز عدد الإصابات حاجز الـ3500 طبيب، هذا بخلاف أضعاف هذا الرقم بين قطاع التمريض والمسعفين والعاملين الإداريين داخل المنظومة الصحية لا سيما في المستشفيات.
يذكر أن وزارة الصحة المصرية لم تقر أي بروتوكول للعلاج من هذا الوباء إلا في 18 من أبريل/نيسان الماضي، أي بعد مرور أكثر من شهرين على اكتشاف أول إصابة رسمية في 14 من فبراير/شباط، بينما تركت الأمر موكولًا لإدارة المستشفيات والأطباء على حسب تقييمهم للموقف، وهو ما أثار الغضب حينها من طرفي المعادلة، الكوادر الطبية والمرضى.
المستشفيات الحكومية.. واقع متدنٍ
خلال الآونة الأخيرة تغولت الحكومة المصرية على المستشفيات الحكومية بشكل لافت للنظر، حيث أغلقت ما يقرب من 476 مستشفى حكوميًا، فضلًا عن خروج 60 مستشفى حميات من الخدمة، وهي المؤسسات التي يقصدها السواد الأعظم من الشعب المصري الذي تتزايد معدلات الفقر بينه بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية، حيث تجاوزت الـ30 مليون مواطن بنسبة 32.5%، بحسب بيان الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء 2019، وفق تحقيق صحفي جاء تحت عنوان “كيف خرج 20 ألف سرير بالمستشفيات المصرية من الخدمة؟”.
الإحصاءات التي أوردها التحقيق تشير إلى احتلال مصر المرتبة 84 من بين 89 دولة في مؤشر الرعاية الصحية الذي تُوفره لمواطنيها، وفقًا لبيانات مجلة CEOWORLD للرعاية الصحية لعام 2019، هذا بجانب هروب ما يزيد على 62% من الكادر الطبي خارج البلاد، هربًا من الوضع الاقتصادي المتردي ورواتبهم المتدنية، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على الخدمة الصحية اللازمة للمصريين، حيث تراجع معدل الأطباء في مصر من المعدل العالمي وهو طبيب لكل 434 فردًا إلى طبيب واحد لكل 1162 فردًا.
العديد من الآراء تذهب إلى أن السبب الأبرز في تراجع أعداد المستشفيات الحكومية وتهالك الخدمة الصحية المقدمة في وزارة الصحة يعود إلى “البيع من أجل التربح” وهو التوجه الذي أقرته الحكومة المصرية منذ انطلاق برنامج “الخصخصة” أواخر الألفية الثانية.
برنامج الإصلاح الصحي الذي دشنته وزارة الصحة مع البنك الدولي منذ عام 1998 كان يذهب في هذا الاتجاه، تحويل المستشفيات إلى مؤسسات ربحية قادرة على الإنفاق على نفسها ودر أرباح كبيرة للعاملين فيها وللدولة في آن واحد، وهو التوجه الذي جاء على حساب الفقراء ومحدودي الدخل غير القادرين على تلقي العلاج في المستشفيات الحكومية التي يعاني قطاع كبير منها من فقر تام في الإمكانات والموارد والخدمات.
يمكن الوقوف على وضعية المستشفيات الحكومية في مصر من خلال قراءة متأنية في الأرقام المتعلقة بأعداد تلك المستشفيات وكيف تقلصت خلال الـ15 عامًا الأخيرة، مقارنة بالقطاع الخاص، ففي 2005 كان هناك 1167 مستشفى حكوميًا تقلصت في 2018 إلى 691 بنسبة تراجع بلغت 40.7%، فيما انخفض عدد الأسرة في ذات المستشفيات من 116150 سريرًا عام 2005 إلى 95683 عام 2018 بنسبة تراجع بلغت 17.6%.
أما في الجهة الأخرى فقد زاد عدد المستشفيات الخاصة من 652 عام 2005 إلى 1157 في 2018 بنسبة زيادة بلغت 77.4%، أما الأسرًة فزاد عددها من 18574 سريرًا 2005 إلى 35320 سريرًا عام 2018 بنسبة زيادة تجاوزت الـ90%.
يومًا تلو الآخر يتسع البون بين المصريين وثقتهم في منظومتهم الصحية، التي تأثرت بشكل كبير مع الدخول في معترك جائحة كورونا التي عززت من تلك الفجوة، الأمر الذي يجعل البيانات الصادرة عن وزارة الصحة بشأن أرقام الإصابات بيانات وهمية لا تعبر عن الواقع الحقيقي الذي ربما يحمل مفاجآت كارثية تضع حياة ملايين المصريين على المحك ما لم يتم التحرك الفوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر الشفافية في التعامل والواقعية في الأداء وإعادة النظر في موقع صحة المواطن لدى قائمة أولويات السلطات الحاكمة.