ترجمة وتحرير: نون بوست
تراجعت صحيفة نيويورك تايمز عن سلسلة البودكاست الناجحة التي تعرف باسم “الخلافة”، والتي أنتجتها سنة 2018، بعد أن كشفت مراجعة داخلية أنها فشلت في الاستجابة للمعايير، حيث أن الرجل الذي اعتمدت عليه في روايتها حول جاذبية الإرهاب لا يعتبر شخصا موثوقا به. كما نقلت نيويورك تايمز مراسلتها المتخصصة في شؤون الإرهاب، روكميني كاليماشي، التي قامت بإعداد السلسلة.
يروى بودكاست “الخلافة” قصة شاب كندي ذهب إلى سوريا وانضم إلى تنظيم الدولة وأصبح جلادا في صفوف الجماعة المتطرفة قبل أن يفلت من قبضتها. وخلال هذا الخريف، اتهمت السلطات الكندية شهروز تشودري باختلاق معلومات مزيفة بشأن تلك الرحلة إلى سوريا. في الوقت الحالي، يواجه تشودري تهما جنائية في المحكمة الاتحادية في أونتاريو بسبب الرواية المختلقة عن تجربته المروعة مع تنظيم الدولة.
خلال مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة أجريت يوم الخميس، صرّح دين باكيه، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة نيويورك تايمز: “لقد كنا متحمسين لأننا عثرنا على أحد عناصر تنظيم الدولة الذي وصف حياته في دولة الخلافة المزعومة وتحدث عن جرائمه”. وأضاف: “أعتقد أننا كنا متحمسين لدرجة أننا عندما اكتشفنا دليلًا على أنه ربما كان يؤلف قصصا خيالية، ويختلق تفاصيل وهمية، لم نركز عليه كثيرا”.
تم الإعلان عن السلسلة التي أنتجت بجودة عالية وسط ضجة إعلامية كبيرة خلال شهر آذار/ مارس 2018 في مهرجان “ساوث باي ساوث ويست” في مدينة أوستن بولاية تكساس، كجزء من البودكاست الإخباري الناجح لصحيفة نيويورك تايمز “ذا ديلي”.
تحدث سام دولنيك، مساعد مدير التحرير، عن المشروع قائلا: “يمثل بودكاست الخلافة صورة تعكس الطابع الحديث الذي اكتسته صحيفة نيويورك تايمز”. ويتابع: “يقدم بودكاست الخلافة تقارير طموحة وصارمة فضلا عن سرد قصصي يتسم بجودة رقمية عالية. نحن ننقل جمهورنا إلى أماكن خطيرة لم يسبق لهم زيارتها من قبل، ونقوم بذلك بشفافية لم يسبق لها مثيل”.
مثّل هذا البودكاست منعطفا للصحيفة ومراسلتها المتخصصة في تغطية الإرهاب
حقق بودكاست الخلافة نجاحًا كبيرًا لصحيفة نيويورك تايمز، حيث فاز بعدة جوائز ونال استحسان النقاد، واستقطب عددا من المستمعين والمشتركين الجدد في الصحيفة، كما أصبحت كاليماشي بفضل البودكاست من أبرز الصحفيات في العالم. بتفاصيل حية ودقيقة، تحدث تشودري باسم مستعار (أبو حذيفة)، وكشف لكاليماشي وزملائها عن الفظائع التي شهدها في سوريا وتورطه في عمليات قتل وإعدامات ميدانية.
لقد مثّل هذا البودكاست منعطفا للصحيفة ومراسلتها المتخصصة في تغطية الإرهاب، وهي مسألة من الصعب تناولها صحفيا. صرحت كاليماشي لهيئة الإذاعة الكندية في شهر أيار / مايو 2018 مع بداية حلقات الخلافة: “لقد قدم لنا هدية من خلال هذه القصة، وكشف تفاصيل حياته كعضو في صفوف تنظيم الدولة”. ثبت في الأخير أن هذه الهدية كانت مسمومة.
قصص متضاربة
في عدّة مناسبات قبل إصدار البودكاست، أخبر تشودري وسائل الإعلام الكندية أنه سافر إلى سوريا سنة 2014 وانضم إلى صفوف تنظيم الدولة، لكنه نفى تورطه في جرائم قتل وإعدام. عند الحديث مع كاليماشي وصحيفة نيويورك تايمز، ادعى أنه نفذ عمليات إعدام.
أحدثت الحلقة التي وصف فيها تشودري مقتل اثنين من المدنيين ضجة واسعة في كندا. في قاعة البرلمان في أوتاوا، عارض المشرع المعارض البارز كانديس بيرغن، جهود رئيس الوزراء جاستن ترودو لإعادة تأهيل الإرهابيين السابقين ودمجهم في المجتمع. صرح بيرغن قائلا: “يوجد هذا الرجل على ما يبدو في تورونتو” في إشارة إلى تشودري. وتابع: “الكنديون يحتاجون المزيد من الإجابات من حكومتهم. لماذا لا تتخذ أي إجراء بحق هذا الحقير الذي يتجول في البلاد؟”
لاحقا، نفى تشودري مجددا مشاركته في أي عمليات قتل، متراجعا عن تصريحاته التي أدلى بها لنيويورك تايمز. سنة 2019، وصلت سلسلة البودكاست إلى نهائيات جائزة بوليتزر وفازت بجائزة بيبودي، وهي إحدى أفضل الجوائز الصحفية.
أثارت وسائل الإعلام الكندية وعدد قليل من النقاد في الولايات المتحدة، بينهم إريك ويمبل من صحيفة واشنطن بوست وحسن حسن من مجلة نيو لاينز، أسئلة حول مصداقية كاليماشي ودقة تقاريرها.
تحقيق داخلي
رفضت صحيفة نيويورك تايمز إعادة النظر في قصة تشودري حتى اعتقاله هذا الخريف، عندما اتهمه مسؤولون كنديون بالكذب بشأن المشاركة في أنشطة إرهابية. لاحقا، نُشرت النتائج التي توصّل لها المحقق الكندي مارك مازيتي، وأثارت شكوكا كبيرة حول مزاعم تشودري.
أجرى المحرر الاستقصائي المعروف دين مورفي مراجعة داخلية حول دقة المعطيات التي وردت في بودكاست الخلافة، واكتشف أن كاليماشي وزملاءها فشلوا مرارًا وتكرارًا في بذل الجهود الكافية للتحقق من صحة ادعاءات شودري، وفقا لما صرح به باكيه للإذاعة الوطنية العامة.
يقول باكيه في هذا السياق: “لقد عادوا وقالوا، إذا نظرت إلى قصة الرجل، لا يوجد دليل قوي كاف على أن ادعاءاته كانت صحيحة إلى درجة تجعلنا نأخذ روايته على محمل الجد”.
في مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة استمرت قرابة الساعة، يقول باكيه إن نيويورك تايمز لم يكن لديها أي دليل على أن تشودري ذهب سابقا إلى سوريا، وليس لها أي دليل على أنه انضم إلى صفوف الدولة الإسلامية أو قام بقتل مدنيين. اتسمت رواية تشودري بالكثير من الثغرات والتناقضات، لكن فريق إعداد البودكاست عمل على جعل شهادته قابلة للتصديق.
ويؤكد باكيه أن كبار المحررين الذين اعتادوا منذ فترة طويلة على تحرير المقالات الاستقصائية المعقدة، كانوا يثقون في فريق التحقيق الصوتي الطموح وروايته المقنعة، وهو خطأ يتحمله الجميع، وهو منهم.
ويضيف: “لقد اعتقدتُ أننا أنتجنا قصة أخرى نستطيع أن نبهر بها العالم. كنتُ فخورا بها حقا”.
إعداد بودكاست الخلافة لم يتعمد خداع مسؤولي التحرير والقراء
فازت كاليماشي بعدد من الجوائز المرموقة، وقد وصلت أربع مرات إلى التصفيات النهائية لجائزة بوليتزر. انضمت كاليماشي إلى نيويورك تايمز سنة 2014 بعد أن أمضت سبع سنوات في تغطية الشؤون الإفريقية في وكالة أسوشيتد برس.
يقول باكيه إن مسؤولي التحرير اعتمدوا على كاليماشي فيما يتعلق بمصداقية بودكاست الخلافة: “إنها مراسلة قوية ومؤثرة.. كان يُنظر إليها في تلك اللحظة، على أنها متخصصة في أخبار تنظيم الدولة. لا شك أن ذلك كان من أهم عوامل وراء إنتاج السلسلة”.
وحسب باكيه، فإن تقرير مورفي توصل إلى أن فريق إعداد بودكاست الخلافة لم يتعمد خداع مسؤولي التحرير والقراء. يوم الجمعة، أصدر باكيه مذكرة داخلية قال فيها إن الفيلم الوثائقي الصوتي ما كان يجب أن يُنتج مع تشودري كشخصية مركزية. وكتبت صحيفة نيويروك تايمز أن الفيلم الوثائقي لم يستوف معايير الدقة أو التحقق من المعلومات الواردة فيه.
لم تقم نيويورك تايمز بحذف الحلقات من موقعها أو صفحتها. وعندما سُئل عما إذا كانت الصحيفة قد تراجعت عن موقفها، أكد باكيه أن المحتوى المتعلق بتشودري سيتم حذفه.
ويؤكد باكيه أن تقرير مورفي سيؤدي إلى تصحيح بعض الأشياء الإضافية في البودكاست، لكنه يرى أن ذلك لا يعني وجود أخطاء فادحة في السلسلة.
رفضت كاليماشي التحدث إلى الإذاعة الوطنية العاملة بخصوص هذه القضية، ونشرت صباح الجمعة بيانا على حسابها على تويتر أعربت فيه عن اعتزازها بتقاريرها السابقة عن تنظيم الدولة، لكنها اعتذرت للمستمعين، ووصفت الأخطاء بأنها “متواضعة”.
وكتبت كاليماشي على تويتر: “التفكير في زملائي وغرفة التحرير التي خذلتها أمر مؤلم… لقد اكتشفت أن الرجل الذي تحدث إلينا في البودكاست كذب في جوانب رئيسية من روايته وأبلغت عن ذلك. كما أنني لم أنتبه لأكاذيب أخرى في روايته، وكان يجب علي أن أفهمها.” وتعهدت بأن تقوم بعمل أفضل في المستقبل.
دفاع كاليماشي عن رواية تشودري
عندما أُثيرت الأسئلة حول البودكاست لأول مرة، رفضت كاليماشي الانتقادات حول صحة السلسلة الوثائقية قائلة إن فريقها فقط هو الذي تمكن من الحصول على الحقيقة من تشودري.
قالت كاليماشي لمحطة “سي بي سي” في أيار/ مايو سنة 2018: “لقد تمكنا من الوصول إليه قبل أن تصل إليه أي وسيلة إعلام أخرى، والأهم، قبل أن يُطبق عليه القانون”.
في خريف العام الجاري، بينما كانت السلطات الكندية تقترب من إنهاء التحقيق في قضية تشودري، دافعت كاليماشي عن سلسلتها مجددا، وأثارت على تويتر تساؤلات حول كفاءة مسؤولي المخابرات الكندية في التعامل مع القضية. كما دافعت صحيفة نيويورك تايمز عن البودكاست في وجه انتقادات واشنطن بوست وغيرها من وسائل الإعلام التي سلطت الضوء على الشكوك بشأن رواية تشودري.
أثيرت الشكوك في البداية حول ما جاء في الحلقة السادسة، حيث واجهت كاليماشي وفريقها مشاكل تتعلق بترتيب الأحداث وفق رواية تشودري، وتساءل البعض عن مدى استعداد الصحيفة لتغيير الرواية حتى يكون ترتيب الأحداث منطقيا.
حافظ بعض المحررين والمراسلين في الشؤون الدولية بالصحيفة على مسافة مع كاليماشي، وفقا لزملائهم الذين تحدثوا بشرط عدم ذكر أسمائهم
اعتمدت كاليماشي على بعض التقارير التي قدمها زملاؤها إريك شميت وآدم غولدمان وآخرون، والتي تفيد بأن مسؤولي الاستخبارات الأمريكية والكندية يعتقدون بأن تشودري انضم فعلا إلى تنظيم الدولة. ولكن لم يكن من الواضح ما إذا كانت تلك التقارير تستند إلى أدلة قاطعة تسمح بالتحقق من قصة تشودري.
من خلال نشر تحليلات فورية على منصات التواصل الاجتماعي حول الهجمات الإرهابية، رسّخت كاليماشي صورتها كصحفية متخصصة في شؤون الجماعات المتطرفة.
في الواقع، كانت كاليماشي تظهر باستمرار على الإذاعة الوطنية العامة وشبكات أخرى لتحليل تلك الأحداث، ويعتبرها العديد من الزملاء قوية وجريئة ومميزة في رصد الأخبار والوصول إلى المصادر والوثائق من أبعد المناطق.
كان لدى كاليماشي أيضا العديد من المنتقدين، حتى داخل غرفة التحرير في نيويورك تايمز. حافظ بعض المحررين والمراسلين في الشؤون الدولية بالصحيفة على مسافة مع كاليماشي، وفقا لزملائهم الذين تحدثوا بشرط عدم ذكر أسمائهم بسبب حساسية الموضوع.
في إحدى الحالات، تطلب سبق صحفي أنجزته كاليماشي مصادقة إضافية للتأكد من صحة الوثائق التي اعتمدت عليها. وفي حالة أخرى، كشفت الصحيفة أن كاليماشي اشترت مقاطع فيديو تتضمن دعاية إرهابية.
ومع ذلك، عبّر باكيه، ومدير التحرير جوزيف خان، عن مساندتهما لكاليماشي. من جانبه، أشاد دولنيك، سليل عائلة سولزبيرغر التي تمتلك غالبية الأسهم في “نيويورك تايمز”، بالدور الذي تضطلع به كاليماشي.
إلى جانب كاليماشي التي لعبت الدور الأبرز في إنتاج بودكاست الخلافة، قام منتج الصوت أندي ميلز بدور مهم أيضا.
ويرفض باكيه الحديث عن إمكانية توبيخ الصحفيين الآخرين الذين عملوا في السلسلة، أو تغيير أماكنهم في الصحيفة، ويضيف أنه سيعمل مع كاليماشي على تحديد مهام جديدة، مثنيا على التحقيق الذي أجرته مؤخرا بشأن إطلاق الشرطة النار على بريونا تايلور في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي.
ويقول باكيه في هذا السياق: “لا أرى كيف يمكن لروكميني العودة إلى تغطية الإرهاب بعد أن سقطت واحدة من أبرز القصص بهذه الطريقة”. تؤكد صحيفة نيويورك تايمز إنها عرضت إعادة جائزة بيبودي، وقد وافق المدير التنفيذي للجائزة على ذلك. كما أعلن “نادي الصحافة لما وراء البحار” سحب جائزة لويل توماس التي منحها لبودكاست الخلافة.
ويشير باكيه إلى ما كتبه بن سميث في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عندما اعتبر أن الجدل حول بودكاست الخلافة أمر إيجابي لتعزيز الشفافية.
وتابع قائلا: “عندما نخطئ، أريد أن يفهم الناس أننا سنتحدث عن هذا الخطأ. آمل أنه من خلال تسليط الضوء على هذا الخطأ، سيفهم الناس أننا نريد كسب ثقتهم. ونريد منهم أن يصدقوا ما نقوله”.
المصدر: الإذاعة الوطنية العامة