تشهد الأوضاع الأمنية في بغداد احتقانًا غير مسبوق، مع قرب الذكرى السنوية الأولى لمقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني في محيط مطار بغداد الدولي مطلع العام الحاليّ، وفي هذا السياق جاءت الهجمات الصاروخية التي تعرض لها مجمع السفارة الأمريكية في بغداد، من ما يعرف بخلايا الكاتيوشا ليل السبت/الأحد، لتؤكد مدى الضعف الأمني الذي يعتري عمل الحكومة العراقية، في مواجهة هذه الخلايا، وحماية البعثات الدولية في العراق.
تأتي زيارة قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني لبغداد يوم الأربعاء 23 من ديسمبر/كانون الأول 2020، وهي الزيارة الخامسة له هذا العام للعراق، لتؤكد مدى الأهمية التي يوليها قآني للملف العراقي، فهي تأتي بعد زيارة سابقة له في نوفمبر/تشرين الأول الماضي، التي أعلن خلالها عن تهدئة مع القوات الأمريكية في العراق، كما أنها تأتي بعد الإعلان الرسمي بفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
وفي ظل هذا المشهد أيضًا، تعاني الفصائل الولائية في العراق اليوم، من تمردات داخلية على المواقف الإيرانية في العراق، ومن ذلك، إعلان زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي نهاية الهدنة مع القوات الأمريكية، وأن موقف العصائب ليس له علاقة بالهدنة الإيرانية، وهو ما قد يبرر زيارة قآني أيضًا، لوضع حد لهذه التمردات الداخلية، وكذلك مناقشة ما حصل مع سرايا الخرساني، من حيث اعتقال قادته وتفكيك عناصره.
مواجهة تهديد تفكك الحشد الشعبي
يدرك قآني المخاطر الكبيرة التي تكتنف الخلاف الحاليّ بين فصائل الحشد الشعبي، وتحديدًا عندما يتم الحديث عن العلاقة بين الحشد الولائي المرتبط بالمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وحشد العتبات المرتبط بمرجعية السيد علي السيستاني، هذه الخلافات تبلورت بصورة كبيرة بعد مقتل نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس مطلع العام الحاليّ، حيث أدى فراغ القيادة داخل هيئة الحشد وهيمنة الحشد الولائي على الدوائر الرئيسية داخل الهيئة، إلى إعلان حشد العتبات فك ارتباطه بهيئة الحشد الشعبي ودمج ألويته الأربع (فرقة الإمام علي ولواء علي الأكبر وفرقة العباس القتالية ولواء أنصار المرجعية)، بوزارة الدفاع العراقية في أبريل/نيسان 2020.
زيارة قآني تأتي في ظل توجه الكتل الشيعية لسحب الثقة من حكومة الكاظمي
هذا الخلاف تجسد في المؤتمر الذي أقامه حشد العتبات في 3 من ديسمبر/كانون الأول 2020، تحت شعار “حشد العتبات حاضنة الفتوى وبناة الدولة”، وجاء المؤتمر ليعكس معاناة حشد العتبات من شح الدعم المالي والتسليح والتجهيز والتعتيم على دور مقاتليه في الحرب على داعش، على عكس الفصائل الموالية لإيران، التي تم تضخيم دورها ونفوذها.
وحضر المؤتمر وكلاء السيد السيستاني، وكذلك ممثلون عن العتبات الدينية في النجف وكربلاء، وفي هذا السياق جاءت مواقف قيادات الفصائل الولائية متباينة من تحركات حشد العتبات، إذ اعتبر الخزعلي، مؤتمر حشد العتبات، بأنه صناعة أمريكية إسرائيلية، في حين جاءت مواقف هادي العامري زعيم منظمة بدر أكثر دبلوماسية من أجل تسوية الخلافات، لمنع انفصال حشد العتبات عن هيئة الحشد، لما لذلك من تبعات سلبية كبيرة على مستقبل الهيئة.
لتجاوز هذه الخلافات زار قآني النجف، بعد لقائه برئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، حيث التقى قادة عدة فصائل ولائية، وكذلك وسطاء مقربين من مكتب السيستاني، لتذليل المخاوف ولبحث حالة الخلاف الحاليّ مع حشد العتبات، وعدم تصعيد الخلاف إلى مستوى قد يصل إلى حالة الصدام المسلح، خصوصًا بعد تعرض معسكر تابع لفرقة العباس القتالية في محافظة صلاح الدين شمالي العراق، لهجوم صاروخي في 19 من ديسمبر/كانون الأول 2020، واتهام فصائل ولائية معترضة بالوقوف وراء الهجوم، بسبب مواقفها الأخيرة.
كما أن زيارة قآني تأتي في ظل توجه الكتل الشيعية لسحب الثقة من حكومة الكاظمي، ويبدو أنها زيارة لثني هذه الكتل عن توجهها، بناءً على تفاهمات مع الكاظمي، تتعلق بالتهدئة مع القوات الأمريكية وعدم التحرش بالفصائل القريبة من إيران، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بخلايا الكاتيوشا، وقالت المصادر: “قآني وصل إلى بغداد، مع انطلاق حراك سياسي شيعي قوي، يجري الحديث إما عن إقالة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي مع رئيسي الجمهورية برهم صالح والبرلمان محمد الحلبوسي، وإما ترشيق في الحكومة الحاليّة”، وأفادت بأن “الأحزاب الشيعية بدأت نشاطًا ملحوظًا، وخطابها بدأ يتصاعد عن تغيير الكاظمي، والأنظار متجهة حاليًّا إلى حسم الانتخابات الأمريكية بشكل كامل، حتى تتحرك هذه الأحزاب، ولم يحسم حتى الآن بين تغيير الكاظمي أو تقليل عدد وزراء حكومته”.
تأكيد الهدنة وإنهاء التمردات
أكدت مصادر مقربة من فيلق القدس، أن قآني اتجه إلى العراق على جناح السرعة بأوامر مباشرة من خامنئي، للسيطرة على الوضع بين بعض حلفاء إيران وواشنطن، للحيلولة دون أي خطأ في الوقت الضائع قبل 20 من يناير/كانون الثاني المقبل، ورغم نفي جميع الفصائل العراقية، ومنها تلك المحسوبة على طهران، مثل كتائب “حزب الله” العراقي وعصائب أهل الحق، مسؤوليتها عن القصف، قالت المصادر إن قآني أجرى اتصالات مع “حزب الله” اللبناني، وكذلك حلفاء إيران في سوريا، محذرًا إياهم من أن تل أبيب ستحاول تحريك الجبهتين اللبنانية أو السورية، بعد ما جرى في بغداد هذا الأسبوع، وأن عليهم التزام الحذر وعدم الانجرار وراء أي استفزاز.
وبالإضافة إلى ما تقدم، أبلغ قآني الكاظمي، رفض القيادة الإيرانية لعمليات قصف البعثات الدبلوماسية التي تقوم بها جهات خارجة عن القانون، وأن طهران تدعم جهود الحكومة العراقية في بسط الأمن والنظام وحماية المصالح الوطنية العراقية، كما أنه أبلغ الكاظمي أيضًا بعدم وقوف أي فصيل محسوب على “جناح محور المقاومة”، بمثل هذه الأفعال التي تؤثر على استقرار العراق وتمس مصالحه، فضلًا عن بحثه جملة من القضايا المشتركة بين البلدين.
تدرك إيران اليوم أن عدم الرد على عملية اغتيال عالمها النووي حسين فخري زادة قد يخدم وضعها الإستراتيجي الحاليّ
أصبحت زيارات قآني لبغداد أمرًا متكررًا عند وقوع أي صاروخ على السفارة الأمريكية في بغداد، وهو ما حدث ليل (السبت/الأحد)، عندما سقطت صواريخ كاتيوشا على مجمع السفارة، حيث إن طهران تشك في وجود أيادٍ خفية أطلقت الصواريخ في بغداد، في محاولة لدفع واشنطن إلى توجيه ضربة قوية لفصائل عراقية، ما قد يجر رجل إيران إلى المعركة، حيث كانت الخارجية الإيرانية قد شككت في توقيت إطلاق الصواريخ، وقالت إن بيان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي اتهم طهران بالوقوف وراء الصواريخ، معد مسبقًا.
تدرك إيران اليوم أن عدم الرد على عملية اغتيال عالمها النووي حسين فخري زادة، الذي اُغتيل في محيط العاصة طهران الشهر الماضي، قد يخدم وضعها الإستراتيجي الحاليّ، فهي تواجه تحديات كبيرة على صعيد البيئتين الإقليمية والدولية، كما أن الوضع الداخلي في إيران، خصوصًا حالة عدم الاتفاق على موقف واضح من الاتفاق النووي والعلاقة مع إدارة بايدن المقبلة، بين خامنئي وروحاني، توحي بأنها ليست بوارد الرد في الوقت الحاضر، ولهذا يمارس قآني دبلوماسية مكوكية نحو حلفاء إيران في المنطقة، من أجل ضبط إيقاعهم الإستراتيجي وعدم منح إدارة ترامب الفرصة بأن توجه ضربة عسكرية قوية، قد لا تستطيع البيئة الداخلية الإيرانية تحملها، خصوصًا أن الوضع الصحي لخامنئي لا يبعث على الاطمئنان بالوقت الحاضر.