على الرغم من التطور الهائل الذي شهدته البشرية في العقود الأخيرة الماضية، لا يزال هناك ملايين الأطفال يتضورون جوعًا حول العالم، وحتى في بعض الدول الأكثر تقدمًا وثراءً هناك أحياء فقيرة ووفيات أطفال نتيجة سوء التغذية أو سوء الرعاية الصحية وأشخاص يعيشون في فقر مدقع يحصلون على أقل من 1.90 دولار في اليوم، لذلك حدد قادة العالم لأنفسهم موعدًا نهائيًا بحلول عام 2030 للقضاء على الفقر المدقع تمامًا.
الخبر السار الذي يدعو للتفاؤل أن النسبة المئوية لسكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع تتناقص منذ ما يقرب من قرنين من الزمان ويعود الفضل في ذلك إلى الثورة الصناعية التي أسهمت في ازدهار الاقتصاد العالمي، ففي عام 1820 كان 84% من سكان العالم يعيشون في فقر مدقع، وبحلول عام 1981 انخفضت النسبة إلى 44%، وفي العام الماضي انخفضت أخيرًا إلى أقل من 10%، ولا يمكن وصف هذا الإنجاز إلا بالعظيم بالنظر إلى أنه خلال نفس الفترة زاد عدد سكان العالم سبعة أضعاف.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة أنه خلال العقود الأخيرة انخفض أيضًا العدد المطلق للأشخاص الذين يعيشون في فقر، وإذا عدنا للعام 1990 كان لا يزال هناك 1.95 مليار شخص يعيشون في فقر مدقع، وفي عام 2012 كان الرقم 896 مليونًا، ويمكننا أن نعزو ذلك إلى الثورة التكنولوجية الكبيرة التي شهدها العالم في الثلاثة عقود الأخيرة. ويتوجب السؤال هنا: كيف يمكن أن نصل إلى عالم من دون فقر؟
نظرية الفقر خطأ الفقراء
لا تزال الفكرة القائلة إن الفقراء هم المسؤولون عن فقرهم سائدة، فمن السهل القول إن الفقراء فقراء لأنهم لا يجتهدون أو لأنهم يتخذون قراراتهم الحياتية بشكل خاطئ كأن ينجبوا الكثير من الأبناء، أو أنهم لا يتخلصون من عاداتهم السيئة التي تبقيهم في فقرهم، ووفقًا لهذا الرأي، فإن برامج الرعاية الاجتماعية مثل قسائم الطعام أو قسائم الإسكان أو المعونات الحكومية تأتي بنتائج عكسية، لأنها تثبط الجهد والمثابرة التي يحتاجها الفقراء من أجل النهوض بأنفسهم.
وما إذا اتبع الناس ببساطة ما يسمى بتسلسل النجاح – تأجيل الزواج والولادة والبقاء في المدرسة والعمل الجاد، وما إلى ذلك – فلن يقعوا في براثن الفقر.
لكن هذه الفكرة ربما تعتمد على سوء فهم عميق لما تبدو عليه حياة الفقراء، فقد بدأ الاقتصاديون في تجميع الأدلة على أن الفقراء ليسوا حقًا متخاذلين، وإنما مستعدين ومندفعين للتعامل مع عالمهم المليء بالتحديات اليومية، لكن المشكلة تكمن في أن أي خطوة خاطئة أو حتى سوء الحظ يؤدي إلى عواقب وخيمة لا يستطيع الفقراء تحملها، وذلك ما يتطلب منهم قدرًا هائلًا من الجهد المعرفي، وهذا الضغط هو الذي يدفع العديد من الفقراء إلى اتخاذ قرارات دون المستوى، وليس الأخلاق السيئة أو الكسل الناجم عن الرفاهية.
في دراسة بعنوان “الفقراء والقدرات العقلية الفقيرة”، أجريت تجربة على مجموعة من المزارعين الهنود، ووجد الباحثون أن الأداء المعرفي لهولاء الأشخاص يكون أسوأ قبل الحصاد أي عندما تكون الموارد المالية شحيحة، وهي النتيجة التي حولها البروفيسور الأمريكي من أصل هندي سينثيل موليناثان إلى نظرية عامة تشير إلى أن “الندرة أو القلة تولد التوتر”، ما يؤدي إلى اتخاذ قرارات سيئة، وبالتالي إلى مزيد من الندرة، وهكذا، يقع الفقراء في شرك دائرة مرهقة، لكن لا مفر منها.
المصدر: البنك الدولي
البيانات تؤكد أن التكنولوجيا وأثرها المهول في كل المجالات أدت إلى خفض معدلات الفقر الحاد بشكل كبير ومتسارع خلال العقود الثلاث الأخيرة، فإن عدد من يعيشون تحت خط الفقر المدقع انخفض من أكثر ما يزيد على 40% سنة 1985 إلى ما يقارب 10% عام 2019.
هل يمكن للاتفاقيات الدولية القضاء على الفقر؟
حتى عام 2000 لم تكن هناك أي اتفاقيات دولية لمكافحة الفقر إلى أن تم وضع الأهداف الإنمائية للألفية لإعطاء زخم جديد في الحرب ضد الفقر، وكان التركيز على الهدف الأول من هذه الأهداف الثمانية: خفض الفقر المدقع إلى النصف في جميع أنحاء العالم في غضون 15 عامًا، وفعلًا نجح العالم في تحقيق ذلك بشكل عام.
لكن إذا دققنا في التفاصيل سنجد أن جزء كبير من هذا الإنجاز يعود إلى النمو الاقتصادي في الصين، لكن الوجه الآخر للحقيقة أن معدل الفقر في إفريقيا لم ينخفض إلى النصف، بل هو بعيد كل البعد عن ذلك، ولذلك منذ سبتمبر/أيلول الماضي، حددت الأمم المتحدة هدفًا جديدًا، وهو: القضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، ويمكن اعتبار هذا القرار الخطوة الأولى لرحلة ألف ميل نحو البحبوحة والاكتفاء المالي.
هل تستطيع المساعدات الدولية القضاء على الفقر؟
تنفق حكومات الدول الغنية نحو 125 مليار دولار سنويًا على مساعدات التنمية المستدامة، وعلى مدى السنوات الخمسين الماضية، بلغ المجموع أكثر من 4.8 تريليون دولار، وقد نعتقد لوهلة أن المبلغ ضخم، لكنه أقل من تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان التي وصلت إلى 6.4 تريليون دولار!
نظريًا، يمكن أن نفعل الكثير من الخير بهذا المبلغ من المال، لكننا لا نعرف في الواقع ما إذا كان هناك رغبة دولية حقيقية في ذلك، عمومًا في السنوات العشرة الماضية فقط بدأ الباحثون بشكل منهجي في البحث عن فاعلية برامج التنمية والمساعدات الكثيرة لتحديد أنواع المساعدة التي تأتي بنتائج حقيقية.
برامج التنمية والمساعدات لا يجب أن تأتي مقولبة من الدول المانحة وإنما يجب أن تأتي بالعكس من أدنى درجات مؤسسات المجتمع المدني
إذ تتعرض هذه البرامج للكثير من الانتقاد، وقد تختلف آثارها من بلد إلى بلد بحسب عوامل كثيرة، فربما تكون برامج التمويل الصغير ناجحة في كينيا، لكن تأثيرها ضئيل في الهند.
تبقى الإجابة البسيطة أننا لا نعرف بشكل عام، ويمكن القول إن برامج التنمية والمساعدات لا يجب أن تأتي مقولبة من الدول المانحة وإنما يجب أن تأتي بالعكس من أدنى درجات مؤسسات المجتمع المدني لتأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحقيقية للفئة المستهدفة والتحديات المحلية بكل تفاصيلها، وعند اتخاذ هذه النقطة في الحسبان قد تؤتي المساعدات ثمارها كما هو متوقع.
دور الحكومة
تخيل عالمًا دون أي نظام رسمي لتسجيل الأراضي، ففي كثير من البلدان النامية نادرًا ما يوجد مثل هذا النظام، وهذا يجعل من المستحيل على الفقراء امتلاك الأرض التي يعيشون عليها رسميًا، الأرض التي يزرعون فيها الخضراوات. النتائج؟ ريبة. لماذا تستثمر في منزل أو في المحاصيل التي تعد بعوائد أفضل على المدى الطويل، إذا كانت أرضك قد تصادر منك في أي لحظة؟
مثال آخر: مصلحة الضرائب. إذا لم يكن هناك نظام ضريبي عادل، فإن الحكومة تخسر مليارات الدولارات من الدخل المحتمل، الأموال التي يمكن إنفاقها على الخدمات الاجتماعية أو البنية التحتية التي تسهم في محاربة الفقر، وهي الجوانب التي يناقشها كتاب “لماذا تفشل الأمم؟” بشكل مقنع للغاية، حيث يرى أن هذه الأنواع من المؤسسات والأنظمة كانت مسؤولة عن أن تصبح بعض البلدان غنية وبعضها الآخر فقير.
ماذا عن التجارة؟
كانت دامبيسا مويو من أوائل الاقتصاديين الذين تحدوا فكرة أن مساعدات التنمية من شأنها القضاء على الفقر، ففي عام 2009 نشرت كتابًا بعنوان “Dead Aid”، الذي وجهت فيه نداءً صارخًا ضد مساعدات التنمية ولصالح استبدالها بالتجارة، لكن لتحقيق ذلك هناك تحديات كبيرة تواجه الدول الفقيرة، فمما لا شك فيه أن الدول الغربية والأكثر تقدمًا تجعل من الصعب على البلدان النامية بيع منتجاتها في الأسواق الغربية.
تقدر مويو، على سبيل المثال، أن إفريقيا تخسر 500 مليار دولار سنويًا بسبب الحواجز التجارية، في الغالب الإعانات الزراعية، التي تذهب بطبيعة الحال للمزارعين في الدول الغربية، ما تجعل منتجاتهم أكثر كفاءة وربحية، ومن ناحية أخرى، فإن البلدان الإفريقية تضع عوائق على بعضها البعض، حيث يبلغ متوسط ضريبة الاستيراد الإفريقية على المنتجات الزراعية 34% وهذا أحد أسباب قيام البلدان الإفريقية بما نسبته 10% فقط من تجارتها مع البلدان الأخرى في القارة، وعلى سبيل المقارنة: هذه النسبة في أوروبا تبلغ 63%.
لقرون عدة، كان يُنظر إلى الفقر على أنه شر لا بد منه، إذ كان يعتقد أن الجوع يضمن أن الناس سيعملون بجد
ونظرًا لذلك، فإن وصول العالم إلى مرحلة تكون فيها التجارة عادلة ومفتوحة أمام كل الدول، فإن ذلك سيعني نموًا لا يمكن تصوره للبلدان النامية، لكن هل سيؤدي ذلك إلى فقر أقل؟ ليس بالضرورة، فثروة الاقتصاد المتنامي لا تصل دائمًا إلى أفقر طبقات السكان لأسباب عدة مثل الفساد.
إذن، فإن الخروج من هذه الدوامة يستلزم خطة دولية ومنهجية مدروسة لأهداف مساعدات التنمية وتعاون واسع من الحكومات المحلية للمجتمعات الفقيرة، إضافة إلى بعض المرونة في أنظمتها وقوانينها لا سيما المتعلقة بالتجارة الحرة ونظام الضرائب، ودون النظر إلى هذه المحاور سيبقى الفقراء عالقين بين النظريات الاجتماعية القاسية ومواقف المجتمع الدولي والمحلي المتراخية تجاه قضية الفقر.
نهايةً، لقرون عدة، كان يُنظر إلى الفقر على أنه شر لا بد منه، إذ كان يعتقد أن الجوع يضمن أن الناس سيعملون بجد، وزُعم أن الرواتب المنخفضة ضرورية للنمو الاقتصادي، إلا أن هذا الرأي انقلب منذ تسعينيات القرن الماضي وفجأة أصبح يبدو أن الأمر ممكنًا، وبحسب الإحصائي السويدي هانز روسلينج فإن تخليص عالمنا من الفقر المدقع، على حد تعبيره “بالمقارنة مع المشاكل الهائلة الأخرى، مثل تغير المناخ أو الحرب، هو الفول السوداني”، أي أنه لقمة سائغة أو مهمة يسيرة على المجتمع الدولي. دعونا نأمل أنه على حق.