كشفت التطورات العسكرية على الحدود السودانية الإثيوبية خلال الأيام الأخيرة عن حزمة من التغيرات الواضحة التي انتابت إستراتيجية الخرطوم وأديس أبابا في التعامل مع تلك المناوشات المستمرة منذ 1957 في أعقاب سيطرة عدد من المزارعين الإثيوبيين على بعض المناطق شرق السودان.
رد الفعل السوداني حيال الاعتداءات التي تعرضت لها بعض الوحدات العسكرية في منطقة الفقشة الحدودية في 28 من مايو/أيار الماضي، التي أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من الجنود والمواطنين السودانيين، وما تبعها من أحداث 15 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ على أيدي عصابات إثيوبية بحق عسكريين سودانيين في منطقة “جبل أبو طيور” يؤكد أن هناك أمرًا ما قد تغير.
التحرك الحازم من الجيش السوداني باتجاه مناطق التوتر والدعم الذي لقاه هذا التحرك، سواء من المكون العسكري أم المدني، في دائرة الحكم المؤقتة، والنجاحات التي تحققت على أرض الواقع، بجانب لغة الخطاب القوية الصادرة عن الخرطوم في هذا الملف، تشير إلى نقلة نوعية واضحة في القرار السوداني الذي خضع طيلة السنوات الماضية للعديد من الحسابات والمواءمات.
الرسالة الواضحة التي بعث بها الجانب السوداني لنظيره الإثيوبي عبر تلك التحركات الجادة التي تتمحور في أن الخرطوم لن تصمت مرة أخرى على أي اعتداءات على شريطها الحدودي، (الرسالة هنا لا تقتصر على أديس أبابا فقط)، التي تزامنت مع رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب ومؤشرات إلغاء العقوبات التي أوقعت البلاد في عزلة دولية دامت لما يزيد على ربع قرن.. تدفع للتساؤل: ما الذي تغير؟
الخطاب السوداني.. نقلة نوعية
لأول مرة منذ أكثر من 60 عامًا تدخل العلاقات السودانية الإثيوبية هذه المرحلة من التوتر الحدودي، إذ استقر الأمر طيلة تلك السنوات على اعتداءات متبادلة بين الحين والآخر، لا تعدو كونها تحركات فردية من بعض مواطني البلدين، وكانت الكلمة العليا في تلك المواجهات لصالح الإثيوبيين الذين بسطوا أيديهم على قطاعات كبيرة من الأراضي الزراعية السودانية، مدعومين بتعزيزات عسكرية أحيانًا.
الوضع الاقتصادي المترهل والضغوط السياسية الخانقة والمأزق الأمني الداخلي وضع الخرطوم طيلة العقود الماضية في موقف ضعف أمام المناوشات الحدودية، وكان الاهتمام الأكبر خلال مرحلة الرئيس المعزول عمر البشير منصبًا على الأزمات الأمنية الداخلية ومحاولة فرض الهيمنة لئلا تخرج الأمور عن السيطرة.
الأيام الأخيرة سرعان ما تبدل الحال بصورة لفتت نظر الكثير من الخبراء والسياسين، فالأوضاع منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الحاليّ تختلف شكلًا ومضمونًا عما كانت عليه قبل هذا التاريخ، فعقب الاعتداءات التي نفذتها بعض الجماعات المسلحة الإثيوبية تجاه أفراد الجيش السوداني في جبل أبو طيور، توقع البعض أن الأمور ستكون كما كانت عليه قبل ذلك، لا تعدو بيانات شجب وإدانة ومناشدات بضبط النفس.
التساؤل هنا: ما الجديد الذي شهده السودان ليتحرك بهذه الصورة ولأول مرة منذ استقلاله ويتخذ خطوات جادة نحو التصدي للاعتداءات الإثيوبية على الحدود الشرقية للبلاد؟
لكن التطورات كانت أسرع مما يتوقع البعض، حيث فوجئ الجميع بزيارة رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، لولاية القضارف الحدودية، مؤكدًا دعم البلاد الكامل لتحركات الجيش وإعادة انتشاره وتموضعه مرة أخرى في تلك المنطقة المتوترة، هذا فيما أوضح المتحدث باسم الجيش السوداني أن الخيارات كلها مفتوحة أمام الجيش من أجل فرض السيطرة واستعادة سيادته على تلك المنطقة.
ولأول مرة يستجيب رئيس الحكومة لمناشدات الشارع والتيارات السياسية المختلفة بالانتصار لسيادة البلاد والدفاع عن التراب الوطني والتصدي لأي محاولات من شأنها أن تنتهك حقوق الشعب السوداني، حتى لو كانت من دولة حليفة مثل إثيوبيا التي يربط بين رئيس وزرائها ونظيره السوداني علاقات شخصية قوية.
السودانيون يعرفون جيدًا أن التحركات الأخيرة التي تشير إلى احتمالية بسط الجيش السيطرة على المناطق الحدودية المتنازع عليها مع إثيوبيا، من الممكن أن تسفر عن مواجهات عسكرية مسلحة بين البلدين، وما لذلك من تداعيات خطيرة، خاصة أن النجاحات المحققة ميدانيًا ستضع حكومة آبي أحمد تحت ضغوط شعبية وسياسية داخلية، الأمر الذي قد يدفعه إلى التصعيد مع الخرطوم حفاظًا على تماسك جبهته الداخلية التي تتآكل بصورة كبيرة خلال الآونة الأخيرة بسبب تراجع شعبيته.
التساؤل هنا: ما الجديد الذي شهده السودان ليتحرك بهذه الصورة ولأول مرة منذ استقلاله ويتخذ خطوات جادة نحو التصدي للاعتداءات الإثيوبية على الحدود الشرقية للبلاد؟
الجيش السوداني.. مكاسب تعيد رسم الخريطة
بداية لا بد من الإشارة إلى أن التحركات السودانية الأخيرة وما حققته من نجاحات حدودية لا يمكن أن تكون بمعزل عن التطورات التي شهدتها الساحة السودانية فيما يتعلق برفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب وإلغاء العقوبات المفروضة عليها منذ ما يزيد على ربع قرن، بجانب تحصين الدولة من أي ملاحقات قضائية مستقبلية من الممكن أن تعيدها للعزلة الدولية التي عانت منها طيلة السنوات الماضية مرة أخرى.
الإغراءات التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسودان نظير الإسراع في خطوات التطبيع مع “إسرائيل”، لا شك سيكون لها تداعيات على المنظومة الأمنية السودانية، إذ من المتوقع أن تشهد قيادة الجيش المزيد من التحرر في اتخاذ القرارات وإحداث التطوير والتحديث على مستوى التدريب والتسليح.
التطورات المحتملة في المنظومة العسكرية للسودان ستفرض نفسها بقوة على خريطة النزاعات التي تعاني منها البلاد طيلة السنوات الماضية، التي دفعت ثمنها غاليًا جدًا، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، الأمر الذي كان سببًا رئيسيًا في الإطاحة بنظام الإنقاذ.
هناك مؤشرات تذهب إلى احتمالية حدوث حراك جديد في ملف “حلايب وشلاتين” على الجانب الحدودي الشمالي مع مصر
ومع مؤشرات الحلحلة في ملف المليشيات والجماعات المسلحة ومؤشرات الوصول إلى اتفاقيات السلام مع عبد الواحد محمد نور رئيس حركة وجيش تحرير السودان، وعبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، مدعومة باتفاق السلام الموقع مؤخرًا في جوبا، فإن الجيش السوداني من المتوقع أن يشهد نهضة كبيرة على المستويات كافة تتزامن مع تخفيف الضغط الواقع عليه.
ويحتل الجيش السوداني المرتبة الـ69 في قائمة أقوى جيوش العالم، فيما يأتي ضمن قائمة الجيوش العشر الأقوى في إفريقيا، وتبلغ قوته البشرية 189 ألف جندي، بينهم 85 ألف جندي في قوات الاحتياط، في الوقت الذي يبلغ عدد من وصلوا لسن الخدمة العسكرية في البلاد قرابة 1.2 مليون نسمة، بحسب موقع “غلوبال فير بور” الأمريكي لعام 2019.
وتعد القوة الجوية أحد أبرز مفاخر المؤسسة العسكرية السودانية، حيث تحتل المرتبة الخمسين بين أقوى 137 قوة جوية في العالم، إذ يمتلك الجيش 191 طائرة حربية (46 مقاتلة حربية و81 طائرة هجومية و23 طائرة نقل عسكري و11 طائرة تدريب، بخلاف مروحيات حربية هجومية).
ووفق بيانات البنك الدولي 2019 فإن نسبة الإنفاق على القوات المسلحة لا تتجاوز 1.6% من إجمالي الناتج القومي، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن الإنفاق على المؤسسات الأمنية بشتى أنواعها (جيش وشرطة) يشكل قرابة 10% من موازنة الدولة.
ليست إثيوبيا وحدها
كان لوجود السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب دور سلبي في إضعاف القرار السيادي للبلاد، اقتصاديًا وسياسيًا، الأمر الذي جعل النظام الحاكم خاضعًا لكثير من الإملاءات والشروط وعرضة للابتزازات الخارجية، وهي النقطة التي كانت مثار غضب الشارع الذي اتهم البشير برهن قرار بلاده للرياض تارة وأبو ظبي تارة أخرى مقابل الدعم المالي المقدم منهما.
هذا بجانب فقدان الغطاء الشعبي والدعم السياسي والمجتمعي للسودانيين في المهجر، ما عمق عزلة البلاد الدولية والداخلية في آن واحد، وهو الوضع الذي بدأ يتغير شيئًا فشيئًا خلال الأيام الماضية، فمع إسقاط العقوبات سيكون السودان على أبواب الانفتاح على العالم بكل مؤسساته ومن ثم تعزيز موقفه حال اللجوء إلى قضايا تخضع للتحكيم الدولي عكس ما كان في السابق.
هذا التموضع الجديد سيعزز قوة الموقف السوداني، وهو ما بدأت إرهاصته على الحدود الشرقية مع إثيوبيا، لكن في الوقت ذاته من الواضح أن الأمر لن يقتصر على الجارة الشرقية فحسب، فهناك مؤشرات تذهب إلى احتمالية حدوث حراك جديد في ملف “حلايب وشلاتين” على الجانب الحدودي الشمالي مع مصر.
تطورات المشهد السوداني ما بعد ثورة 19 من ديسمبر/كانون الأول 2018 تذهب إلى تجنب البلاد الدخول في صدام مع القاهرة، وإن كانت العلاقات بينهما تعاني من توترات بين الحين والآخر بسبب ملف سد النهضة والميل المسبق للخرطوم تجاه أديس أبابا على حساب الجار المصري.
من الواضح أن المكاسب التي حصل عليها السودان نظير تخليه عن مرتكزاته القومية وانخراطه في مستنقع التطبيع، سيكون لها تأثيرها المحتمل على الخريطة السياسية والعسكرية والاقتصادية للبلاد
ورغم هذا الحرص في البقاء على أجواء إيجابية تخيم على العلاقات مع القاهرة، فإن هناك ضغوطًا شعبيةً داخليةً تمارس على السلطات السودانية المؤقتة لفتح هذا الملف (يعتبر السودان مثلث حلايب الحدودي ملكًا له ويتهم مصر باحتلال تلك المنطقة فيما تؤكد القاهرة أحقيتها التاريخية فيها)، وصلت في بعض الأحيان إلى المطالبة بتدويل القضية، الأمر الذي استفز الشارع المصري بصورة كبيرة.
تعي السلطات المصرية جيدًا أن التطورات الأخيرة التي شهدها السودان سيكون لها مردود إيجابي على قوة البلاد السياسية والعسكرية، وهذا الأمر إن مكان مقبولًا فيما يتعلق بملف النزاع في القضارف والفشقة إلا أن هناك مخاوف من انعكاسه على ملف حلايب وشلاتين.
بعض التقديرات ذهبت إلى أن هناك ضغوطًا تمارس من دوائر سياسية في السودان على السلطات الحاكمة من أجل التحرك الفوري والعاجل لتحريك المياه الراكدة في هذا الملف، وهو ما انعكس على الجانب المصري الذي كشفت بعض المصادر عن تلقي رئاسة الجمهورية تقريرًا يفيد بضرورة التعامل الجدي مع التحركات السودانية لا سيما بعدما أخذت طابعًا دوليًا.
في المحصلة من الواضح أن المكاسب التي حصل عليها السودان نظير تخليه عن مرتكزاته القومية وانخراطه في مستنقع التطبيع، سيكون لها تأثيرها المحتمل على الخريطة السياسية والعسكرية والاقتصادية للبلاد، الأمر الذي ربما وإن كان يعزز من ثقل الخرطوم إقليميًا إلا أنه من المرجح أن يزيد المنطقة اشتعالًا وهو ما ستسفر عنه الأيام القادمة.