العلمانية الروسية هي أكثر تجارب العلمانية قسوةً في العالم، وخاصة الحقبة السوفيتية التي شهدت أسوأ محاولة لإعادة صياغة الكون على أسس غير دينية، لكن عودة هذا المجتمع للدين مرة أخرى، واعتباره القوة المؤهلة لجذب عقول وقلوب الناس، شهادة كاشفة للتاريخ أن الدين لا ينقرض ويستمر في الوجود ويعيش حتى في أحلك ظروف القمع العلماني.
أضواء على علمانية روسيا
لم تكن العلاقة بين الدين والعلمنة في روسيا سهلة، بل واكبتها فترة صعوبات تاريخية للشرق المسيحي، إذ لم تكن جزءًا من عصر النهضة والإصلاح، ولهذا انضمت إلى حركة العلمنة الأوروبية في مرحلة متأخرة نسبيًا خلال عصر التنوير.
تغّربت روسيا عن الأسس التي أرساها التنوير، عن العلاقة العضوية بين والإنسانية والفردية والإلهية وهي الأكواد الرئيسية الأوروبية خلال عصر النهضة والإصلاح، ما أدخلها في عزلة تزايدت مع الوقت عن العالم المسيحي، لكنها في نهاية القرن الثامن عشر تغيرت كليًا.
سارعت الثقافة الروسية للانضمام إلى الأعراف الأوروبية، فلحقت بالتنوير والعلمنة، بفضل كل من ميخائيل لومونوسوف، مؤسس جامعة موسكو الحكومية ومكتشف الغلاف الجوي عند كوكب الزهرة، ومعه إلكسندر بوشكين، أحد أهم الأدباء في التاريخ ومؤسس الأدب الروسي الحديث.
ساعد في ذلك القيصر بطرس الثالث الذي نفذ إصلاحات تقدمية عام 1762 لإضفاء الطابع العلماني على جميع أراضي الكنيسة وأقنانها، ومن خلال التحريض ضد رجال الدين، لدرجة أنهم لم يحصلوا آنذاك على مقعد واحد في اللجنة التشريعية وتم استبعاد جميع برامج الدراسات الدينية والكتابية من التعليم العادي.
تزايد السعار ضد الدين بعد اندلاع الثورة الروسية واشتعال الحرب الأهلية 1917-1921 وحل الإمبراطورية الروسية وحكومتها القيصرية، ومعها أطيح بما تبقى من امتيازات بعد بضعة أشهر من الاضطرابات السياسية، واستيلاء البلاشفة على السلطة في أكتوبر 1917 وإعلانهم بشكل واضح قيم العلمانية والفصل الشرس بين الدين والدولة، لتستولي الحكومة على جميع أراضي الكنيسة وممتلكاتها.
من صور التاريخ التي تثبت خلل مناهج العلمانية، سيرة الاتحاد الروسي الذي ضمن رسميًا في لحظة تأسيسه حرية الدين، إلا أن الواقع يكشف عن معاناة كارثية تعرض لها كل مؤمن، حيث انخرطت الدولة في اضطهاد الدين وأنصاره بشكل متفاوت الشدة والمنهجية، وخاصة إذا كانوا من المعارضة السياسية.
استغل البلاشفة دعم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية للجيش الأبيض، أو ما يعرف بالحركة البيضاء في الحرب الأهلية الروسية لتدعيم أسس النظام الشيوعي الجديد، الذي لا يمكن أن يكون محايدًا في مسألة الدين، فقد كان لينين يقول بشكل واضح: “يجب أن نظهر بلا رحمة تجاههم، فلا مكان للدين في مجتمع غير طبقي”.
وقفت الحكومة السوفيتية على منصة الإلحاد، بعد وصم الكنيسة واعتبارها منظمة معادية للثورة أصبح الشغل الشاغل للدولة اختراع التشريعات المقيدة للدين، بداية من مرسوم لينين بشأن الفصل بين الكنيسة والدولة، مرورًا بالتدابير التشريعية الجديدة التي نقل بموجبها الممتلكات الدينية إلى الدولة حتى تصبح تحت مراقبتها، وللإمعان أكثر في إذلالها.
سنّت الدولة السوفيتية مجموعة كبيرة من القيود على الممارسات الدينية بشكل علني وسري، ومع الوقت تضخمت الكراهية ضد الدين وأهله لدرجة أن الأساس القانوني لموقف الدولة أصبح يؤسس على مناهضة الدين والإضرار بالأنشطة الدينية وتعطيلها.
كثفت الدولة من مراقبتها للمتدينين لمعرفة التزامهم من عدمه عبر ما سمي آنذاك باللجان العامة لمراقبة التقيد بالقوانين المتعلقة بالطوائف الدينية، التي أفصحت عن تعريفها الدين، فهو بالنسبة لها شكل من أشكال الاضطهاد الروحي واضطهاد الآخر واستغلاله بإيهامه بحياة أفضل وراء القبر.
روجت الدولة للمجتمع أن الدين يعلم السلبية، واعتبرته تبريرًا رخيصًا وأفيونًا للناس، وتوسع السوفييت في حماية الإلحاد بشكل غير مسبوق، فألغيت المطابع الكنسية وصادرتها الدولة بموجب تعديل دستوري عام 1929 وسُحب من الجماعات الدينية حق القيام بأي دعاية دينية لأنشطتها.
غرقت الدولة في بئر من القمع لا نهاية له، وبسبب هذا التطرف العلماني تحولت من رفع شعارات حماية حرية الضمير إلى تقييده بأغلال الإلحاد، ومُنع الدفاع عن الدين ضد حجج الملحدين أو حتى الدخول في نقاش عام معهم بشأن الدين.
في تجربة السوفييت
ما يمكن قوله في التجربة السوفيتية، إنها منذ بدايتها وحتى أفول نجمها، وهي تستخدم العلمانية كمعول هدم ظنًا منها أن بحوذتها القدرة الكاملة على تدمير الدين، واعتبرتها وحدها دون غيرها المبدأ الشامل والمحدد لحياة المجتمعات الحديثة وأفرادها.
الإسلام في روسيا
الإسلام في روسيا هو ثاني أكثر الأديان انتشارًا بعد المسيحية وفقًا لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية الصادر عام 2017، ويبلغ عدد المسلمين في روسيا نحو 10% من إجمالي السكان، أي ما يقارب 25 مليون، حسب التعداد الرسمي للدولة في 2018.
والإسلام جزء من التراث التاريخي الروسي، وتدعمه الحكومة، ويشكل المسلمون غالبية سكان جمهوريات بشكيريا وتتارستان في منطقة الفولجا الفيدرالية، وهو الدين السائد بين القوميات في منطقة شمال القوقاز الفيدرالية الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين.
كما يدين به الشركس والبلكار والشيشان وأنغوشيا وقبردين وقراشاي، والعديد من الشعوب الداغستانية، وله أتباع في موسكو وسانت بطرسبرغ وجمهوريات أديغيا وشمال أوسيتيا-ألانيا واستراخان، وتوجد في البلاد أكثر من 5 آلاف منظمة دينية إسلامية مسجلة، وهو رقم كبير يعادل أكثر من سدس عدد المنظمات الدينية الأرثوذكسية الروسية المسجلة رسميًا.
عرفت روسيا الإسلام من خلال منطقة القوقاز والفولغا بعد فترة وجيزة من ظهوره، تحديدًا عام 651، كما كانت إمبراطورية جنكيز خان التي تضم أجزاءً كبيرةً من أراضي روسيا الحديثة ـ منطقة الفولغا والقوقاز وسيبيريا ـ مدخلًا مهمًا للإسلام في هذه المناطق، بعد تحول السلالة إلى اعتناق الدين الحنيف.
في روسيا الحديثة، عاشت الدول الإسلامية المستقلة تحت مظلة العلم الروسي، لا سيما بعد توحيد الأراضي الروسية من قبل إيفان الثالث وخلفائه، أصبح المؤمنون بالإسلام من كبار رعايا الملك الروسي، وتزايد التسامح في عصر الإمبراطورة كاترين الثانية، التي رفعت جميع القيود عن بناء المساجد والمباني العامة الإسلامية، وكان ذلك في ضوء مرسومها التاريخي للمملكة عن التسامح صدر عام 1773 وأتاحت فيه الحرية لجميع الأديان.
في عهد كاترين أيضًا أنشئت أول منظمة رسمية للمسلمين في روسيا، التي تعرف باسم الجمعية الروحية المحمدية التي يُختار منها مفتي البلاد بعد أن ينتخبه المجتمع الإسلامي، وكان يجب أن يوافق الإمبراطور على ترشيحه، ومع الاحترام الملموس في هذه التقاليد للإسلام، إلا أن البعض يجادل أنها كانت طريقة القياصرة في وضع رجال الدين تحت سيطرتهم لكن بطريقة ناعمة.
الإسلام والعلمانية في روسيا
قبل تأسيس الحكم السوفييتي، كانت قواعد الشريعة سارية في دول الإمارات الشمالية القوقازية، لكن بعد إعلان الاتحاد لم يتم استثناء المسلمين من أي إجراءات قمعية للدين مع أن الكثير منهم شارك في الأنشطة الثورية التي أطاحت بالنظام القيصري، لتعزز الدولة الإلحاد ويتم التضييق على الإسلام مع غيره.
احتفظت الدولة لنفسها بحق الإذن في نشر القرآن أو الوسائل التعليمية ومواد العبادة في المؤسسات الإسلامية، وبدلًا من ذلك ساهمت في إنشاء مجلة مسلمي الشرق السوفيتي في محاولة لعلمنة الفكر الإسلامي ودعم الشيوعية، بعد أن أعدموا وقمعوا العديد من القادة المسلمين.
في الستينيات أعطى السوفييت للمسلمين هوامش من الحرية وخاصة في جمهوريات الجنوب، انتشر إثر ذلك التعليم الديني على نطاق واسع بين الشباب الأوزبكي والطاجيكي على وجه التحديد، الأمر الذي انعكس نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات على تفجر المشاعر الدينية الإسلامية، والتضامن الواسع مع الثورة في إيران والحرب الأفغانية.
من أجل السيطرة على المشاعر الدينية المتزايدة، شددت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإجراءات في مواجهة ما أسمته محاولات العدو لاستخدام العامل الإسلامي لأغراض معادية للاتحاد السوفيتي، وحاصرت الأيدلوجيا الإسلامية الناشئة وأطبقت الحصار عليها.
لكن مع انهيار الاتحاد في التسعينيات، استعاد الإسلام مكانة معترف بها قانونًا في السياسة الروسية، واستكمل هذا المسار الرئيس بوتين الذي أصبح يدعم إنشاء المساجد والتعليم الإسلامي، لكن دون أساس أو أهداف سياسية.
يعتبر بوتين الإسلام جزءًا لا يتجزأ من القانون الثقافي لروسيا، ويشجع الهجرة من دول الكتلة السوفيتية السابقة ذات الأغلبية المسلمة، كما أدان الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد في محاولة لمحو الأثر السيئ لبلاده في نفوس المسلمين.
يحاول بوتين تبييض وجهه هو شخصيًا بعد أن ساهم في سحق الانتفاضات الشيشانية بالقوة في الفترة من 1994 إلى 2000، واستضاف في موسكو مؤتمرًا دوليًا للسلام حضرته 12 دولة – بما في ذلك وفد من طالبان ـ وأصبح من الداعمين لاستمرار مكتب طالبان في قطر، لإذكاء نفسه كوسيط موثوق به بين الجميع.
لكن الإجراءات الروسية الرسمية للتقرب من المسلمين، لم تستثن البلاد من فيروس الإسلاموفوبيا، وإن كانت انعكاساتها أخف وطأة بكثير من غالبية المجتمعات الأوروبية، لا سيما أن هناك حرصًا شعبيًا على عدم الخلط بين الإسلام والتطرف، خاصة أن التاريخ الواسع للمسلمين على الأراضي الروسية خير شاهد على اعتدالهم ومساهماتهم التاريخية في قوة ورفعة الروس.