لم تضر العلمانية مجتمعًا كان بالأصل تسامحيًا ومعتدلًا ومتحضرًا، مثلما حدث للصين التي تغيرت تمامًا منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتحولت من عالم غني روحيًا يمنحهم معنى في الحياة وارتباطًا وثيقًا بالمعايير الأخلاقية وقيم الحياة العامة، إلى دولة قومية فاشية متعصبة، ترفع شعار العلمنة فوق الجميع.
ما قبل العلمانية
يختلف العالم الروحي للصينيين القدماء عن أغلب ثقافات العالم، حيث لم توجد حدود صارمة بين المقدس والمادي، القيم الروحية كان يستمدها الصيني من السماء ولها كامل السمو، لكن إدراك قيمتها يجب أن يولد في ممارساته للحياة اليومية المادية على الأرض.
مع منتصف القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، حلّ بالصين تغيرات لم تعرفها في ثلاثة آلاف عام، حيث بدأت النخب الفكرية تتبنى تحولًا علمانيًا بسبب تراكم الإشكاليات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لجأت النخبة للعلمانية بعد أن تلقوا صدمة كبرى في حرب الأفيون بين الصين (الإمبراطورية المحكومة آنذاك من سلالة تشينغ) وبريطانيا التي انضمت لها فرنسا في النسخة الثانية من الحرب الثانية، فقد كان الواقع مزدحمًا بالمشكلات، إذ احتلت بريطانيا هونغ كونغ وأصبحت مستعمرة إنجليزية، وتعرض الشعب الصيني لمجازر وحشية، ونشر المحتل ثقافة تعاطي الأفيون بين أبناء البلاد، وظل داءً مستشريًا إلى مطلع القرن العشرين، حتى قضى على آثاره نهائيًا ماو تسي تونغ القائد الصيني الشيوعي.
كان تفوق الغرب عسكريًا ودبلوماسيا أمرًا مخزيًا للصين، الأمة الضاربة في جذور التاريخ، واعتبرت النخبة أن مشكلاتهم الأساسية تكمن في التعليم، حيث كانت تفتقر إلى المواهب الفنية والمسؤولين الأكفاء الذين يمكنهم جعل البلاد غنية وقوية ولديها القدرة على الوقوف أمام الغرب الاستعماري.
دعت النخب إلى إيجاد نظام معرفي مستقل عن الأخلاق، ولن يوفر ذلك إلا العلمانية، بحجة إكساب الأجيال الجديدة نظرة عالمية تنافسية لإدخال الصين في النظام الدولي، مع أنه كان يمكن إصلاح التعليم الإمبراطوري الأخلاقي في شكله القديم، وإتاحته لعامة الشعب بدلًا من أن يبقى محجوزًا لعدد قليل من النبلاء الذكور، وحصره على تنمية النخب السياسية والثقافية.
ومع أن التعليم الجديد قدم منتجاته للجميع وركز على التنافس والمكانة الدولية المستقبلية للبلاد، إلا أن المنطق العلماني سرعان ما طغى على الشباب والثقافة الصينية.
أمام هذه الهجمة الثقافية، حاولت الجماعات الدينية المختلفة الحفاظ على مركزها في المجتمع، لكنها بدأت لأول مرة تواجه تهديدات بمصادرة ممتلكات المعابد واحتلالها، وأصبح واضحًا أن علمنة التعليم لا تعني فقط الفصل بين التعليم والدين، بل خدمة أهداف السياسة العلمانية الجديدة للبلاد.
الصين والإسلام
عرفت الصين الإسلام منذ نحو 1400 عام، ويمثل المسلمون ما بين 0.45% إلى 2.85% من إجمالي السكان وفقًا لأرقام رسمية، وتؤكد مصادر مستقلة أن الصين يعيش بها نحو 80 مليون مسلم، أغلبهم يعيش في شينجيانغ والأويغور.
يكشف التاريخ أن طريق الحرير القديم، الذي ربط شعوب البحر الأبيض المتوسط بشرق آسيا خلق المساحة لمعظم التجار المسلمين للاتجاه نحو الشرق، ولم يسوقوا بضائعهم فقط، بل حملوا معهم المعتقد والثقافة، خاصة أن الإسلام آنذاك كان أحد الأديان العتيدة التي انتشرت بسرعة كبيرة سواء عن طريق الصراعات العسكرية مع الممالك القديمة أم التبادلات التجارية والدبلوماسية.
بخلاف ذلك ساهم فتح تركستان الشرقية في العصر الأموي وتحديدًا منطقة كاشغر، في تمكين المسلمين من السيطرة على طريق القوافل بين غرب آسيا والصين، ما كان له أكبر الأثر أيضًا في انتشار الإسلام.
تقول أيضًا الكثير من الروايات إن أول بعثة دبلوماسية من المسلمين للصين، كانت من الخليفة عثمان بن عفان، ثم توالت البعثاث الإسلامية حتى بلغت 28 بعثة في الفترة بين 31هـ وحتى 184، ودخل الإسلام بالتدريج من السواحل إلى عمق البلاد، ثم استقرت بعض الأسر المسلمة على ساحل الصين الجنوبي في منطقة خوان فو ـ قوانغدون ـ الآن ثم تشكلت مناطق إسلامية كاملة منذ عهد أسرتي تانغ وسونغ وأصبح للمسلمين مساجدهم ومدارسهم وأنشطتهم التجارية والاقتصادية الأخرى.
الصدام مع الإسلام
مع تولي أسرة تشينغ الحكم، كانت هناك محاولة لدراسة الإسلام وترجمة القرآن من داخل علماء الأسرة، إلا أنها انقلبت سريعًا على المسلمين وتبنت موقفًا أكثر قمعًا تجاه الإسلام بداية من عام 1862 ردًا على تمرد عرف تاريخًا باسم تمرد دونغان (1862-1877).
حظى التمرد بشعبية واسعة بين المسلمين ولهذا تطاير لهيبه مثل الشرر وشمل مقاطعات شنشي وقانسو ونينغشيا وسنجان، وصنع المسلمون الرماح من أعواد البامبو بكميات كبيرة، وبدأت تلوح في الأفق خطط كاملة لتأسيس دولة إسلامية في غرب الصين.
كان المسلمون الصينيون يتقنون فنون الدفاع عن النفس، كما أن بعض الأئمة كانوا يعملون كمدربين في فنون الدفاع عن النفس وتفوقوا في ذلك بل واخترعوا العديد من أنواع الفنون القتالية الإسلامية، وكانت هناك مدارس مميزة لهم في القتال مثل كونلون وجياومينكوان.
صعدت العلمانية لا لتمكن الجميع من حرية الضمير، بل لتزيد من نفوذ الجيش الأحمر الذي تولى مسؤولية فرض المقاسات الشيوعية الضيقة للحياة على الجميع
لكن ربحت الدولة المعركة، وخلف التمرد الإسلامي نحو أكثر من 20 مليون ضحية، معظمهم مات بسبب كوراث طبيعية كالمجاعة التي سببتها الحرب وكان معظمهم من المدنيين، وفي النهاية أخمد التمرد بالقوة وخضعت المناطق التي يسكنها أغلبية إسلامية إلى فلسفة قومية في الحكم.
صعود الشيوعية
بعد اندلاع الحرب الأهلية الصينية وسيطرة الحزب الشيوعي على البلاد وإعلان ماو تسي تونغ جمهورية الصين الشعبية عام 1949، صعدت العلمانية لا لتمكن الجميع من حرية الضمير، بل لتزيد من نفوذ الجيش الأحمر الذي تولى مسؤولية فرض المقاسات الشيوعية الضيقة للحياة على الجميع، ليعانى معها الإسلام وسائر الديانات الأخرى.
أصبح مألوفًا مشاهدة الجيش وهو يدمر العديد من المساجد تحقيقًا لأهداف الثورة الثقافية، التي كانت سببًا رئيسيًا لاندلاع تمرد إسلامي مسلح جديد عام 1975، لكنه انتهى أيضًا بمجزرة، وزادت السلطات وخاصة الجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني من تضييقها على الإسلام والمسلمين.
كانت الحكومة تحرم على المسلمين الخروج بأي مظهر مادي يعبر بشكل واضح عن هوية إسلامية، قد يمكنها منافسة الشيوعية والعلمانية في البلاد، لهذا توسعت في هدم القباب والمآذن وأغلقت بعض المساجد بدواع أمنية بسبب النشاط الديني فيها، كما حظرت استخدام اللغة العربية في أي مكان عام.
تخوف الحزب الشيوعي من المرحلة اللاحقة للتمسك بالدين الإسلامي، الأمر الذي جعله يتشدد في فرض المزيد من القيود على العادات الإسلامية وخاصة مسلمي الأويغور في منطقة شينجيانغ الغربية، التي كانت معقلًا تاريخيًا للتمرد الإسلامي.
الآن يعمل النظام على صهر المسلمين قسريًا في المجتمع الصيني، وصل إلى مرحلة من التطرف تجعله يعتبر كل المؤمنين بالإسلام الذين يصرون على إظهار قناعاتهم الدينية في المجال العام منشقين عن النظام الاجتماعي وينبغي محاسبتهم بكل قسوة.
أصبح الحزب الشيوعي الصيني، أكبر مصنع في العالم لتصدير الأيديولوجيا المعادية للمسلمين، فقد تخطى مستوى العنف ضدهم كل الحدود سواء من خلال الاعتقالات واسعة النطاق أم التنكيل والتعذيب والقتل والإخفاء القسري.
تقتصر مقاومة معظم الأنظمة العربية والإسلامية لثقافة الاستئصال الصينية لمسلمي الإيغور على وجه التحديد على بيانات المؤسسات الدينية الكبرى مثل الأزهر الشريف في مصر
يحاول الحزب صنع “إسلام صيني” وهو مشروع خرج للنور منذ عام 2015 ويهدف إلى إعادة تشكيل المسلمين بأسلوب شديد العنف، فالرؤية العلمانية هنا لا تهدف إلى احترام المجال العام والتقيد بأحكام القانون، لكنها تريد تأميم الخاص لمصلحة مناهج وقناعات الحزب الشيوعي الصيني التي تعادي الأديان بالأساس وتراها تقوض الحياة العلمانية ووظائف الدولة.
مقاومة إسلامية
يحاول المسلمون مقاومة القمع الشامل للحزب الشيوعي الصيني، الذي أصبح واحدًا من المأسي الإنسانية في عالم اليوم، ويرفع الحزب لواء العلمانية كي تساعده في صنع الإرهاب الأحمر والقصف بالحريات بكل أنواعها بزعم المساواة وإطلاق حرية الضمير في الاختيار.
تشير حقائق الواقع أنه يصعب على المسلمين مواجهة دولة بحجم الصين في ظل سياسة القمع الفاشية التي تتبعها، ويتزامن ذلك مع ضعف الضغوط من العالم الإسلامي، الذي أصبح يتحالف مع الصين اقتصاديًا ويغض الطرف عن كل انتهاكاتها.
وتقتصر مقاومة معظم الأنظمة العربية والإسلامية لثقافة الاستئصال الصينية لمسلمي الإويغور على وجه التحديد على بيانات المؤسسات الدينية الكبرى مثل الأزهر الشريف في مصر، التي ما زالت تتصدى للقبضة الحديدية للعلمانية الراديكالية التي تستخدم في إثارة الفزع وقتل الهوية والضمير وطمس أي معنى للكرامة الإنسانية للمسلمين.