“أين ديكتاتوري المفضل؟” سؤال طرحه الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، في إشارة إلى انتظار لقائه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على هامش قمة مجموعة السبعة التي عقدت في فرنسا، أغسطس/آب 2019، عكس وبشكل كبير حجم العلاقة بين الرئيسين.
وبعد أقل من شهر تقريبًا على هذا التصريح، دافع ترامب عن حليفه، خلال لقاء جمعهما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، تعليقًا على ما أثير بشأن تصاعد الاحتجاجات في مصر، قائلًا: “الجميع لديهم مظاهرات.. لست مهتمًا بذلك.. مصر لديها قائد عظيم”.
بالأمس اتهم ترامب الجيش المصري (الذي يرأس السيسي قيادته العامة) باستخدام المساعدات الأمريكية في شراء الأسلحة الروسية، وعليه جاء رفضه لمشروع القرار الذي وافق عليه الكونغرس بشأن ميزانية الإنفاق الحكومي للعام المقبل ويتضمن حزمة مساعدات لدول أجنبية.
الرئيس الأمريكي في رسالة مصورة نشرها على “تويتر” قال فيها: “هذه الفاتورة تحتوي على 85.5 مليون دولار لمساعدة كمبوديا، و134 مليون دولار لبورما، و1.3 مليار دولار لمصر والجيش المصري الذي يذهب ليشتري المعدات العسكرية الروسية على وجه الحصر تقريبًا”.
القرار الذي تم تمريره من الكونغرس أقر المساعدات العسكرية السنوية لمصر البالغ قدرها 1.3 مليار دولار، لكنه في الوقت ذاته علق 300 مليون دولار منها بحدوث تقدم في ملف حقوق الإنسان في البلاد والإفراج عن سجناء الرأي ونشطاء المجتمع المدني.
15 شهرًا بين تصريحي ترامب (ديكتاتوري المفضل وإدانة الجيش المصري) تشير إلى حدوث نقلة نوعية في موقف الرئيس الأمريكي من حليفه المصري بعد شهور عدة من العلاقات الوثيقة بين الطرفين، غضت خلالها الإدارة الأمريكية الطرف عن الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها السلطات المصرية التي كانت مثار انتقاد الجميع إلا واشنطن.
تفسيرات عدة بشأن التغير الذي شاب تصريحات الرئيس الأمريكي وموقف الكونغرس من نظام الحكم في القاهرة، الأمر الذي دفع للتساؤل عن دوافع هذه الخطوة في هذا التوقيت الذي يلملم فيه ترامب أوراقه، مغادرًا البيت الأبيض، ليخلفه الديمقراطي جو بايدن صاحب المواقف المناهضة لممارسات السلطة المصرية الجائرة بحق المعارضين.. فهل ينقلب ترامب على ديكتاتوره المفضل قبل الرحيل؟
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 23, 2020
روسيا.. كلمة السر
يبدو أن السلاح الروسي بات كلمة السر في أي استفزاز لإدارة ترامب، ورغم أن أموال المعونة الأمريكية السنوية تستخدم لشراء معدات عسكرية أمريكية يتم الاتفاق عليها بين الجانبين، ولا يدخل منها الخزينة المصرية أي شيء، فإن لجوء مصر لتعزيز قوتها العسكرية من روسيا كان نقطة الخلاف حتى لو كان الأمر بأموال غير المعونة الأمريكية.
الموقف ذاته تبنته الإدارة الأمريكية الحاليّة مع أنقرة حين أقدمت على شراء منظومة صواريخ إس 400 الدفاعية الروسية في أعقاب تباطؤ واشنطن في تزويد الجيش التركي بأنظمة تسليحية متطورة لإحداث التوازن الدفاعي مع القوى العسكرية في الشرق الأوسط، ما أسفر في النهاية عن توقيع عقوبات أمريكية بحق هيئات وأشخاص تركية.
التقارب المصري الروسي الصيني خلال الأشهر الأولى من ولاية السيسي كان مثار انتقاد لدى الإدارة الأمريكية، وهو الأمر الذي لمسته القاهرة مع قدوم ترامب وبدأت في إحداث شيء من التوازن لا سيما بعد غض واشنطن الطرف عن الانتقادات الموجهة للنظام المصري بسبب انتهاكاته بحق المعارضين، وتجاهل أي مطالب بإعادة النظر في العلاقات مع القاهرة أو قطع المساعدات المقدمة لها.
وتمثل روسيا حساسية مفرطة لدى الأمريكان في ظل صراع النفوذ والقوى بين الطرفين في العديد من الملفات المشتركة، الإقليمية والدولية، وهو ما يفسره صمت واشنطن وعدم اعتراض البنتاغون على شراء مصر معدات تسليحية من دول أخرى كفرنسا وإيطاليا.
وتعد مصر ثاني أكبر متلقي للمساعدات الخارجية الأمريكية، بعد “إسرائيل” التي تتصدر القائمة، حيث تلقت القاهرة خلال الفترة بين عامي 1946 و2017 ما يقرب من 79 مليار دولار أمريكي، هذا بخلاف المساعدات الأخرى التي تقدمها المؤسسات والهيئات غير الحكومية.
الانتقاد الأخير الموجه للقاهرة كونها الدولة المتمردة على المساعدات الأمريكية التي تنفقها – بحسب زعم ترامب – في إنعاش خزائن الخصم الروسي اللدود عبر صفقات التسليح، يحمل بين طياته مزايدة واضحة على الديمقراطيين
الملف الحقوقي.. إعادة نظر
خبراء أشاروا إلى أن قرار الكونغرس يعد رسالة واضحة للنظام المصري بأن المرحلة السابقة التي تجاهلت فيها واشنطن الملف الحقوقي قد ولت وأن هناك مرحلة جديدة تؤصل لحقيقة واضحة وهي أن الانتهاكات الممارسة بحق المعارضين والسياسيين ونشطاء الرأي ستؤثر على مصالح أمريكا في الشرق الأوسط.
أنصار هذا الرأي يذهبون إلى أن هذا القرار وإن لم يكن مؤثرًا بالشكل الميداني الكبير إلا أنه إشارة لنظام السيسي لإعادة النظر في الوضعية الحقوقية خلال المرحلة المقبلة، وأن يعي أن الموقف الرسمي الأمريكي خلال ولاية جو بايدن لن يكون كما كان مع ترامب.
ردود الفعل التي صاحبت هذا التحرك حملت بعضًا من التفاؤل لدى البعض بشأن إعادة التوازن للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه القاهرة، وهو ما يمكن تلمس انعكاساته من خلال الإفراج عن عشرات المسجونين على ذمة قضايا رأي خلال الأيام الماضية.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، ريتشارد تشازدي، وصف ربط الكونغرس لجزء من المساعدات المقدمة لمصر بملف حقوق الإنسان بأنه “قرار منطقي”، لافتًا خلال حديثه لحلقة (2020/12/23) من برنامج “ما وراء الخبر” المذاع على شاشة “الجزيرة” أن هذا القرار يتفق مع رؤية الرئيس المنتخب جو بايدن بشأن أهمية حماية حقوق الإنسان.
ويتوقع الأكاديمي بجامعة جورج واشنطن أن إدارة بايدن ستتخذ مقاربة مختلفة مع نظام السيسي عما كانت عليه في عهد ترامب، ما يعزز من فرص تخفيف السلطات المصرية قبضتها نسبيًا على مؤسسات المجتمع المدني والنشطاء الحقوقيين ودعاة الرأي، وفتح المجال نسبيًا أمام العمل الأهلي.
إحراج بايدن
حاول ترامب طيلة سنوات حكمه تصدير صورة لامعة لنفسه وإدارته تعزز شعاره المرفوع خلال حملته الرئاسية في 2016 “أمريكا أولًا” التي تتعلق في جزء كبير منها على حماية أموال الأمريكيين وإنعاش خزائن البلاد بمئات المليارات من الخارج، وهو ما نجح فيه نسبيًا، لا سيما مع أول زيارة له للرياض التي عاد خلالها محملًا بقرابة نصف تريليون دولار.
الانتقاد الأخير الموجه للقاهرة كونها “الدولة المتمردة” على المساعدات الأمريكية التي تنفقها – حسب زعم ترامب – في إنعاش خزائن الخصم الروسي اللدود عبر صفقات التسليح، يحمل بين طياته مزايدة واضحة على الديمقراطيين، وهو ما قد يدفع إدارة بايدن إلى المزيد من الضغوط على النظام المصري وإلا ستكون متواطئة في إهدار أموال الأمريكان لصالح روسيا.
بات من الواضح أن السيسي ما عاد في جعبته ما يفيد به ترامب، حيث نجح الأخير خلال سنوات حكمه في الحصول على ما يريد من حليفه المقرب
وعليه يتوقع فريق من الخبراء أن تشهد العلاقات بين القاهرة وواشنطن خلال المرحلة المقبلة موجات من الفتور والتوتر، ما لم يتخذ نظام السيسي حزمة من الإجراءات الحقوقية والسياسية لتحسين الصورة السلبية التي يتخذها بايدن عن النظام الحاليّ لا سيما على مستوى الملف الحقوقي.
أنصار النظام الحاكم في مصر لا يرون جديدًا في قرار الكونغرس، خاصة أن المعونة الأمريكية لطالما تم استخدامها للضغط على القاهرة على مدار العقود الماضية، لافتين إلى أن أموال المعونة في حد ذاتها قد لا تشكل أزمة، فهي لا تمثل إلا 2% فقط من الدخل القومي، لكن الضغوط الأخرى عبر حلفاء واشنطن في المنطقة ربما تكون الأخطر والأكثر تأثيرًا.
بات من الواضح أن السيسي ما عاد في جعبته ما يفيد به ترامب، حيث نجح الأخير خلال سنوات حكمه في الحصول على ما يريد من حليفه المقرب، فكان رأس الحربة في الترويج لصفقة القرن، وحماية مصالح “إسرائيل” وأمنها، كما كان أحد أضلاع التسويق لقطار التطبيع، هذا بخلاف دوره المحوري في الانقلاب على رغبة الشارع العربي وتزعم الثورات المضادة للربيع العربي بجانب شركائه في هذا المسار، محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي ومحمد بن سلمان ولي عهد السعودية.
وفي المحصلة فإن ميكافيللية ترامب في الانتصار لذاته ومصالحه تدفعه لأن يتخلى عن أقرب حلفائه، في مقابل الانتقام من الخصوم، وهو ما يبدو حتى الآن – وإن لم يكن بالشكل المباشر -، فالرجل يحرص حتى اللحظات الأخيرة على الإبقاء على خريطة الحلفاء على أمل توظيفهم مستقبلًا في مشاريع أخرى، سياسية كانت أو غير ذلك.