قبل أن يتقلد منصب رئاسة الحكومة المغربية، كانت أغلب خطاباته ومقالاته تتحدث عن القضية الفلسطينية وضرورة بل واجب الدفاع عنها بشتى الطرق المتاح منها وغير المتاح، وكان يؤكد دائما أن لا سبيل للتطبيع مع الكيان الصهيوني مهما كلفه الأمر، فحب فلسطين في قلبه.
لكن عند أول اختبار حقيقي له، سقط فيه وبانت خيبته التي ستلاحقه طوال حياته وبعد مماته أيضا. سقط سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية الإسلامي في حلبة التطبيع طواعية وقد كان له أن يستقيل من منصبه بدلًا من أن يضرب بالمبادئ الثابتة للإسلاميين عرض الحائط.
ضدّ التطبيع ولكن..
سنة 1996، نشرت مجلة الفرقان مقالا بعنوان “التطبيع إبادة حضارية”، كتبه سعد الدين العثماني، جاء فيه “يبدو أن الصراع بين الكيان الصهيوني والأمة العربية والإسلامية، يأخذ أشكالا مختلفة ويمر بمسارات معقدة مع مرور الزمن، ويبدو أن الكيان يحاول إجراء قفزة نوعية تكسبه تقدما ساحقا على الطرف العربي والإسلامي، وتمكنه من تحقيق أهدافه المركزية، وفي مقدمتها التفوق الأمني والعسكري والاقتصادي الساحق في المنطقة، تمهيدا لإسرائيل الكبرى الحلم المعروف للصهيونية”.
أكد العثماني في مقاله أن “التطبيع يأتي كأفضل أداة تفتق عنها المكر الصهيوني، فهو شرط يضعه في المقدمة لكل اتفاقية سلام، فلا سلام عندهم دون تطبيع سياسي وثقافي واقتصادي وإلا فالحرب، بذلك يصرح زعماء الكيان الصهيوني باستمرار وعلى ذلك يؤكدون في كل وقت وحين”.
برر العثماني “فعله المشؤوم” برغبته في عدم ترك الفرصة لمن وصفهم بـ”خصوم الوطن” بنقل معركة استكمال وحدة المغرب الترابية
بقي موقف العثماني على حاله، مناصرا للقضية الفلسطينية رافضا للتطبيع ومنتقدا الأنظمة العربية الرسمية المطبعة -ما دام الكلام دون مقابل- حتى أنه رفض في أغسطس/ أب الماضي أي تطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث قال خلال اجتماع لحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه، إن المغرب يرفض أي تطبيع مع “الكيان الصهيوني” لأن ذلك يعزز موقفه في مواصلة انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني.
وتابع المسؤول المغربي “هذه خطوط حمراء بالنسبة للمغرب ملكا وحكومة وشعبا وهذا يستتبع رفض كل التنازلات التي تتم في هذا المجال، ونرفض أيضا كل عملية تطبيع مع الكيان الصهيوني”. مضيفا “كل عملية تطبيع مع الكيان الصهيوني هي دفع له وتحفيز كي يزيد في انتهاكه لحقوق الشعب الفلسطيني والالتفاف على هذه الحقوق التي تعتبر الأمة الإسلامية كلها معنية بها وبالدفاع عنها”.
مواقف عابرة للاستهلاك اليومي
لم تكن هذه المواقف إلا مجرّد كلمات عابرة ألقاها العثماني على مسمع أنصاره حتى يثير حماستهم ويثبت دعمه الصوري للقضية الفلسطينية ورفضه التطبيع مع الكيان الصهيوني، فعند أول دقة فتح باب التطبيع على مصراعيه.
انتهى زمن الكلام، وجاء زمن الامتحان فسقط رئيس الحكومة المغربية دون مقاومة، فبعد هذه الخطب الحماسية، جلس العثماني خانعا ذليلا ليوقع على صفقة التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي التي تم التوصل إليها بوساطة من إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب.
لم يكتف سعد الدين العثماني، الذي يترأس الحكومة منذ 2017، على التوقيع على “الإعلان المشترك” بين كل من المغرب والكيان الصهيوني والولايات المتحدة، بل ذهب إلى حد تبرير التطبيع بعد أن وصفه بـ”القرار الصعب”.
برر العثماني “فعله المشؤوم” برغبته في عدم ترك الفرصة لمن وصفهم بـ”خصوم الوطن” بنقل معركة استكمال وحدة المغرب الترابية في إشارة إلى الصحراء الغربية إلى صراع وتنابز داخل الوطن الواحد”، فعنده الصحراء أهم من فلسطين.
بنكيران يبرر
الغريب أن التبرير لم يأت من العثماني فقط، بل من سلفه في رئاسة الحكومة عبد الإله بنكيران الذي رفض مطالب بإقالة سعد الدين العثماني من منصبي رئيس الحكومة وأمين عام الحزب، غداة توقيعه “إعلانا مشتركا” مع “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية.
التطبيع مع الإسرائيليين، كشف حقيقة بنكيران أيضا، حيث قال رئيس الحكومة السابق: “العدالة والتنمية المغربي لا يمكن أن يخذل بلده بخصوص قراراته الأخيرة حيال الصحراء واستئناف العلاقات مع إسرائيل”.
قال بنكيران إن الملكية تساهم في استقرار المغرب، مضيفا: “نحن مع العاهل المغربي محمد السادس في كل الأمور، والرجل الثاني للدولة (العثماني) لا يخرج عن الرجل الأول للدولة (الملك)”، واستدرك: “من حقنا ألا يعجبنا الأمر، ولكن لا يمكننا أن نقول كلاما يعني خذلان الدولة في لحظة حرجة”.
وجد بنكيران نفسه أمام “مفترق طرق”، مسلك أول يتمسك فيه بمبادئه التي عبرّ عنها مرارا وتكرارا “لفظا فقط” مهما كلّفه الأمر، وأخر يُفضي إلى تغيير في مبادئه ويعني قبوله بالتطبيع، فاختار الأقل ضررا واختار الانسياق في ركاب رؤية الملك كأنها قرأن منزل لا يمكن نقده أو رفضه.
بنكيران الذي يتمتع حاليا بقرابة 8 ألاف دولار شهريا بعنوان أجرة تقاعد دون وجه حق، ليس له أن يتخلى عن هذا الامتياز وهو الذي لم يعد يملك أي تأثير ولا حظوة سوى تلك الخرجات على مواقع التواصل الاجتماعي من حين إلى آخر.
العض على السلطة بالنواجذ
يبرر العثماني الذي يقود جناح البرغماتيين في الحزب وبنكيران الذي عُرف بالاعتماد على المزايدة السياسية تجاه خصومه، كل شيء ويدعي الإثنان المظلومية حتى داخل الحزب نفسه، القاسم المشترك بينهما هو العض على السلطة بالنواجذ.
العدالة والتنمية مستعد للقيام بأي شيء من أجل البقاء فقط في الحكومة، حيث قدّم عديد التنازلات ليس فقط في المسائل الإستراتيجية المتعلقة بالسيادة بل أيضا في المواضيع الداخلية كالصحة والتعليم والتشغيل، عكس ما كان عليه الوضع زمن كان الحزب في المعارضة.
قيادات الصف الأول للعدالة والتنمية غير مستعدين لتخلي عن مصالح وامتيازات راكموها عبر سنوات، حتى ولو كان لبعض الوقت، فهم يبررون ذلك بالتوفيق بين منطق الدولة ومنطق الدعوة من خلال خطة تبادل الأدوار تسمح لهم بربح الكثير من مراكز التفاوض مع العديد من الفاعلين.
يحاول العثماني وبنكيران ومن ورائهما حزب العدالة والتنمية أن يتعاملا بروح براغماتية ما بين معادلة البقاء في السلطة والمحافظة على الكتلة الانتخابية للحزب الأول في المملكة المغربية، لذلك قرّروا التطبيع حتى يحافظوا على رأس حكومة البلاد في وقت انتهت فيه تجارب الإسلام السياسي نهاية مأساوية في أكثر من بلد عربي.
إضافة إلى ضمان الاستفادة من “نعم” الملك عليهم، وها هم يروجون الآن لمبررات له حتى يحافظ على أنصارهم استعدادا للانتخابات المحلية والبرلمانية القادمة.
لم يعد الحزب سيّد نفسه وصاحب القرار داخل بيته، بل أصبح يشتغل داخل منظومة النظام لا إرادة سياسية له ولا قرار
اتفاق التطبيع أكد لنا أن كل جهد حزب “العدالة والتنمية” ورئيسه الذي هو في نفس الوقت رئيس الحكومة هو البقاء في السلطة وكسب ثقة القصر ورضا ساكنه، مهما كلّفهم الأمر، وهو نفس السيناريو الذي تم اعتماده في تجربة المعارضة اليسارية السابقة، عندما قدم زعيمها آنذاك عبد الرحمن اليوسفي نيل ثقة القصر على ثقة الشعب فكانت النتيجة هي المصير المأساوي الذي آل إليه حزبه اليوم.
الملك قرّر أن يطبع وما على رئيس الحكومة إلا أن يطيع دون سؤال، فهو مجرّد موظف عنده لا قرار له. نتذكر أنه في سنة 2015 صادق بنكيران على اتفاقية سيداو المتناقضة مع قيم الشريعة الإسلامية وطلب من نواب حزبه الإسلامي في البرلمان أن يصادقوا عليها رغم تحفظهم على محتواها.
اخطبوط المخزن يلمّ العدالة والتنمية
أصبح حزب العدالة والتنمية، الذي يقيم جزء كبير من أطروحته السياسية على رفض التطبيع وسبق أن قدّم فريقه البرلماني مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، أول حزب إسلامي في المنطقة يتخذ تلك الخطوة وهو في الحكومة، بعد أن التفّ حوله اخطبوط المخزن وتمكّن منه.
كان شعار العدالة والتنمية في بداية دخوله العمل صلب مؤسسات النظام الحاكم “الإصلاح من الداخل” واعداً الشعب بإصلاح النظام وإسقاط الفساد، لكن فور نجاحهم في الانتخابات، تلاشت كل الوعود، فأصبح الحزب أداة في يد القصر يحركها كيفما شاء.
لم يعد الحزب سيّد نفسه وصاحب القرار داخل بيته، بل أصبح يشتغل داخل منظومة النظام لا إرادة سياسية له ولا قرار، كما حصل سابقا مع حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، فبعد عقود من الشد والجذب مع الملكية، رضخا في النهاية لإرادة القصر وشاركا في الحكومات فتحولا إلى كائنات سياسية ضعيفة وأصبحت الملكية أقوى من ذي قبل.
يسير حزب “العدالة والتنمية” اليوم، على نفس خطى أحزاب سابقة حاولت الإصلاح من الداخل فلمّها اخطبوط النظام، فبعد قبوله المشاركة في حكومة شكلية بدون سلطات حقيقية، ها هو الأن يبرّر سياسات خاطئة اتخذها الملك، سيكون وحده ضحيتها.